أولئك ذَراري عليّ عليه السلام

أولئك ذَراري عليّ عليه السلام

بين أيدينا
تاريخ يمكن أن تُستخلَص منه عِبَرٌ ودروس وفيرة، وتُستفاد منه حِكم ومعانٍ غزيرة، في مجالاتٍ شَتّى من مجالات الحياة، في: العقيدة والأخلاق، وفي القضايا الروحيّة والاجتماعيّة، وفي المسائل الفرديّة والإنسانيّة البشريّة.
وقد توالت الوقائع يُؤيّد بعضها البعض، ويصدّق بعضها الآخر، أنّ الأمور تجري في مشيئة الله تبارك وتعالى وإرادته على حكمةٍ وسنّةٍ إلهيّتَين تنتهيان إلى عدالةٍ مطلقة، وإلى إحقاق للحقّ وإبطالٍ للباطل، وإلى ذلك نبّهت وحذّرت شرائع الدين، لِيهْلِكَ مَن هلَكَ عَن بيّنةٍ ويَحيّيَ مَن حَيَّ عن بيّنة، وإن اللهَ لَسميعٌ عليم [ الأنفال:42 ].
ومن الوقائع التاريخيّة قَصصٌ، بعضها اختصّ بالأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وبعضها جرى في الناس، وللدين فيها حُكم وحِكم، وكان في الجميع نفع وفائدة، ومن هنا وجدنا القرآن الكريم يقصّ عدداً من القصص البليغة، ويأتي فيه قوله تعالى مخاطباً نبيَّه صلّى الله عليه وآله:
ـ فآقصُصِ القَصصَ لعلّهُم يتفكّرون [ الأعراف:176 ].
ـ لَقَد كانَ في قَصصِهم عِبرةٌ لأُولي الألباب ما كانَ حديثاً يُفترى ولكنْ تَصديقَ الذي بينَ يَدَيهِ وتفصيلَ كلِّ شَيءٍ وهُدىً ورحمةً لقومٍ يُؤمنون [ يوسف:111 ].
 

وهنالك
من القصص ما رواها الناس، وتَثبّتَ عليها العلماء وثبَّتوها في مؤلّفاتهم؛ لِما احتوت من التصديق لمفاهيم الإسلام الحنيف، ولِما حَوَت من الدروس الواقعيّة والعِبر المربّية، وهذه إحداها..
روى ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه ( غوالي اللآلي )، نقلاً عن كتاب ( منهاج اليقين في فضائل أميرالمؤمنين ) للعلاّمة الحلّي، قال: روى العلاّمة قُدّست نفسه مُسنِداً في كتابه المذكور إلى عبدالله بن المبارك أنّه قال:
كنتُ مُولَعاً بحجّ بيت الله الحرام، شديدَ المُداومة في كلّ عامٍ على حضوره، ففي بعض السنوات لمّا أزِف الناس الاهتمام لأُهبة الحجّ، وحضَرَت وفود الحجّاج من البلاد، أنِستُ من نفسي الكسل في تلك السنة عن الاستعداد لأُهبة الحجّ، ثمّ نشطتُ لذلك وقلت: وما يُقعدني عن صحبة القوم وأنا قادرٌ على النفقة مُخلّى السبيل ؟!
فقمتُ وشددتُ على وسطي كيساً فيه ( 500 ) دينار، وخرجتُ إلى سوق الإبل لأشتريَ جِمالاً للحجّ، فلم أزل يومي أستعرض الإبل إلى أن تعالى النهار واشتدّت الهاجرة ( أي الحرّ )، ولم يقع في يدي ما يَصلح للطريق، فسَئِمتُ السَّوم، وعزمت الرجوع إلى المنزل.
فبينا أنا كذلك إذا أنا بامرأةٍ وقد جلست إلى مزبلةٍ قريبةٍ من سوق الإبل، وقد أخَذَت دجاجة ً ميّتةً كانت على الكُناسة، وهي تنتف ريشها من حيث لا يشعر بها أحد، فجئت حتّى وقفتُ قريباً منها وقلت:
ـ لِمَ تفعلين هكذا يا أمة الله ؟! قالت:
ـ يا هذا، إمضِ لشانك واتركني! قلت:
ـ سألتُكِ بالله إلاّ أعلمتيني بحالك. فقالت:
ـ نَعَم إذ ناشَدْتني بالله.. إعلم أنّني امرأةٌ عَلَوية ولي بناتٌ ثلاثٌ علويات صغار، وقد مات قيّمنا، ولنا ثلاثَ ليالٍ بأيّامهنّ على الطِّوى ( أي الجوع ) لم نَطعَم شيئاً ولم نجده، وقد خرجتُ عنهنّ وهنّ يتضوّرن جوعاً لألتمس لهنّ شيئاً، فلم تقع بيدي غير هذه الدجاجة الميّتة، فأردتُ إصلاحها لنأكلها فقد حلّت علينا المِيتة!
قال ابن المبارك وهو يروي هذه القصّة المؤلمة: فلمّا سمعتُ ما قالت وقف شعر رأسي واقشعرّ جلدي، وقلت في نفسي: يا ابنَ المبارك! أيُّ حجٍ أعظم من هذا ؟ فقلت لها:
ـ أيّتها العلوية، إرمي هذه الدجاجة؛ فقد حَرُمَت عليكِ، وافتحي حِجْرَكِ لأُعطيَكِ شيئاً من النفقة.
ثمّ حللتُ الكيس وفتحتُ فاهَهُ وصببتُ الدنانير في حجرها بأجمعها، فقامت مسرورةً وهي عَجِلة، ثمّ دَعَت لي بخير، وعُدت.
ثمّ إنّي رجعتُ إلى منزلي، ونزع الله من قلبي إرادة الحجّ في تلك السنة، فلزمتُ منزلي واشتغلتُ بعبادة الله تعالى. قال:
وخَرجَت القافلة إلى الحجّ، فلمّا قَدِم الحاجّ من مكة خرجتُ للقاءِ الحجّاج والإخوان ومصافحتهم، فكنتُ لم ألقَ أحداً ممّن يعرفني فصافحتُه وسلّمتُ عليه إلاّ يقول لي:
ـ يا ابنَ المبارك، ألم تكن معنا ؟! ألم أَشهَدْك في موضعِ كذا وموقف كذا ؟!
فعَجِبتُ من ذلك! فلمّا رجعتُ إلى منزلي وبِتُّ تلك الليلة، رأيت في منامي رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يقول لي:
ـ يا ابن المبارك، إنّك لمّا أعطيتَ الدنانير لابنتنا وفرّجتَ كُربتَها وأصلحتَ شأنها وشأن أيتامها، بعث الله تعالى مَلَكاً على صورتك، فهو يحجّ عنك في كلّ عام، ويجعل ثواب ذلك الحجّ لك إلى يوم القيامة، فما عليك إن حججتَ بعدُ أو لم تحجّ؛ فإنّ ذلك المَلَك لا يترك الحجَّ لك إلى يوم القيامة.
قال ابن المبارك: فانتبهتُ وأنا أحمَدُ اللهَ تعالى على توفيقي لصلة الذريّة العلويّة، وأنّ فعلي كان في محلّه مقبولاً عند الله وعند نبيّه صلّى الله عليه وآله.
قال الراوي: ولقد سمعتُ عن كثيرٍ من المحدّثين يذكر أنّ الحُجّاج في كلّ عامٍ يشاهدون ابن المبارك يحجّ مع الحجّاج وإنّه لَمُقيمٌ بالعراق. ( غوالي اللآلي 140:4 ).
 

وتأكّد ذلك
حتّى عند الآخرين، فهذا سبط ابن الجوزي، وهو الحنبلي ثمّ الحنفي، يكتب في ( تذكرة خواصّ الأمّة ) بهذا السند::
أنبأَنا عبدالملك بن مظفّر بن غالب الحَرّي بإسناده قال: كان عبدالله بن المبارك يحجّ سنةً ويغزو سنة، فعَلَ ذلك خمسين سنة، قال:
فلمّا كانت السنة التي حجّ فيها أخذتُ في كُمّي ( 500 ) دينار... ( ثمّ ذكر القصّة كما ذكرها العلاّمة الحلّي، بعد ذلك أضاف السبط قائلاً: )
وقد رُوِيَت لنا هذه الحكاية من طريقٍ آخر، وهذا الطريق هو: أن ولداً صغيراً لابن المبارك دخل بيت بعض الأشراف فوجدهم يأكلون لحماً، فلم يُطعموه، فجاء إلى ابن المبارك وهو يبكي، فسأله، فقال:
ـ دخلتُ بيتَ فلانٍ وهم يأكلون طبيخاً فلم يُطعموني!
وكانوا جيرانه، فأرسل عبدالله بن المبارك إليهم يعاتبهم، فأرسَلَت إليه العجوز تقول: قد أحوَجتَنا إلى كشف أحوالنا، قد مات صاحب الدار وخلّف أيتاماً ولنا خمسةَ أيّامٍ ما أكَلْنا طعاماً، وإنّني خرجتُ إلى مزبلةٍ فوجدتُ عليها بطّةً ميّتةً فأخذتُها وأصلحتها، ودخل ابنك ونحن نأكل، فما جاز لي أن أُطعمه وهو يجد الحلال ويَقْدر عليه.
فبكى ابن المبارك وبعث إليها بـ ( 500 ) دينار، ولم يحجَّ في ذلك العام، ورأى ذلك المنام! ( تذكرة خواصّ الأمّة:328 ـ عنه: إرشاد القلوب للديلمي 443:2، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي 11:42 ـ 12 / ح 12 ).
 

وهذه أخرى
ينقلها لنا سبط ابن الجوزي أيضاً، حيث كتب يقول::
قرأتُ في ( المُلتَقَط ) ـ وهو كتابٌ لجدّ أبي الفرج بن الجوزيّ ـ قال:
كان ببَلْخ رجلٌ من العلويّين نازلاً بها وله زوجةٌ وبنات، فتُوفّي. قالت المرأة: فخرجتُ بالبنات إلى سمرقند خوفاً من شماتة الأعداء، واتّفق وصولي في شدّة البرد، فأدخلتُ البنات مسجداً، فمضيتُ لأحتال في القُوت، فرأيت الناس مجتمعين على شيخ، فسألتُ عنه فقالوا: هذا شيخ البلد. فشرحتُ له حالي، فقال: أقيمي عندي البيّنةَ أنّكِ علوية. ولم يلتفت إليّ.
فيئستُ منه وعدتُ إلى المسجد، فرأيت في طريقي شخصاً جالساً على دكّةٍ وحوله جماعة، فقلت: مَن هذا ؟ فقالوا: ضامن البلد، وهو مجوسي. فقلت: عسى أن يكون عنده فَرَج. فحدّثته حديثي وما جرى لي مع الشيخ ( شيخ البلد )، فصاح بخادم له، فخرج، فقال له: قل لسيّدتك تَلبَسْ ثيابها. فدخل الخادم، فخرجَت امرأة ومعها جَوارٍ فقال لها: إذهبي مع هذه المرأة إلى المسجد الفلاني، واحملي بناتها إلى الدار. فجاءت معي وحملت البنات، وقد أفرد لنا داراً ( أي غرفة ) في داره، وأدخَلَنا الحمّام، وكسانا ثياباً فاخرة، وجاءنا بألوان الأطعمة، وبِتْنا بأطيب ليلة.
فلمّا كان نصفُ الليل رأى شيخ البلد المسلم في منامه كأنّ القيامة قد قامت، واللواء على رأس محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وإذا قصرٌ من الزُّمُرُّد الأخضر، فقال: لمَن هذا ؟! فقيل له: لرجلٍ مسلمٍ مُوحِّد. فتقدّم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله، تُعرِض عنّي وأنا رجلٌ مسلم ؟! فقال له: أقِمِ البيّنةَ عندي أنّك مسلم! فتحيّر الرجل، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: نَسِيتَ ما قلتَ للعلوية ؟! وهذا القصر للشيخ الذي هي في داره.
فانتبه الرجل وهو يلطم ويبكي، وبعث غلمانه في البلد وخرج بنفسه يدور على العلويّة، فأُخبر أنّها في دار المجوسي، فجاء إليه يقول: أين العلوية ؟ قال عندي، قال: أُريدها، قال: ما إلى هذا سبيل، قال: هذه ألف دينار وسَلِّمْهُنّ إليّ، قال: لا واللهِ ولا مئة ألف دينار. فلمّا ألحّ عليه قال له المجوسي: المنام الذي رأيتَه أنت رأيتُه أنا أيضاً، والقصر الذي رأيته أنت رأيتُه لي خُلِق، وأنت تُدِلّ علَيّ بإسلامك! واللهِ ما نُمتُ ولا أحدٌ في داري إلاّ وقد أسلَمْنا كلُّنا على يد العلويّة، وعاد من بركاتها علينا، ورأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال لي: القصر لك ولأهلك بما فعلتَ مع العلويّة، وأنتم من أهل الجنّة، خلَقَكمُ الله مؤمنين في القِدَم!
( روى هذه القصّة عن سبط ابن الجوزيّ من كتابه: تذكرة خواصّ الأمّة صفحه 330: الشيخ المجلسيّ في بحار الأنوار 12:42 ـ 13 / ح 12 في ضمن الباب 115 وعنوانه: ما ظهر من المنامات من كرامات أميرالمؤمنين عليه السلام ومقاماته ودرجاته، والديلميُّ في: إرشاد القلوب 444:2. كما نقل القصةَ هذه أيضاً عن العلاّمة الحلّي من كتابه: كشف اليقين في فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام صفحه 169 ـ 170: الشيخُ ابن أبي جمهور الأحسائي في: غوالي اللآلي 142:4. وقد وُفّق المرحوم السيّد أحمد المستنبط في أن يجمع روايات هذا الموضوع وقصصه في كتابه: القطرة من بحار مناقب النبيّ والعترة 527:1 ـ 534 / باب في فضل ذريّة النبيّ صلّى الله عليه وآله، و ج 106:2 ـ 122 / الباب الثاني في فضل العلويّين ).