شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

الأدب النبوي

0 المشاركات 00.0 / 5

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

الأدب النبوي

موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية

ألمح القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وهذا الإلماح ينسحب ليس على النصّ القرآني، بل على‌ السنّة النبوية في مختلف مظاهرها، ومنها تصريحه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العرب … والفصاحة هنا - كما هي وجهة نظر علماء البلاغة الموروثين في صف كبير منهم - هي البلاغة، أي مترادفة، وليست مقصورة على الكلمة من جانب ولا على البعد الصوتي من جانب آخر، بل تتجاوزه إلى البعد الإدراكي في مختلف أنماطه الجمالية… وفي تصورنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندنا يقرر بأنّه (أفصح العرب) لا (ابلغهم) مع ملاحظة أنّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) لا يستخدم العبارة كاستخدامنا - نحن العاديين من البشر- بلى يجيء الاستخدام معصوماً من الخطأ أو الخلل الفني أيضاً، ولذلك نحتمل مقدّماً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقصد من العبارة المذكورة ما يتناول الجانب الصوتي والدلالي والكلام، ‌فيصف ذاته (صلى الله عليه وآله) بأنّه أفصح العربي...

وإذا أدركنا هذه الحقيقة، فلنا - حينئذ- أن نستخلص مدى (أدبية) النصوص الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مما تعني أنّ فصاحته التي يتفرد بها مماثلة للمعرفة اللدنية التي ألهمها الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كانت المعايير البشرية في ميدان الفصاحة والبلاغة تقترن بمدى التجربة التي يمارسها الفرد، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يظلّ على صلة وثقى بها من جانب، كما يظلّ بمنأى عن هذه المعايير من جانب آخر، أي ما تفرضه المعايير الاجتماعية التي تصاحبها الحذلقة والزخرف والتخيل الموهوم والفضول: في الأدب البشري العادي.

من هنا نجد أنّ المأثور من كلامه (صلى الله عليه وآله) يجمع بين ما هو (عام) من اللغة التوصيلية وبين ما هو (خاص) من اللغة الموشحة بعناصر صورية أو إيقاعية، علماً أنّ العنصر (اللفظي) يراعى من خلاله أحكام العبارة وانتخابها وإخضاعها لمتطلبات التقديم والحذف، والاختزال وأدوات الوصل والاعتراض، والتعقيب والتأكيد، هذه المستويات اللفظية والتركيبية تلعب دوراً كبيراً في جعل العبارة (فنية) الطابع: دون أن ينحصر الفنّ أو الفصاحة أو البلاغة في قيمها الصورية والإيقاعية، وحتى (العنصر الإيقاعي) فإنّ انتخاب العبارة من حيث جرسها وموقعها من مجموع النصّ ومن حيث طولها أو قصرها: أولئك جميعاً تشكل عنصراً (إيقاعياً) له أهميته دون أن ينحصر الإيقاع في الوحدات الصوتية المنتظمة من قافية أو سجع أو وزن أو توازن بين الجمل،.. بل حتى العنصر (الصوري) لا ينحصر في رصد العلاقة بين ظاهرتين واستخلاص صورة رمزية أو استعارية‌ أو تشبيهية منها، بل أنّ رصد ما هو (واقع) فعلاً مثل صورة جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب على الوجوه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حديثنا عن الصورة القرآنية الكريمة يظل موسوماً بنفس الأهمية التي تنطوي عليها الصورة المركبة، طالما يظل السياق هو الذي يحدد قيمة الصورة وما ينبغي أن تكون عليه من طابع مباشر أو غير مباشر...

وفي ضوء هذه الحقائق، نتقدم إلى عرض سريع للنصوص النبوية الكريمة التي تعدّ مادّة أدبية لها قيمتها الكبيرة فنياً ومضمونياً بحيث أصبحت - في الوقت ذاته- مصدراً ثانوياً للاقتباس والتضمين الأدبي بعد القرآن الكريم، حيث يبرز الأدب الجديد متأثراً بهذين المصدرين (القرآن والسنة النبوية) مضافاً إلى بروز العصور الأدبية اللاحقة التي تضيف إلى ذلك مصادر أخرى - وفي مقدمتها أدب الإمام علي (عليه السلام) بخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) بعامة - كما سنرى ذلك لاحقاً.

المهم، أن نبدأ الآن بما هو مأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فنقول:

يمكن الذهاب إلى أنّ (الأحاديث) المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحتلّ المساحة العظمى من ذلك، تليها (الرسائل) التي وجهها إلى رؤساء الدول والإمارات، وولاته وسواهم، ثُمّ الخطب والوصايا. والسرّ في ذلك، أنّ (الأحاديث) هي التي تضطلع - في الغالب- بتوصيل المبادئ الإسلامية إلى الآخرين، وأمّا الخطب - فبالرغم من أنّها تتضمن كثيراً من مادّة (حديثية) أيضاً، إلاّ أنّ اقترانها بوجود (المناسبات) يجعلها أقلّ حجماً من الأحاديث دون أدنى شكّ، وكذلك الرسائل نظراً لانحصارها بدءً - في رسائل سياسية فرضتها حقبة معينة من تأريخ الإسلام، وانحصارها - استمرارياً- في كتبه إلى الولاة الذين يتحدد عددهم دون أدنى شكّ والأمر نفسه بالنسبة إلى وصاياه (صلى الله عليه وآله) حيث تنحصر في عدد محدود وأمّا الأشكال الأدبية الأخرى فلم يتوفر عليها (صلى الله عليه وآله) وفي مقدمتها الشعر حيث أنّ الشعر (في حدّ ذاته) تعبير عاطفي عن الحقائق وهو أمر يتنافى مع شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى، مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم نزّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، بل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه في بعض أحاديثه أشار إلى قضية الشعر وبغضه لهذا الفنّ إلى درجة أنّه قرنه ببغض الأوثان أيضاً حيث قال (صلى الله عليه وآله): (لما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر).

أمّا ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): من (الرجز) في بعض المعارك: فلعله من متطلبات المناخ العسكري الذي يتطلب تأجيج العواطف لحمل الآخرين على مواصلة الجهاد في سوح المعركة... كما أنّ مباركته (صلى الله عليه وآله) لبعض الشعراء أو تثمينه للشعر في بعض الأحاديث فيقابلها ما ورد عنه من أحاديث تضادّ ذلك مثل (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير من أن يمتلئ شعراً)،  حيث يمكن أن يستخلص مؤرّخ الأدب من خلال جمعه بين هذه الأحاديث بأنّ الشعر بعامة موسوم بالكراهة إلاّ في سياقات خاصة يتطلبها الموقف، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشعر يحتلّ أهمية ضخمة عند العرب آنذاك، وحينئذ فإنّ استخدامه وسيلة إعلامية: يظلّ أمراً طبيعياً تفرضه طبيعة التركيبة الاجتماعية، ولذلك طلب من الشعراء أن يهجوا المشركين مثلاً، وأمّا عدا ذلك فيظلّ الشعر كما صرّح (صلى الله عليه وآله) بذلك وكما هي طبيعته التي تعتمد الانفعال الحاد في التعبير عن الحقائق - أمراً غير مرغوب فيه: بخاصة في مقام النبوة والإمامة، بل في مطلق المقامات لذلك لا يمكن الذهاب إلى أنّ ذمّ الشعر ينحصر في ما هو سلبي منه، لأنّه لو كان كذلك لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول الشعر- كما يقول النثر، فكما أنّه استخدم الخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمحاورة وغيرها أدوات لتوصيل رسالة الإسلام، كان بمقدوره أن يستخدم الشعر أيضاً... لكن بما أنّه لم يستخدم هذا السلاح حينئذ نستخلص بكونه غير مرغوب فيه للأسباب العاطفية التي تقترن به. يضاف إلى ذلك: أنّ ما ورد من النهي عن إنشاد الشعر في المسجد أو الأوقات الخاصة، لا يمكن حمله على ما هو سلبي من الشعر، لأنّ الشعر السلبي منهي عنه في الحالات جميعاً سواء أكان في المسجد أم في غيره كما هو واضح.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية