شهر النعم والبركات
شهر النعم والبركات
شهر رمضان المبارك هو شهر الله؛ شهر الرحمة البركة والمغفرة؛ شهر يبسط فيه الخالق سبحانه وتعالى مائدة ضيافته الكريمة لعباده، ويفتح ابواب رحمته ومغفرته ليزيد المطيعين منهم ثواباً واجراً، يغفر للمذنبين والعاصين الذين قطعوا على انفسهم عهداً بالتوبة النصوح الخالصة لوجهه الكريم.
انه شهر فضيل دعينا فيه لضيافة الرحمان، وجعلنا به من أهل الكرامة. فطوبى لمن اجاب الدعوة، واحسن الضيافة وآدابها. وهو شهر تتضاعف فيه الاعمال، ويتضاعف معها ثوابها؛ فمن قرأ سورة فيه او حتى آية واحدة كان كمن ختم القرآن كله، ومن اطال فيه سجوده وركوعه خفف الله سبحانه عنه اوزاره، ومن اكثر فيه الصلاة رفعت درجاته.. فقد جعل هذا الشهر عنواناً للمسلم، ومعراجاً للانسان المؤمن.
فكيف يا ترى نستقبلـه، وما معنى الضيافة فيه، وكيف نحسن ادبها لكي نصبح ممن اجاب الدعوة، وصار من أهل الضيافة ؟
ابعاد الضيافة الالهيـة :
للاجابة على هذه التساؤلات نقول : ان للضيافة الالهية ابعاداً مختلفة؛ فهو سبحانه أرحم الراحمين، ومائدته لاتقتصر على لون واحد من الوان الكرامة، بل هي تجل لرحمة الله الواسعة. وتضم كل الوان النعم ابتداءً من النعم المادية، وانتهاءً بآخر الوان النعم الروحية والمعنوية. ولعل الجميع يعلم علم اليقين كيف ان البركات والخيرات تنهمر على الناس كالغيث بمجرد ان يهل شهر رمضان المبارك، وهذا هو لون مادي من الوان المائدة الالهية، وهذه هي البركة الاولى.
نعمة المشاعر الخيـرة :
اما البركة او النعمة الثانية التي تطفح على سطح هذه المائدة الربانية العظيمة، فهي نعمة وبركة العواطف والمشاعر الخيرة التي يتبادلها المسلمون، حيث التعاطف والتراحم والمودة تنتشر فيما بينهم، مما يعزز اواصرهم الاخوية في الايمان. فالمؤمن الغني يحس من اعماق وجدانه بالحنان نحو أخيه الفقير، لان الله سبحانه شاء لهذا الغني بما فرضه عليه من الصوم عن الطعام والشراب، ان يشعر بألم أخيه الفقير الذي يبيت معظم لياليه جائعاً لا يجد ما يسـد به جوعته وجوعة عياله واطفاله. فهو مجبر على الاحساس بألم الجوع كيف يوخز معدته وامعاءه.
والاحباء يزدادون حباً لبعضهم، وكذلك الذين فرقتهم نزعات الشيطان بما بثت في قلوبهم من الاحقاد والبغضاء، لان مائدة هذا الشهر الفضيل تجمعهم على حب الله تبارك اسمه، فتنبذ الاحقاد، وتترك العداوات. ذلك لان النفوس ترتفع عندما تجتمع في رحاب الرحمة الالهية. فكم من العوائل والاقارب الذين فرقتهم توافه هذه الدنيا ومادياتها، جمعتهم رحاب رمضان وموائده الكريمة. ولعل صلة الارحام مستحبة على الدوام، ولكنها تزداد اهمية في شهر الله الفضيل، كما أكد على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبته عند استقبال شهر رمضان قائلاً : وصلوا ارحامكم ([6])، الى درجة ان قطيعة الرحم في هذا الشهر تعد ذنباً عظيماً، والبادئ بالوصل له سبعون أجراً كأجر البادئ بالسلام والتحية.
أهل البيت والمائدة الالهيـة :
اما البركة والنعمة الثالثة التي ننعم بهما على المائدة الرمضانية الكبرى التي دعينا لها، فتتمثلان في ان القائمين بهذه الضيافة الذين يأتوننا بمائدة الله ورحمته هم أهل بيت النبوة والرسالة (عليهم السلام اجمعين). ولذلك ينبغي ان نوجه قلوبنا اليهم، ونزداد حباً لهم، ومعرفة بهم، وتسليماً لهم، وان نهتم باللجوء اليهم. فليس صحيحاً ان ننسى ذكرهم في شهر الله الفضيل.
وكما ورثنا حب أهل البيت من آبائنا واجدادنا، ونشأنا وترعرعنا وتغذينا بهذا الحب، فاختلط بدمنا ولحمنا. فلا بد من ان نؤدي هذه الامانة الى ابنائنا واحفادنا كما أداها لنا الآباء والاجداد. فننشأهم ونغذيهم بهذا الحب، لينقلوه الى الاجيال القادمة.
وعلى خطبائنا الكرام ان يركزوا في موسم التبليغ الرمضاني على قضية أهل البيت (عليهم السلام) بكل ابعادها، وبما يروي شجرة حبهم، ويرسخها في قلوب مواليهم وشيعتهم؛ كأن يتحدثوا عن فضائلهم ومناقبهم ومواقفهم الرسالية، وصبرهم واستقامتهم ومظلوميتهم التأريخية المستمرة الى يومنا هذا. ذلك لان كل مايتوارد علينا من مصائب وكوارث، انما سببه ابتعادنا عن أهل البيت، ومنهجهم وصراطهم السوي.
آثار حب أهل البيت :
ان معرفة الامة لأهل البيت (عليهم السلام) من شأنها ان تخلق لديها الوعي بالحقائق، وتجعلها تختبر المواقف، فتميز الحق عن الباطل، والصالح من الأمور عن طالحها. علماً ان لتربية الناس على حب أهل البيت من قبل خطبائنا، وعلمائنا، ومثقفينا آثار وابعاد عظيمة في حياة الانسان المؤمن الموالي، منها :
1- انها تدفعه الى ان يبحث عن سيرتهم؛ وعلى سبيل المثال، فلو سمع حادثة تعكس منقبة من مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكرها احد الخطباء على المنبر، فانها ستكون دافعاً له الى أن يبحث عن المزيد مما يتعلق بحياة الامام، وسيرته، وفضائله.
2- ان التربية على حب أهل البيت (عليهم السلام) تخلق ذلك الانسان الموالي الذي يهفو قلبه الى المجالس التي تحيي ذكر أهل البيت (عليهم السلام)، فيسعى اليها بروحه وجوارحه، وبكل طمأنينة، ودون اي تكلف، بمجرد ان يرى راية أهل البيت قد نصبت على اعتابها.
ان حب أهل البيت (عليهم السلام) هو الذي يجمع الموالين لهم، ويدفعهم الى ان يشلكوا حلقات يتحدثون فيها عن فضائلهم ومناقبهم وسيرتهم واخلاقهم ومواقفهم البطولية امام الظالمين والجائرين من حكام عصورهم.
3- ان معرفة أهل البيت (عليهم السلام) تجعل المسلمين يفتشون ويبحثون عمن يتأسون بهم، ويقتدون بسيرتهم وسلوكهم، فيتخذونهم قادة يرجعون اليهم في مختلف شؤونهم الحياتية؛ فالذي يعرف الامام علياً (عليه السلام) يفتش عمن يمثل دوره، ويقتدي به في سلوكه واخلاقه، ويعمل على تطبيق منهجه والسير على خطه. وما المراجع العظام، والعلماء الكرام، إلاّ تلامذة للائمة (عليهم السلام)، تخرجوا من مدارسهم على مرّ الدهور.
العلماء ورثة أهل البيت :
وباختصار فان معرفة أهل البيت (عليهم السلام) تجعل الموالين يفتشون عن القيادة الصحيحة التي تسير في نهج أهل البيت (عليهم السلام)، وبالتالي فانها ستؤدي الى تمحور الامة حول قياداتها الدينية ومراجعها الذين صانوا خط أهل البيت ومنهاجهم، وساروا على سيرتهم شريطة ان يكونوا اولئك العلماء الذين حدد الائمة (عليهم السلام) خصائصهم، كما جاء في الحديث المعروف عن الامام الحسن العسكري (عليه السلام) : من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه .([7])
وكما ان الائمة أكدوا على اهمية علماء الامة وفقهائها، وضرورة الرجوع اليهم، كما هو واضح من النص السابق؛ فكذلك الحال بالنسبة الى القرآن الكريم فقد أشار الى منزلة العلماء الرفيعة، ودورهم الكبير في ارشاد الناس وهدايتهم وتعرفهم بدينهم وشرائعهم. ومن ذلك قوله عز من قائل: « فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ » (عبس/13-16). فحياة وسلوك هؤلاء السفرة الكرام، بل وحتى ملامح وجوههم النيرة، تشم منها رائحة أهل البيت (عليهم السلام)، وتجسد الجانب الاعظم من سيرتهم واخلاقهم.
صحيح اننا لم نرى أهل البيت (عليهم السلام)، ولكننا نظرنا الى العلماء، وما يتميزون به من الهيبة، ثم ما نلمسه من سيرتهم وسلوكهم وتعاملهم مع الناس وورعهم وتقواهم... وكل ذلك يشعرنا ان هؤلاء السفراء الكرام، انما هم اشعة من ذلك النور البهي، وومضات من ذلك الضياء الساطع؛ ضياء أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام).
ولقد لمسنا خلال اتصالنا بعلمائنا وفقهائنا ومجتهدينا على مر السنين الطوال، فوجدناهم هم مثالاً لكل خلق سام رفيع، وانموذجاً للورع والتقوى، وقمماً شامخة في العلم والاجتهاد. والحمد لله فان مسيرة تقليد وانتخاب المراجع لم تتأثر او تتوقف في يوم من الايام، فلم يكن هناك فراغ او خلل في مسألة الرجوع والتقليد لدى الشيعة على مر العصور، منذ ان بدأت الغيبة الكبرى ولحد الان، رغم الضغوط وانواع القمع والاضطهاد الذي لاقوه طيلة عهود حكام الجور والظلم الذين ناصبوا العداء، وورثوه ممن سبقهم لأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم وشيعتهم. فلقد استمر هذا النهج الناصع، والخط الاصيل ولم يؤثر على استمراريته، كل ذلك الظلم التاريخي الذي
تعرضنا ومانزال نتعرض له.
وبناء على ذلك، فلا شيء يخشاه الموالي لأهل البيت على نفسه عندما يختار قيادته ومرجعه بمحض ارادته. فما يبعث الشجاعة، ويثير فيه روح المقاومة والصمود امام الظلم النازل به وباخوته، هو الشجاعة والصمود والثبات والاستقامة على الطريق والمنهج لدى هؤلاء القادة والمراجع الذين يختارهم. فبثباتهم واستقامتهم يقاومون الوان الظلم والانحراف، وكل الافكار والمناهج المتسللة الينا، والدخيلة على افكارنا، ومناهجنا الاصيلة، وذلك من خلال بيانهم لاحكام الدين. واذا ما اقتضى الأمر فانهم يحملون السيف في وجه الانظمة الفاسدة لمجاهدة حكام الجور والظلم، وهم مطمئنون الى ان الله سبحانه ناصرهم، ومسدّد خطاهم.
وعلى هذا فان مردود حب أهل البيت (عليهم السلام) لايقتصر على مجرد الحب في القلب وحسب، وانما له آثار مباركة، منها معرفة الدين. فهذه المعرفة هي بركة من بركات حب أهل البيت واتباعهم وموالاتهم.
تحديد الخط السياسي الحـق :
ومن البركات الأخرى لمعرفة اهل البيت (عليهم السلام) والتمسك بهم، بركة تشخيص الخط السياسي الحق والاصيل من خلال سلوكهم مع الحكام، ومنهاج تحركهم. فالموالي لهم لاينحرف عن خطهم المستقيم الى اليمين او الشمال، لان خط أهل البيت خط نقي واضح لايقبل المداهنة والمساومة والعمالة، ولا يعرف الخيانة، ولا يرضى بالدهاء والمكر. وهذا ما نجده متجلياً عند فقهائنا ومراجعنا العظام، سواء حكموا في الأمة أم لم يحكموا. ولذلك نجد هذه المنهجية واضحة على مرّ التاريخ؛ فالحكم والسلطان لم يؤثرا على القيادة الروحية للامة، هذه القيادة التي تميّز بها الأئمة (عليهم السلام) والنائبون عنهم. فهم (عليهم السلام) أئمة قاموا ام قعدوا، وهكذا الحال بالنسبة الى من ينوبون عنهم، فهم قادة سواء حكموا أم لم يحكموا.
وهذه الحقيقة أكدتها الاحاديث الشريفة، ومنها الحديث المشهـور الذي يقــول : الحسـن والحسيـن امامان قاما أو قعـدا .([8]) فليس ضرورياً ان يحمل الامام او مرجع الأمة سيف الحكم والفصل، فربما لاتسنح له الظروف بذلك، كما كان الحال بالنسبة الى الغالبية العظمى من ائمتنا (عليهم السلام).
نعمة القـرآن :
وبالاضافة الى نعمة معرفة أهل البيت (عليهم السلام) فان هناك نعمة أخرى ينعم الله تعالى بها علينا خلال شهر رمضان المبارك، الا وهي نعمة القرآن. فشهر رمضان هو شهر القرآن وربيعه؛ ففي طياته تلك الليلة المباركة التي هي خير من ألف شهر؛ اي أنها خير من ثلاثين ألف ليلة. وسرّ هذا التفضيل يكشفه لنا القرآن الكريم في قوله : « إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » (القدر /1). فهذه الليلة هي ذكرى نزول القرآن الكريم من السماء العلى، حيث نزل كله جملة واحدة على قلب نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله) في تلك الليلة المباركة. ولذلك فان من ضمن المظاهر الكبرى لعظمة شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن، هو انه ربيع القرآن، الذي فيه خبر من كان قبلنا، وعلم من يأتي بعدنا، وهو حكم ما بيننا. فمن جعله أمامه قاده الى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه الى النار. وهو شافع مشفّع، وماحل مصدّق. فلابد - اذن - من الاهتمام بكتاب الله في هذا الشهر الشريف، من خلال اتباع الخطوات التالية :
1- تلاوة القرآن وختمه
ينبغي ان نستثمر اوقات هذا الشهر الفضيل وساعاته ولياليه في تلاوة القرآن. ويا حبّذا لو عقدنا العزم على ختمه اكثر من مرة واحدة، بدلاً من ان نقضي اوقاتنا في جلسات اللهو واللغو الفارغة.
والله سبحانه يوفق قارئ القرآن، ويبارك له، ويوفّقه للعمل به. فالقرآن هو رسالة الله تعالى إلينا، وحبله المتين والكتاب الاعظم الذي يتضمن حقائق الكون والوجود.
2- التدبر في آيات القرآن
والتدبر هو الوقوف عند الآية، واجالة النظر فيها، وما تنطوي عليــه من ابعاد فكريـة واجتماعية وسياسية وخلاقية. فلا ينبغي ان تكون تلاوة آيات القرآن الكريم مجرد قراءة عابرة. فمن الضروري للانسان المسلـم الذي يريد التسلح بالقـرآن مـن خلال تقوية ايمانه، ان يتلو كتاب الله بامعان وتوجه. فلا بد من ان تنسجم مع خطاب الله سبحانـه وحديثه معنــا، لكي تطمئن بـه قلوبنـا، وتنـزل السكينة على ارواحنا ونفوسنــا. فبالقرآن يصيــر الانسان الى القناعــة، وبه يمتلئ سعادة وراحـة روحية ومعنويــة.
ان تدبر القرآن يزوّد المؤمن بالبصيرة، فيفهم الحياة بافضل وجه، ويميّز الجيد فيها عن السيء، والطيب من الخبيث، ولا ينخدع بالمظاهر الجوفاء. فلابد من فهم القرآن والانسجام معه، وان لا نوحي الى انفسنا باننا دون مستوى فهم القرآن. صحيح ان بعض الآيات تحتاج الى مراجعة التفاسير لفهم مغزاها، ولكن القرآن على العموم واضح المعنى، سهل الفهم، وهو نفسه يؤكد على هذه الحقيقة قائلاً : « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ » (القمر / 17)
ولذلك فان من يفتح قلبه للقرآن، سيفهمه باذن الله تعالى، وسيمنحه الهاماً خاصاً يفهم به لغة القرآن.
نعمة الاهتمام بأمور المسلمين :
وفي هذا المجال يقول الحديث الشريف :
من أصبح لايهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ([9]).
وفي احاديث اخرى يقول (صلى الله عليه وآله) :
اتقوا النار ولو بشق تمرة ([10]).
ويقول :
اتقوا النار ولو بشربة من ماء ([11]).
فهذه الاحاديث الشريفة وغيرها تحث الانسان المسلم على الاهتمام بأمور اخوته، والتحسس بآلامهم ومعاناتهم، ومشاركتهم في همومهم، وفهم مشاكلهم. فلا يجوز ان ينطوي المسلم على ذاته، ويطوق نفسه بطوق الانانية البغيض. فينبغي بالاخوة المؤمنين وخصوصاً في شهر رمضان المبارك ان يبحثوا عن اخوانهم الفقراء، ويمدّوا اليهم يد المساعدة، ويفرجوا بما استطاعوا عن همومهم المعيشية.. فليشهد لنا شهر الله في الغد، وفي كل عام من اعمارنا، باننا قد افرحنا قلباً كسيراً، وفؤاداً مجروحاً، وادخلنا البهجة والسرور على يتيم، او عائلة ليس لها من يعيلها، او تصدّقنا على مسكين او اطعمنا جائعاً او كسونا عرياناً لايملك من الثياب ما يقي بدنه ويسرّه.
وعلينا ان لانقصر اهتمامنا على ابناء بلدنا، او منطقتنا التي نسكن فيها، بل ليمتدّ نظرنا الى البقاع الاخرى من اوطان المسلمين. وهنا تقع مسؤولية الكشف عن اوضاع المسلمين المزرية على عواتق خطبائنا الكرام. فهم مسؤولون عن ان يجعلوا روّاد منابرهم ومجالسهم، على دراية بما يجري حولهم من مآس ومصائب على اخوتهم، وان يثيروا فيهم الحماس وروح الاهتمام الوثابة التي تحفزهم على الانضمام الى قافلة العمل والجهاد في سبيل الله عز وجل.
وهنا أوجه خطابي الى المبلّغين الاسلاميين الذين يتحملون المسؤولية الرسالية وعبئ الدعوة الى الله، وخصوصاً العلماء والخطباء؛ ان يجهدوا انفسهم في سبيل ايصال نور العلم والهدى الى الناس، وان يجيبوهم على مسائلهم صغيرة كانت أم كبيرة، وفي جميع المجالات. وان لايبدوا التململ والضجر في اجابتهم، وافهامهم لامور دينهم ودنياهم. فعليهم ان يجنّدوا انفسهم، ويظهروا الجد في إحسان الضيافة، وادائها على افضل وجه. وهذا ما يؤكد عليه قوله تعالى :
« كَلآَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَاَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ » (عبس/11 - 23).
شهـر التوبـة
ان شهر رمضان المبارك هو شهر دعينا فيه الى ضيافة الله تعالى، ومفاد هذه الضيافة الكريمة هو دعوة الله عباده للتوبة، لانه يحبها لهم.
والتوبة في حقيقتها هي عملية اعادة الاتصال بين العبد وربه، وفي الاحاديث بيان لمدى حب الله جلت قدرته للتوبة، ولعبده التائب؛ منها ما يصور توبة العبد ويمثلها برجل بدوي يقطع الصحراء وفيافيها، ومثله معرض للهلاك في هذا الطريق، وهو لايملك الا ابله فاذا ما عطش شرب من لبنها، واذا ما جاع اكل شيئاً من شحمها لان العرب كانوا يأكلون من الابل وهي حية اثناء ركوبها، ثم يصادف ان يضيع هذا البدوي ابله في ليل الصحراء المظلم بعد ان فك عقالها، واذا ما ضاعت هذه الابل فان هذا يعني ان على هذا البدوي ان ينتظر موته البطئ، والهلاك إن لم يعثر عليهـا، ولذلك فان هــذا البدوي يبدأ في الليل بالبحث عن ابله عله يجدها، وكم ستكون فرحته عظيمة عندما يظفر بهـا.
ومع ذلك فان - جلت قدرته - أشد فرحاً عندما يرى عبده يعود اليه تائباً خاضعاً حيث روي عن الامام ابي جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال : ان الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها.([12]) فهو سبحانه طالما يفتـح ابـواب التوبة لعبــاده، ويغفر لهم كل معصيــة. وهـذا هتافــه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، اذ يقول في احدهما : « وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (النور / 31)
غفـران اللـه :
فهلموا بنا - ايها الاخوة - الى التوبة، وطلب المغفرة، وهذا هو بابها مفتوح للداخلين. وفي هذا المجال يروى انه دخل معاذ بن جبل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) باكياً فسلّم فردّ عليه السلام ثم قال : ما يبكيك يا معاذ ؟ فقال : يا رسول الله إنّ بالباب شابّاً طريّ الجسد، نقيّ اللّون، حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها، يريد الدخول عليك؛ فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ادخل عليَّ الشاب يا معاذ؛ فأدخله عليه فسلّم فردّ عليه السلام، ثم قال : ما يبكيك يا شابّ ؟ قال : كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عز وجل ببعضها أدخلني نار جهنم ؟ ولا أراني إلاّ سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : هل أشركت بالله شيئاً، قال : أعوذ بالله أن أُشرك بربي شيئاً. قال : أقتلت النفس التي حرم الله ؟ قال : لا.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، فقال الشابّ : فإنها أعظم من الجبال الرواسي.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق، قال : فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق !
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسيّ، قال : فإنها أعظم من ذلك.
قال : فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) إليه كهيئة الغضبان ثم قال : ويحك يا شابّ ذنوبك أعظم أم ربك ؟ فخرّ الشابّ لوجهه وهو يقول : سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربي، ربّي أعظم يا نبي الله من كلّ عظيم.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : فهل يغفر الذنب العظيم إلاّ الرب العظيم ؟ قال الشابّ : لا والله يا رسول الله، ثم سكت الشابّ .
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ويحك يا شابّ ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟ قال : بلى أُخبرك : إني كنت أنبش القبـور سبع سنين، أخرج الأموات، وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت الى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل أتيت قبرها فنبشتها ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها، ومضيت منصرفاً فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لـي، ويقـول : أما ترى بطنها وبياضهـا ؟ أما ترى وركيها ؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها، ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شابّ ويل لك من ديّان يوم الدين، يوم يقفني وإياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني، وتركتني أقـوم جنبةً إلى حسابي، فويــل لشبابك من النـار !. فما أظنّ أنّي أشـمّ ريح الجنة أبداً فما ترى لي يا رسول الله ؟
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : تنحّ عنّي يا فاسق؛ إنيّ اخاف ان احترق بنارك، فما أقربك من النار ! ثم لم يزل (عليه السلام) يقول ويشير اليه حتى أُمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثم أتى بعض جبالها فتعبّد فيها، ولبس مسحاً وغلّ يديه جميعاً الى عنقه، ونادى : يا ربّ هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا رب أنت الذي تعرفني، وزلّ منّي ما تعلم سيّدي ! يا ربّ أصبحت من النادمين، وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي؛ سيّدي! ولا تبطل دعائي، ولا تقنّطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة، وتبكي له السباع والوحوش، فلمّا تمّت له أربعون يومـاً وليلـةً رفع يديه الى السمـاء، وقال : اللهم ما فعلت في حاجتي ؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح الى نبيّك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجّل بنار تحرقني، او عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه (صلى الله عليه وآله) : والذين إذا فعلوا فاحشة يعني الزنا أو ظلموا انفسهم يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا، ونبش القبور، وأخذ الأكفان ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم يقول : خافوا الله فعجّلوا التوبة ومن يغفر الذنوب إلاّ الله يقول عز وجل : أتاك عبدي يا محمد تائباً فطردته، فأين يذهب ؟ وإلى من يقصد ؟ ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري، ثم قال عز وجل : ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون يقول : لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج وهو يتلوها ويتبسّم، فقال لأصحابه: من يدلّني على ذلك الشابّ التائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا، فمضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه حتى انتهوا الى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبون الشابّ فإذا هم بالشابّ قائم بين صخرتين، مغلولة يداه الى عنقه، قد اسودّ وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء، وهو يقول : سيّدي : قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي ؟ أفي النار تحرقني ؟ او في جوارك تسكنني ؟ اللهم إنّك قد أكثرت الاحسان إليّ وأنعمت عليَّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري ؟ الى الجنة تزفّني ؟ أم الى النار تسوقني ؟ اللهم إن خطيئتي أعظم من السماوات والأرض ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة ؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه وقد أحاطت به السباع! وصفّت فوقه الطيـر ! وهم يبكون لبكائه ! فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأطلـق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسـه، وقـال : يا بهلـول ! أبشر فإنّك عتيق الله من النار. ثم قـال ( عليه السلام ) لأصحابــه : هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول. ثمّ تلا عليه ما أنزل الله عز وجل فيه وبشّـره بالجنـة .([13])
ترى ما الذي يستفيده المؤمنون من مفاد هذا الحديث، أليس ذلك معناه ان الاندع لليأس مجالاً في نفوسنا، أليس ذلك معناه ان يسقط المؤمنون معاني القنوط والاحباط واليأس من قاموسهم، وان يستبشروا بالرحمة الواسعة التي فتحت باب التوبة والمغفرة، وخصوصاً في شهر رمضان المبارك على مصراعيه، واغلقت ابواب نفوذ الشياطـين ووساوسهم للنفــوس ؟ فلا يستهينن أحداً برحمة الله، وليجعل الباب مفتوحاً دائماً بينه وبين ربه.
شهر الاغتسال من الذنوب :
ان التوبة هي بمثابة الاغتسال بماء النهر الذي يتطهر به الانسان، وشهر رمضان يشبه الى حد كبير نهر ماء ينساب طاهراً امامنا، في حين قد احاطت بنا ادران الذنوب، واوساخ الغفلة والشره والطمع والحسد والغيبة والتهمة.. فتجدنا كلما خرجنا من ذنب وقعنا في آخر أشد منه، والشيطان مستول على نفوسنا وقلوبنا يسعى بنا الى الهاوية، والعياذ بالله منه ومنها.
وهكذا فان القضية ليست هيّنة. فتعالوا نغسل نفوسنا وقلوبنا، ونصفيها من الرذائل والذنوب العالقة بها بماء النهر الممتد امامنا، المتمثل في شهر الله الفضيل، شهر رمضان المبارك. ولنعقد العزم من الآن على التوبة النصوح، علنا ننال بطاقة المغفرة التي تمهّد الطريق لنا في الآخرة الى جنات النعيم.
ولتكن لنا في هذا الأمر همّة عالية، وعزم جاد، ولنوجد في داخلنا الحالة النفسية التي تدعونا لأن نطهّر ولو نصف ما علينا من الذنوب إن لم يكن جميعها، كي نكون بعد انقضاء شهر رمضان في وضع مغاير للوضع الذي كنا عليه قبله. وهذه هي ابواب الرحمة والتوبة والمغفرة مفتحة، فلنستقبل هذا الشهر العظيم ونحن طاهرون، وقد اتخذنا القرار بترك السيئات من أعمالنا، واحلال الصالحات والخيرات محلّها.
وعلينا ان لا ننسى في هذا الشهر المبارك الاكثار من قراءة القرآن والادعية والمناجاة، واقامة الصلوات المستحبة والنوافل التي تزيدنا قربة الى الله تعالى ورضوانه. ثم الاعمال الخيرية، والصالحات من اطعام للفقراء ومساعدتهم، واعانة ذوي القربى والفقراء والمساكين من المسلمين.. فكل ذلك هو بمثابة تجسيد عملي للتوبة بعد قطع العهد القلبي عليها مع الله جل وعلا.
واذا ما فعلنا ذلك، فان هذا يعني اننا قد ارتفعنا وسمونا في سلم القربة الى الله سبحانه، وعرجنا الى ملكوته، وجسّدنا المعنى الحقيقي للتوبة التي هي من أهم الاهداف التربوية لشهر الله جل وعلا.
_______________________________________
([6]) الوسائل / ج 7 / ص 227.
([7]) بحار الأنوار / ج 2 /