في فراق فاطمة عليها السّلام
- نشر في
-
- مؤلف:
- نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
- المصدر:
- نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
حقيقة.. بعد بصيرة
لا شكّ ـ أيّها الإخوة الأعزّة ـ أنّ درجة « الأوّليّة » هي للشخص الأوّل في الوجود، وهو النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله؛ فهو الأوّل في كلّ درجات وجوده، ومَحالٌ أن يُعطيَ اللهُ هذه الدرجة لغيره. وهنا، كيف يصحّ قولُه صلّى الله عليه وآله: « أوّلُ مَن يدخلُ الجنّةَ فاطمة بنت محمّد » ؟ نعم، يصحّ ذلك إذا تعمّقنا في دراية الحديث، ولم نكن كالرواة الذين يروون الحديثَ ولا يَفْقهونه!
إنّ فاطمة وأباها صلّى الله عليهما.. هما جوهرٌ واحد، ونور واحد، ودخولها الجنّةَ يعني دخولَ النبيّ الجنّة، فهي سلام الله عليها كالشخص الأوّل صلّى الله عليه وآله في الوجود: خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً، وسيرةً وعلماً وعملاً. كيف ؟! ألم يَرْوَ عن عائشة أنّها قالت: فأقبلت فاطمة تمشي.. لا واللهِ ما تَخفى مِشيتُها عن مشية رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلمّا رآها رحّب بها وقال: مرحباً بابنتي، ثمّ أجلسها عن يمينه(1).
وعن عائشة أيضاً: ما رأيت أحداً كان أصدقَ لهجةً من فاطمة، إلاّ أن يكونَ الذي وَلَدَها ـ أي رسول الله صلّى الله عليه وآله(2).
ألم يُرْوَ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: « فاطمةُ بضعةٌ منّي؛ فمَن أغضبها أغضبني »(3)! فما المانع أن يُعطي اللهُ ورسوله هذا المقام لفاطمة الزهراء ـ وهي بضعة سيّد الأنبياء والمرسلين ـ فيكون افتتاح جنّة الخلد بدخولها إليها ؟!
من الكرامات الفاطميّة
• كتب ابن عساكر في ( تاريخ دمشق 334:13 )، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: تُحشَر ابنتي فاطمة وعليها حُلّة الكرامة، قد عُجِنت بماء الحَيَوان ( أي ماء الحياة )، فينظر الخلائق إليها فيتعجّبون منها، وتُكسى أيضاً ألفَ حُلّةٍ من حُلل الجنّة، مكتوبٌ على كلّ حُلّةٍ منها بخطٍّ أخضر: أدخِلوا ابنةَ نبيّي الجنّةَ على أحسن صورة، وأحسنِ الكرامة، وأحسنِ المنظر، فتُزَفّ كما تُزَفّ العروس، وتُتوَّج بتاج العِزّ، ويكون معها سبعون ألفَ جارية(4).
فما هي حُلّة الكرامة، وما معنى أنّها معجونة بماء الحياة ؟! هذا بحث عميق له مكانه، ولكنّ محورنا هنا أن نقف عند هذه العبارة القدسيّة: أدخِلوا ابنةَ نبيّي الجنةَ على أحسن صورة.
إنّ نظام العدل في الوجود ـ أيّها الإخوة الأكارم ـ يقضي ألاّ تُعطى أحسنُ صورة لإنسان، إلاّ إذا كان عملُه أحسنَ عملٍ لله تعالى، فلابدّ أن يكون في الكمال العلميّ أحسنَ العلماء، وفي الكمال العمليّ والعباديّ أحسنَ العاملين العابدين المتخلّقين بأسمى الفضائل؛ فإنّ دقة السنّة الإلهيّة تقول: فمَن يَعملْ مثقالَ ذرّةٍ خيراً يَرَه (5).
وفي يوم القيامة.. ذلك اليوم العظيم، والمشهد العظيم، لا يمكن أن يكون الإنسان الذي يضع قدمه مكانَ قدم سيّد المرسَلين صلّى الله عليه وآله ويدخل الجنّةَ أوّلاً، إلاّ أنساناً فريداً؛ فالأمور عند الله تعالى تخضع لموازين حكيمة وعادلة ودقيقة.
لابدّ من التفكير في مثل هذه الحقائق التي رواها الجميع وتسالم عليها الكلّ، ووثّقوها وصحّحوها، في أمثال الأحاديث النبويّة الشريفة في شأن الصدّيقة الزهراء عليها السّلام، وفي أمثال السلوك الطاهر المعصوم من رسول الله صلّى الله عليه وآله مع ابنته وبضعته فاطمة سلام الله عليها.. حيث كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يودّع ـ إذا أراد سفراً ـ آخِرَ مَن يودّعه: فاطمة، ويزور ـ بعد عودته ـ أوّلَ مَن يزوره: فاطمة صلوات الله عليها. في الخبر: كان صلّى الله عليه وآله إذا قَدِم من سفر بدأ بالمسجد فصلّى فيه ركعتين، ثمّ يُثنّي بفاطمة، ثمّ يأتي أزواجه. وفي لفظٍ آخر: ثمّ بدأ ببيت فاطمة، ثمّ أتى بيوت نسائه(6).
وكان يشمّها ويقبّلها، ويقول: فاطمة حوراء إنسيّة، فكلّما اشتقتُ إلى رائحة الجنة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة(7).
إنّ هذا السلوك النبويّ ـ فضلاً عن كونه عاطفةً أبويّة ـ له دلالتُه النبويّة على مقامِ الصدّيقة الزهراء عليها السّلام وشأنِها عند الله تعالى، فليس أمراً بسيطاً من سيّد الخَلْق وأقربهم إلى الله تعالى صلّى الله عليه وآله، الذي يقبلّ جبرئيل سيّد الملائكة قدمَيه، أن يُقبلّ صلّى الله عليه وآله ابنتَه فاطمة ويشمّ منها رائحة الجنّة. ثمّ ليس بسيطاً أمرُها عليها السّلام أن تكون أوّلَ شخصٍ يدخل الجنّة.
مَن كفاطمة ؟!
• أخرج العسكريّ في ( المواعظ )، وابن مَردَويه وابن الدلاّل وابن النجّار، عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله على فاطمة وهي تطحن بالرَّحى وعليها كساءٌ مِن وبر الإبل، فلمّا نظر إليها قال: يا فاطمة، تعجّلي فتجرّعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً. فأنزل الله تعالى: ولَسَوفَ يُعطيكَ ربُّك فترضى (8).
• وفي ( نهاية الإرب ) للنويريّ 5:3 / ح 264: ـ فلمّا نظر إليها بكى وقال: يا فاطمة، تجرّعي مرارة الدنيا لنعيم الأبد.
لقد رأى المصطفى صلّى الله عليه وآله حالتها، رأى ابنتَه التي أمضت ليلها في محراب عبادتها ولم تكد تنام، وفي الصباح بدأت بعملها، وتلك حالتها.. تطحنُ بالرَّحى وعليها كساء من وبر الإبل، وقد مجلت يداها واغبرّت ثيابها ـ كما في بعض الأخبار، فانكسر لها قلب أبيها صلّى الله عليه وآله، ودمعت عيناه. وانكسار قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله ليس أمراً عاديّاً، فعندما تجري دموع حبيب الله صلّى الله عليه وآله فإنّ دموع باطن الوجود تجري!
لقد بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال لابنته الحبيبة الوحيدة: اصبري على مرارة الدنيا. وإذا استقرأنا مِثْلَ هذه الأخبار ـ أيّها الإخوة الأعزّة ـ وجدنا الزهراء فاطمة صلوات ربّنا عليها ملحمةً في العبوديّة لله جلّ وعلا، وملحمةً في الصبر على الشدائد والنوائب في الدنيا، حتّى كسرت قلب أبيها، وأبكى حالُها عينَيه الشريفتين، فأمر الباري جلّ وعلا أن يَنزِل جبرئيلُ عليه السّلام إليه شاكراً واعداً: ولَسَوفَ يُعطيك ربُّك فترضى .
إذن.. لماذا « فَدَك » ؟!
عُرف أهل البيت النبويّ صلوات الله عليهم بالزهد والعزوف عن أطماع الدنيا، كما عُرِفوا بالسخاء والكرم والعطاء. إذن، لماذا طالبت فاطمة عليها السّلام بحقّها في أرض فدك بعد أن غُصِبت منها ؟!
جاءت فاطمة الزهراء عليها السّلام تعترض على منع القوم حقَّها من فدك. وقد نحلها النبيّ صلّى الله عليه وآله إيّاها؛ ائتماراً بما جاء من أمر الله تعالى، وبقيت في يديها ستَّ سنين في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله. إلاّ أنّها عليها السّلام رُدّت ولم تُصدَّق دعواها في حقِّها من فدك، مع أنّ القوم سمعوا أن عائشة قالت بصريح العبارة: ما رأيتُ أحداً كانَ أصدقَ لهجةً من فاطمة، إلاّ أن يكون الذي وَلَدها )!
الكلّ يعرف مَن هي فاطمة صلَواتُ الله عليها، في إيمانها وتقواها، في علمها وأخلاقها، وفي منزلتها ومقامها، وفي زهدها وإبائها.. والكلّ يعلم أنّ الله تعلى خاطب رسوله صلّى الله عليه وآله قائلاً له: فآتِ ذا القُربى حقَّه.. (9)، فدعا النبيُّ صلّى الله عليه وآله فاطمةَ فأعطاها فدكاً، وبقيت في يدها حتّى صُودِرت منها ـ بلا حقّ!(10)
إنّ مطالبة الزهراء عليها السّلام لم تكن من أجل فدك بذاتها كأرضٍ أو بستان، فهذه حياتها صلوات الله عليها غايةٌ في البساطة والتواضع والزهد، عاشتْها وهي شاكرة لبارئها راضية بقسمته، وقد اختارت أن تتجرّع مرارات الدنيا لحلاوة الآخرة، ولحلاوة مرضاة الله جلّت عظمته.. وهي تعلم أنّها أسرع أهل بيتها لحوقاً بأبيها المصطفى صلّى الله عليه وآله، فليس بينها وبينه إلاّ أيّام قلائل تطويها في الحزن المقدّس على ذلك الأب الطيّب الرحيم الذي فقدَتْه، فأيّة قيمةٍ لفدك عندها ؟! وهي التي وهبت المساكينَ ما تملكه، بل وأنفقت عن خصاصة ومجاعة، حتّى قلّدها الله تعالى وساماً في آياتٍ كريمةٍ تُتلى آناءَ اللّيل وأطراف النهار إلى مدى الدهر، حيث أثنى عليها وعلى أهل بيتها بقوله عزّ مِن قائل: ويُطعِمون الطعامَ على حبِّهِ مِسكيناً ويتيماً وأسيرا * إنّما نُطعمُكم لوجهِ اللهِ لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكُورا.. (11) وقد صامت مع زوجها عليٍّ أمير المؤمنين عليه السّلام وابنَيها الحسن والحسين عليهما السّلام، ثلاثة أيّام لا يُفطرون إلاّ على الماء، ولا يتناولون في سَحَرهم إلاّ الماء!
مِثْل هذه المرأة السامية، لا يُتصَوَّر في حقّها أنّ آمالها تتعلّق بقطعة أرض، أو أنّ لها عُلقةً بشيءٍ من الدنيا، حاشاها وألف حاشاها. إنّما كانت مطالبتها بفدك؛ إيقاظاً للأمّة، ولتُثبت أنّ هنالك من يغتصب الحقّ أو يُنكره، ولو كان ذلك الحقُّ بيّناً وقد ثبّتتْه آيات قرآنيّة، وبيّنته روايات وأحاديث نبويّة!! إذن، فحقوق الأمّة في خطر، بل حقوق الإسلام في خطر!
تلك هي غُصّة فاطمة الزهراء عليها السّلام، عاشت في صدرها حزناً كئيباً، وحُرقةً باكية، فاعتصرتها إذْ رأت أن سيكون إبطالٌ للهدفِ من بعثة الأنبياء عليهم السّلام.
الوداع المرير
وتدنو المنيّة من السيّدة الزهراء عليها السّلام، وتحضرها حالة الوفاة، فتستدعي زوجها عليّاً أمير المؤمنين عليه السّلام لتوصيه.. قائلة له: يا ابن العمّ، ما أراني إلاّ لما بي. وأنا أُوصيك أن تتزوّج بنت أختي زينب؛ تكون لولْدي مِثْلي، وتتّخذَ لي نعشاً؛ فإنّي رأيتُ الملائكة يصفونه لي. وأن لا يشهدَ أحدٌ من أعداء الله جَنازتي ولا دفني ولا الصلاة علَيّ!
قال ابن عبّاس: فقُبِضت فاطمة من يومها، فارتُجّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودُهِش الناس كيومِ قُبض فيه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله.. فلمّا كان اللّيل، دعا الإمامُ عليّ عليه السّلام: العبّاسَ بن عبدالمطّلب، والفضل، والمِقداد، وسلمان، وأبا ذرّ، وعمّاراً، فصَلّوا عليها وشيّعوها سرّاً ودفنوها في جوف الليل؛ ليبقى السؤال مطروحاً: لماذا أوصت الزهراء عليها السّلام أن تُدفنَ سرّاً لا جَهْراً، وليلاً لا نهاراً ؟!
ولأيِّ الأمـورِ تُـدفَـن ليـلاً بضعةُ المصطفى ويُعفى ثَراها
بنتُ مَن، أُمّ مَن، حليلةُ مَن ؟! ويلٌ لمَن سَنّ ظُلمَها وأذاهـا!
1 ـ صحيح البخاريّ 141:7.
2 ـ حلية الأولياء، لأبي نعيم الإصبهاني 42:2. الاستيعاب، لابن عبدالبَرّ 751:2. ذخائر العقبى، للمحبّ الطبريّ 44. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيتميّ 201:9 ـ قال: رجاله رجال الصحيح.
3 ـ صحيح البخاريّ 210:4.
4 ـ رواه الطبريّ في ( دلائل الإمامة 155 )، والخوارزميّ في ( مقتل الحسين عليه السّلام 52:1 ).. وغيرهما، ورواه الشيخ الصدوق في ( عيون أخبار الرضا عليه السّلام 30:2 / ح 38 ).
5 ـ سورة الزلزلة:7.
6 ـ فتح الباري، لابن حجر العسقلانيّ 89:8. المعجم الكبير، للطبرانيّ 22/ ح 225.
7 ـ أمالي الصدوق 546.
8 ـ سورة الضحى:5.
9 ـ سورة الروم:38.
10 ـ يراجع: شواهد التنزيل، للحسكانيّ 441:1 / ح 472 ، 473. مجمع الزوائد 49:7. ميزان الاعتدال، للذهبيّ 228:2. كنز العمّال، للمتّقي الهنديّ 158:2. النصّ والاجتهاد، للسيّد شرف الدين الموسويّ 110 ـ المسألة 8.
11 ـ سورة الإنسان: 8 ـ 9.