في رحاب العدالة العلويّة (5)

في رحاب العدالة العلويّة (5)

رابعاً: مطابقة القول للعمل
وبالعكس، فإنّ مِن المذموم في المرء أن يقول عدلاً ثمّ يُخالفه إلى غيره، فيَثق الناسُ بكلامه ويعتمدون عليه ويُعوِّلون، ثمّ يصطدمون بما لم يتوقّعوه! وإذا كان من الحكّام ما كان، فإنّ الناس لم يعرفوا من أمير المؤمنين عليه السلام إلاّ ما جاء في خطاب الزائر بالزيارة الجامعة الكبيرة الواردة عن الإمام الهادي عليه السلام:
« كلامُكُم نُور، وأمرُكُم رُشْد، ووصيّتُكمُ التقوى، وفِعلُكُمُ الخير، وعادتُكمُ الإحسان، وسَجيّتُكمُ الكَرَم، وشأنُكمُ الحقُّ والصِّدْقُ والرِّفْق، وقولُكُم حُكْمٌ وحَتْم، ورأيُكُم عِلمٌ وحِلْمٌ وحَزْم » ( مَن لا يحضره الفقيه 616:2 / ح 3213 ).
وهذا ما كان عُهِد في حُكم أمير المؤمنين عليه السلام عَمَلاً وواقعاً وحقيقةً وتطبيقاً، فتجسّد في ضمير الناس قوله سلامُ اللهِ عليه: « وأيْمُ اللهِ لأُنْصِفَنَّ المظلومَ مِن ظالِمه، ولأقُودَنّ الظالمَ بِخِزامتِه، حتّى أُورِدَه مَنهَلَ الحقِّ وإن كان كارهاً! » ( الخطبة 136 من نهج البلاغة، والخِزامة: حلقة الزمام ).
قالها أمير المؤمنين سلام الله عليه كلمةً وحقّقها في كلّ موقف وقضاء، فَعُرِف بذلك حاكماً صادقاً، فَعُدّ من أحبِّ عباد الله إلى الله تبارك وتعالى.. وهو القائل: « إنّ مِن أحبِّ عبادِ الله إليه عبداً أعانه اللهُ على نفسه... قد ألزَمَ نفسَه العدل، فكان أوّلَ عدلهِ نَفْيُ الهوى عن نفسه، يَصِف الحقَّ ويعمل به » ( الخطبة 87 من نهج البلاغة ).
ومَن كعليٍّ صلَواتُ الله عليه ثبَتَ على الحقّ ـ غيرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وابتعد عن الهوى، وقال عدلاً ولم يُخالفْه إلى غيره ؟! فالتاريخ أمامَ تَحَدٍّ كبير أن يكون أحدٌ ظُلِم في حكومة الإمام عليِّ بن أبي طالبٍ عليه السلام، أو طُولِب بحقٍّ فأُهمِل، أو عاش المظلومُ مظلوماً ولم يُنصَف وكان ذلك في المستطاع.
لقد كان في مقدّمات مهمّات أمير المؤمنين عليه السلام أن يُقيم العدالة الاجتماعيّة في دنيا الناس تجسيداً واقعيّاً، وأن يمنح المنهج الإسلاميّ فرصة البناء والتغيير، ومصداقيّةَ التطبيق المُضْفي على البشريّة كلَّ خيرٍ وعدالةٍ وفضيلةٍ وسعادة.. فاسترجع الأموال التي كانت تُبذَل باطلاً على بني أُميّة مِن بيت مال المسلمين، واستغنى عن كثيرٍ من الولاة الذين أساؤوا التصرّفَ وغَشُّوا المسلمين، وبادَرَ عليه السلام إلى تبنّي سياسة المساواة الحقّة في توزيع الأموال والحقول، وحَدّد مواصفات وُلاة الأمر وموظّفي الدولة وعُمّالها الذين يرشّحهم الإسلام بضوابطه الشرعيّة والأخلاقيّة لإدارة شؤون الأُمّة الإسلاميّة، وألغى كلَّ أشكال التمييز القَبليّ والعشائريّ والعائليّ في توزيع العطاء على الناس، وهيّأ جهازاً مثاليّاً من الولاة أهلِ العفّة والتقوى والحزم: كمالك الأشتر، ومحمّد بن أبي بكر، وعثمان بن حَنيف.
وإلى ذلك، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام راقب الأسواق، مانعاً من التطفيف والغَشّ والاحتكار والتلاعبِ بالأسعار، وكان حريصاً أشدَّ الحرص على حِفظ بيت المال من السرقة أو التبذير، حتّى رُوي أنّه لمّا دخَلَ عليه عمرُو بن العاص ليلةً وهو عليه السلام في بيت المال ينظر في حساب المسلمين ودواوين العطاء، أطفأ السراج عند الحديث واستفاد من ضوء القمر، ولم يستحلَّ لنفسه أن ينتفع من ضياء السراج؛ لأنّه كان اشترى زيتَه من بيت المال!
 

وشهد القريب والبعيد
كان هذا شيئاً من السيرة العادلة لأمير المؤمنين عليه السلام، وقد استعذبها الناس، وعاشوا في ظلّها مطمئنّين يشعرون بكرامتهم وبالأمان الذي وفّره الإمام عليهم.. فلا عَجَب بعد ذلك أن تَتحدّى سَودةُ بنت عُمارة الهَمْدانيّة الحاكمَ الغاصب معاويةَ بن أبي سفيان حين دخَلَت عليه بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، فجَعَل معاوية يُؤنّبها على تحريضها عليه أيّامَ صفّين، ثمّ سألها: ما حاجتُكِ ؟ فقالت له تُوبّخه: إنّ الله تعالى مُسائِلُك عن أمرنا، وما افترضَ عليك مِن حقِّنا، ولا يَزال يتقدّم علينا مِن قِبلِك مَن يسمو بمكانك، ويبطش بقوّةِ سلطانك، فيحصدنا حصدَ السنبل، ويَدوسنا دَوسَ الحرمل، يَسومُنا الخَسْف، ويُذيقنا الحَتْف. هذا بِسْرُ بنُ أرطأةَ قَدِم علينا، فقتَلَ رجالَنا، وأخَذَ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عِزّةٌ ومَنَعَة، فإنْ عزَلْتَه عنّا شكرناك، وإلاّ كفّرناك!
فقال معاوية: إيّايَ تُهدّدين بقومِكِ يا سَودة ؟! لقد هَمَتُ أن أحملَكِ على قتبٍ أشوسَ فأرُدَّك إليه فيُنفِّذَ فيكِ حُكمَه!
فأطرَقَت سودةُ ساعةً ثمّ قالت:

صَلَّى الإلهُ على رُوحٍ تَضَمَّنَها

 

قبرٌ، فأصبَحَ فيه العدلُ مَدفُونا

قد حالَفَ الحقَّ لا يَبغي به بَدَلاً

 

فصار بالحقِّ والإيمانِ مَقرونا

فسألها معاوية: مَن هذا يا سَودة ؟!
فأجابته باعتزاز: هوَ ـ واللهِ ـ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب، واللهِ لقد جئتُه في رجلٍ كان وَلاّه صدقاتِنا، فجاز علينا، فصادفتُه قائماً يصلّي، فلمّا رآني انفتَلَ من صلاته ثمّ أقبَلَ علَيَّ برحمةٍ ورِفقٍ ورأفةٍ وتعطُّف، وقال: ألَكِ حاجة ؟ قلت: نعم. فأخبرتُه الخبرَ فبكى، ثمّ قال: « اَللّهمَّ أنتَ الشاهدُ عَلَيَّ وعليهم، وأنّي لم آمُرْهُم بِظُلم خلقِك ».
ثمّ أخرج قطعةَ جلدٍ فكتب فيها:
« بسم الله الرحمن الرحيم: قَدْ جَاءَتْكُم بَيّنةٌ مِن ربِّكُم فأَوفُوا الكَيلَ والمِيزانَ ولا تَبخَسُوا الناسَ أشياءَهم ولا تُفْسِدوا في الأَرضِ بَعدَ إصلاحِها ذلكُم خيرٌ لكُم إنْ كنتُم مؤمنين ، فإذا قرأتَ كتابي هذا فاحتَفِظْ بِما في يدك مِن عملِنا حتّى يَقْدِمَ عليكَ مَن يَقبِضُه منك، والسلام ».
ثمّ دفع الرقعةَ إليّ، فَوَاللهِ ما خَتَمها بطينٍ ولا خَزَنها، فجئتُ بالرقعةِ إلى صاحبه، فانصرف عنّا مَعزولاً!
فلا عجَبَ بعد هذا أن يكتب المثقّف المسيحيّ ( جورج جرداق ) خمسَ مجلّداتٍ في تمجيد أمير المؤمنين عليه السلام تحت عنوان: ( الإمام عليّ رمزُ العدالة الإنسانيّة )، أو أن يكتب الكاتب المسيحيّ الآخر ( روكس بن زائد العزيزيّ ) كتاباً بعنوان: ( الإمام عليّ أسدُ الإسلام وقدّيسه ) فيقول في مقدّمته:
لقد أحببتُ الإمامَ عليّاً كرّم الله وجهَه من اليوم الذي قرأتُ فيه سيرته الخصبة، وحياته النبيلة. وكم كنتُ أوَدّ أن أُسجّل انطباعاتي عنه فأتهيّب، كالذي يريد أن يخوض البحرَ وهو يرى البحرَ للمرّة الأولى في حياته، أو كالذي يحاول أن يُحلّق في الجوّ وهو يجهل الطيران. هذا هو الشعور الذي كان يخامرُني كلّما مددتُ يدي إلى القلم.
كنتُ في الخامسة والعشرين مِن عمري يوم كتبتُ مقالاً عنوانه: قدّيس الإسلام، قرأتُه على صديقٍ لي فقال: هذا شِعر! لكنْ ثِقْ بأنّك لن تُرضيَ النصارى، ولا تُعجِب المسلمين، ستكون مُتَّهَماً على أيّ حال. طويتُ المقال، وها أنا ذا بعدَ أكثر من خمس وثلاثين سنةً أشعر بأنّ سِحر هذه الشخصيّة يجذبني لأكتب، فإذا أكتب شيئاً يستحقّ القراءة فإنّما أكتب بوحيٍ من الإسلام وقدّيسه ).
ولا عَجَبَ أيضاً أن ينظم الشاعر المسيحي بولس سلامة قصائدَ في أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، ويُؤلّف بذلك ديواناً سمّاه ( عيد الغدير )، كانت إحدى تلك القصائد يائيّةً قال فيها:

لا تَقُـلْ شيعـةٌ هُـواةُ عـلـيٍّ

 

إنّ فـي كـلِّ منصِـفٍ شيعيّـا

هو فَخرُ التاريخِ لا فخرَ شعـبٍ

 

يَدّعيـهِ.. ويصطفـيـهِ ولـيّـا

ذِكرُه إن عرى وجـومَ الليالـي

 

شَقّ مِن فِلقـةِ الصبـاحِ نَجِيّـا

يا عليَّ العصـورِ هـذا بيانـي

 

صِغتُ فيه وحيَ الإمـام جَليّـا

يا أميـرَ البيـان هـذا وفائـي

 

أحمِـدُ اللهَ أن خُلِقـتُ وَفـيّـا

يا أميرَ الإسلامِ حَسْبـيَ فَخْـراً

 

أنّنـي منـك مالـئٌ أصغَرَيّـا

جَلْجَلَ الحقُّ في المسيحيِّ حتّى

 

عُـدَّ مِـن فَـرْطِ حُبِّـهِ عَلَويّـا

أنا مَن يعشَق البطولـةَ والإلهـا

 

مَ والعـدلَ والخِـلاقَ الرَّضِيّـا

فـإذا لـم يكـنْ علـيٌّ نبـيّـاً

 

فَلَقَـد كـان خُلْـقُـه نَبَـويّـا

يا سَماءُ آشهدي، ويا أرضُ قُرّي

 

وآخشَعـي أَنّنـي أردتُ عليّـا

وهكذا أخذ حبُّ عليٍّ سلام الله عليه من قلوب الناس مأخذَه، فوقفوا أمامَ شخصه حاضراً ودفيناً وقفةَ إجلالٍ وتكريمٍ وإعظام، بل وقفت الدنيا خاشعةً له؛ لأنّه كان رجلَ الحقّ والعدل..
ولَقَد صَدَقت نبوءة الرسول الأكرم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيه حيث قال: « عليٌّ مَعَ الحقّ، والحقُّ مَعَ عليٍّ يَدورُ مَعَه حيثما دار » ( شرح نهج البلاغة 297:2 )، واستُجيب فيه دعاؤه صلّى الله عليه وآله ـ وكيف لا يُستجاب ؟! ـ حيث قال: « اَللّهمَّ أَدِرِ الحقَّ مَعَه حيثُ دار » ( تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقيّ الشافعيّ 120:3 ).

نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام