في الطريق إلى بدر

إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ في حركته الرسالية المنقذة ـ يفضّل السِّلمَ على القتال. ذلك أمرٌ لا شكّ فيه، بشرطٍ واحد.. هو أن يؤدّي السلم إلى تحقيق الهدف. وكان صلّى الله عليه وآله ينتهج كلَّ الأساليب السلميّة الممكنة التي يمكن أن توفّر للرسالة الإسلاميّة نجاحاً فعليّاً. غير أن تلك الأساليب لم تكن هي الوسيلة الرئيسية لتحقيق الانتصار، استناداً إلى طبيعة العدوّ الوثنيّ وإمكاناته المادية والعسكرية والبشرية. من هنا ـ أيّها الأصدقاء ـ جاءت الممارسات العسكرية العملاقة للنبيّ صلّى الله عليه وآله من مصادر عظمة حركته. ومن المؤكّد أن الإسلام ما كان لينتصر لولا تلك الممارسة العسكرية الجبّارة.

* * *

لعلّ بداية عملية الهجرة من مكة إلى المدينة خير بيان بالقدرة العسكرية للنبيّ صلّى الله عليه وآله، ذلك أنّه ـ وهو المُستهدَف من قريش التي ما كانت ترضى بغير قتله ـ ظلّ يواصل الإشرافَ على هجرة أصحابه المعذَّبين والمحارَبين، حتّى استكمل ذلك نهائياً.
وباقتران مرحلة المدينة بالغزوات والمعارك والقتال بصورةٍ عامّة، تبدأ المرحلة العظمى في الإسلام. لقد كان تصعيد القتال مدروساً ومرتبطاً بهدفٍ كبير، هو بناء المجتمع إسلامياً.. من خلال استعادة بيت الله ومكة، وترصين وحدة الرابطة في شبه الجزيرة وخارجها. وكان ضرورياً إذن فتح مكةَ القلعةِ المتجبّرة بأهلها الوثنيّين وأصنامها، من خلال رفع مستوى المعارك الموجَّهة، تَساوقاً مع خططٍ أخرى، في الحصار الاقتصاديّ، وإقامة التحالفات القَبَلية. وكان لابدّ حينذاك من التأكيد على تغيير قِبلة المصلّين من المسجد الأقصى إلى مكة؛ لأنّ مكة كانت هدف الإسلام.
وتطوّرت القوة الإسلامية الثورية، فأصبحت الضرورة تتطلب تكثيف الهجوم الإسلامي التوحيديّ على معاقل الشرك والكفر أينما كانت، وذلك لنقل المعركة من حدودها الأولى ـ حدودِ التضييق على حركة الإسلام وتحجيمها ـ إلى حدودها الجديدة: المبادرة الهجومية، وفرض الدفاع على المشركين.
ومن الإبداع المحمديّ العظيم ابتكار أسلوب جديد للقتال، هو ما يُعرف اليوم بـ « البُؤَر الثورية »، خاصةً في تأسيسه بؤرة « المدينة » الإسلاميّة التي أصبحت القاعدة العسكرية الأولى للإسلام، ومنها شنّ المسلمون طرازاً من الحرب ـ من ابتكار النبيّ ـ هو ما يسمّى الآن بـ « الكفاح المسلّح ». وكانت عمليات هذا الكفاح تهدف إلى ضرب مواقع ومرتكزات العدوّ الوثنيّ، وتدمير مصادر تنميته الاقتصادية وروافد قوّته العسكرية، إضافة إلى استهدافها ضربَ تحالفات العدوّ، وكسب بعض الحلفاء، أو تحييد قسم من القبائل في الصراع الدائر بين الإسلام والشرك..
ولقد كانت معركة بدر الكبرى.. العلامةَ البارزةَ في هذا السياق.