مريم بنت عمران عليها السلام
مريم بنت عمران عليها السلام *
كان في بيت المقدس منزل فقير ، عاش أهله على الحزن والتعاسة ، بلا ولد وبلا أنيس ... فقد كانت الزوجة عاقراً ، وطال بها وبزوجها العمر وهما على نفس تلك الحالة من الشقاء والألم بسبب عدم الإنجاب .. ذلك هو بيت عمران الذي كان من سلالة هارون ..
أجل كانت امرأة عمران تعيش حرقة الحرمان بلا ولد ، وكلّما رأتْ أُمّاً مع صغيرها ، أو عصفورة تحنو على فراخها يشتدّ بها الحنين ، وتقع مريضة لعدّة أيّام .. وتنقضي الشهور ، وتمرّ السنون ، والمرأة في ترقّب وعلى الرغم من المخاوف والهواجس التي تكاد تقتلها ، دأبت لمناجاة ربّها والتضرّع له ، كانت تخلو بنفسها ساعات طويلة وهي قائمة في الصلاة والعبادة وقلبها يلهج بالدعاء ؛ ليمنّ الله عليها بمولود يملأ عليها كيانها . وفي ساعة من ساعات المناجاة نذرتْ إنْ رزقها الله بطفل تهبه للعبادة ، وخدمة بيت المقدس سادناً فيه .
وكما يستجيب الله لعباده الصالحين استجاب لدعاء امرأة عمران ، وآتاها سؤالها .. فلم يمضِ شهور حتّى أحسّت بالجنين يتحرّك في أحشائها .. فتبدّل العَبوس بالإشراق ، و الكآبة بالفرح ، وأقبلت على الحياة بنفس راضية وقلب هانئ .
ولكنّ سعادتها لم تدم إذْ مات زوجها فجأة فعادت لسابق عهدها من الحزن ، إلاّ أنّها تغلّبت على حزنها لأنّ أمر الله محتوم ، وبقيت زوجة عمران يعمّر قلبها الإيمان ، حتّى حان موعد الولادة ووضعت حملها .. فإذا هي أُنثى ..
فخاب رجاؤها فليس الذكر كالأنثى في خدمة الهيكل وشؤون العبادة .. وأحسّت بالخجل من ربّها ، فقالتْ : ( رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ... ) ( آل عمران : آية : 36 ) .
فجاءها إلهام داخلي يقول لها : أوفي النذر فلا حرج عليها وإنْ كانت أنثى ..
فامتثلت زوجة عمران وسمّتها مريم .. ثمّ لفّتها برداء ، وأخذتْها لبيت المقدس لتقدّمها للأحبار ، وهي آملة أنْ يهتمّوا بها ، رجعت وحيدة بعد أنْ فقدت زوجها والآنْ ابنتها ، ولكنّ عزاءها أنّها وفّت نذرها أمام الله ، فتقبّل الله ابنتها بقبول حسن ، ولو علمت هذه المرأة أنّ الله اصطفى ابنتها لتكون أمّاً لأحد الأنبياء المصطفين ؛ لَمَا كان للهمّ أنْ يدخل قلبها ولَمَا عرف الحزن وسيلة للسيطرة عليه .
زكريّا يكفل مريم :
وهكذا حلّت الطفلة ضيفة على سدانة بيت المقدس ، وتنازعوا على كفالتها ، وكان زكريّا رئيس الكهنة ، وسيّد الهيكل ، وهو أيضا زوج خالتها ، وأوثقهم صلة بها ، وأكثرهم رغبة في كفالتها ، وحاول إقناعهم إلاّ أنّهم أبوا واتّفقوا على : أنّه مَن تطفوا عصاه المكتوب عليها اسمه في النهر تكون مريم تحت كفالته ، وبإرادة الله طفتْ عصى زكريّا ..
فأشرف زكريا عليها ، وجعل لها غرفة معزولة لها مقام رفيع في الهيكل ؛ حتى لا يزعجه أحد كلّما تفرغ لرعايتها ، ومرّت سنوات وزكريّا ( عليه السلام ) لا يتعب من صعود السلّم ليحمل لمريم الطعام والماء ، ويزوّدها ويرشدها إلى أمور العبادة والطهارة .
الرزق يأتي مريم من عند الله :
وذات مرّة دخل عليها المحراب فوجد عندها رزقاً ، وتأمّل فيها فوجدها فاكهة الصيف ، وهم في فصل الشتاء ، فلم يجد إلاّ الاستغراب فسألها : ( أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( آل عمران : آية : 37 ) .
وكان زكريّا يعرف مدى قوّة إيمان الفتاة ، ويدرك مقدار طهارتها ، فآمن على التو لما قالت ، ولِما خصّها الله من منزله رفيعة ، وبوّأها مكان اصطفاها به على نساء العالمين ..
وترعرعتْ مريم في بيت المقدس فعاشت أيّامها عابدة قانتة ، تأكل من رزق الله الذي يرسله إليها مع ملائكة كرام يوماً بيومٍ .. ورأى زكريّا ذلك بأمّ عينه فيخرج ويخبر الناس بأمرها حتّى شاعت سيرتها ، وصارتْ مضرباً للأمثال في الطهارة والصفاء ونبراساً في التقوى والعبادة .
وبينما كانت مريم غارقة في التأمّلات ، وفي العبادات أحسّت بخلجات تهزّ جسدها واضطراب قويّ يحرّك نفسها ، فتنظر حولها فترى مخلوقاً بشريّاً قائماً بقربها ، فارتاعتْ فقد يكون معتدياً أثيماً ، إلاّ أنّها أمسكتْ بعنان مشاعرها ، ونزعتْ وساوس الشيطان منها ؛ لأنّها التقيّة النقيّة الطاهرة , فتطلّع إليها مدرك ما يخالجها من تساؤلات فقال : ( لا تخافي ولا تحزني) ( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ) ( مريم : آية : 19 ) .
فأجابته : ومَن تكون ؟؟
قال : إنّي جبرائيل الأمين .
كانت مريم قد سمعت عن جبرائيل الأمين فغشيتْها سحابة من الخشوع ، إلاّ أنّها قالتْ : ( ... أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ) ( مريم : آية : 20 ) .
فأجابها : ( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيّاً ) ( مريم : آية : 21 ) .
فتقدّم جبرائيل ( عليه السلام ) يمسح بيديه على رأسها ، ويُتَمْتِم بكلمات غير مسموعة ، ثمّ نفخ في وجهها نفخةً قويّة , واختفى ..
فأخذتْ مريم تتفكّر في جلستها تلك ، وما ستواجهه في الأيّام القادمة أمام الناس ، ودفنتْ سرّها الرهيب في قلبها ، واعتزلتْ الناس وقرّرتْ نقل اعتكافها من بيت المقدس إلى مسقط رأسها في ( الناصرة ) ، حتّى تضع حملها ..
وكان أملها أنْ يستجيب الله لها فلا يظنّ الناس بها سوءاً ، وما كانت أمّها بغيّة ، وهي سائرة على نفس الدرب ، وقد أختارها الله ؛ لتكون عابدة مصطفاة ..
اقتربتْ ساعة الوضع ، وشعرتْ بألم المخاض فانسلّتْ من القرية متوجّهة إلى البريّة ، وهناك أودتْ لجذع نخلة كبيرة تَمْسِكُ بها من أَلَمِ المخاض ، وهي وحيدة فريدة ، لا يد تُشفِق عليها ، ولا قابلة تعالجها ، ولا ترى ما يُخفّف عنها إلاّ قولها : ( ... يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً ) ( مريم : آية : 23 ) .
وحانت الساعة ووضعتْ البتول طفلَها .. ها هي مرتبكة بحالها لا تدري ماذا تفعل بالطفل ، فلا طعام تتغذّى عليه ؛ لترضع طفلها ، ولا ماء يسدّ رمقها ، ولا أنيس يُؤنس وحدتها ، فإذا بصوت يناديها من تحت النخلة : ( ... أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ) ( مريم : آية : 24 ) ، فأصبحت البقعة الجرداء يسري فيها الماء ، والنخلة تنزع منها رطباً شهيّاً .. وفوق ذلك كلّه ، أنّ ذلك الصوت يَبعث للطمأنينة والارتياح ، إنّه صوت جبرائيل ( عليه السلام ) ..
وطلب منها ألاّ تُكلّم الناس ، ولا تردّ عليهم حتّى صبيحة اليوم التالي ، فوقفتْ أمام قومها وأشارت إلى الغلام دون أنْ تنبت بِبِنْتِ شِفَة ، فاستغرب القوم من تصرّفها !! وقالوا : ( ... كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ) ( مريم : آية : 29 ) ؟؟
وجاء الردّ كالصاعقة ولم يكن لسان الأُم الذي أذهل القوم بل هو الغلام .. الوليد ، يحرّك شفتيه ليخاطب مَن كان حاضراً ذلك المشهد المروع ، بإدراك يتسامى فوق كلّ فكر ؛ ليرسم حقيقةَ واقعه ، والغاية من مولده ، وليرفع عن أُمّه تُهمة السفهاء : ( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ) ( مريم : آية : 30 ) .
ـــــــــــــــــــــــ
* منتديات القمر .