الوضع السياسي في عصر الإمام العسكري عليه السلام

الوضع السياسي في عصر الإمام العسكري عليه السلام

وُلد الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليهما السّلام في المدينة المنوّرة في العاشر من ربيع الثاني سنة 232 هـ، واستُشهد على يد المعتمد العبّاسيّ سنة 260 هـ وله من العمر ثمان وعشرون سنة، ودُفن إلى جنب أبيه الإمام الهادي عليه السّلام في مدينة « سُرَّ مَن رأى » (1).
وكُنّي هذا الإمام الهمام بـ « أبي محمّد »، ولُقّب بـ « الزكيّ »، و « العسكريّ » نسبة إلى منطقة العسكر في مدينة سامرّاء.

أمّه

أمّه الصالحة الورعة سوسن، ويُقال لها ( سَليل ) و ( حَديثة )، وهي أمرأة جليلة اشتهرت بالصلاح والتقوى. روى المسعودي أنّه لمّا أُدخلت ( سَليل ) أمّ أبي محمّد عليه السّلام على أبي الحسن ( الهادي ) عليه السّلام، قال: سَليلٌ مَسلولٌ من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس. ثمّ قال لها: « سَيَهَبُ اللهُ حجّتَه على خلْقِه، يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً » (2).
وتُعرف جلالة قدرها من الرواية التي نقلها الشيخ الصدوق عن حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السّلام، أنّها سُئلت: إنْ تُوفّي الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام إلى مَن تَفزَع الشيعة ؟
قالت: إلى الجَدّة أمّ أبي محمّد صلوات الله عليه. فقيل لها: اقتديتُم في وصيّتهِ بامرأة ؟! فقالت: اقتداءً بالحسين بن عليّ عليه السّلام، أوصى إلى أخته زينب بنتِ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في الظاهر، فكان ما يخرج عن عليّ بن الحسين عليه السّلام من عِلم يُنسَب إلى زينب بنت عليّ؛ ستراً على علي بن الحسين عليه السّلام (3).
 

عصر الإمام العسكريّ عليه السّلام
عاصر الإمامُ الحسن العسكريّ عليه السّلام ثلاثةً من خلفاء بني العبّاس. وتكفّل بهداية الأمّة الإسلاميّة في تلك الظروف الخطيرة. وقد اجتمعت خصال الفضل في أبي محمّد عليه السّلام، وتقدّم على كافّة أهل عصره فيما يُوجب له الإمامة، من: العلم والزهد وكمال العقل والعصمة والشجاعة والكرم وكثرة الأعمال المقرّبة إلى الله تعالى، ثمّ لنصّ أبيه عليه السّلام عليه وإشارته بالخلافة إليه(4).
والإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام ـ شأنه شأن سائر أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ـ من الشجرة الطيّبة التي أصلُها ثابت وفرعها في السماء، تُؤتي أُكُلَها كلّ حينٍ بأمرِ ربّها، وثمرها العِلم والهدى والنور.
عاصر أبو محمّد عليه السّلام أباه الإمام الهادي عليه السّلام مدّة اثنتين وعشرين سنة، وقد أوصى إليه أبوه عليه السّلام قبل مُضيّه بأربعة أشهر، وأشار إليه بالأمر من بعده، وأشهَدَ على ذلك طائفةً من أصحابه (5).
وقد تألّق الإمام العسكريّ عليه السّلام كآبائه المعصومين عليهم السّلام، فاعترف بفضله حتّى أعدى أعدائه ـ كابن الخاقان ـ ونظروا إليه نظر احترام وتوقير، واحتلّ موقعاً خاصّاً في قلوب شيعته ومحبّيه على الرغم من الضغوط الكبيرة التي تعرّض لها شيعته من قِبل الحكّام العبّاسيّين، حتّى ذكر المؤرّخون ـ على سبيل المثال ـ أنّه لمّا ذاع خبر وفاة الحسن العسكريّ عليه السّلام صارت « سُر مَن رأى » ضجّةً واحدة، وعُطّلت الأسواق، وركب بنو هاشم والقوّاد وسائر الناس إلى جنازته، فكانت « سرّ من رأى » يومئذٍ شبيهاً بالقيامة (6).
 

الخصائص السياسيّة لعصر الإمام العسكريّ عليه السّلام
عاصر الإمام العسكريّ عليه السّلام بقيّة حكم المعتزّ العبّاسيّ، ثمّ حكم المهتدي، ثمّ شطراً من حكم المعتمد العبّاسيّ، حيث قضى شهيداً بالسمّ بعد مُضيّ خمس سنين من حكم المعتمد، فالتحق بركب آبائه الأطهار عليهم السّلام. وقد رُوي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: واللهِ، ما منّا إلاّ مقتولٌ شهيد (7).
ومن أبرز خصائص هذا العصر:
ـ عصر الاضطهاد
وقد امتاز العصر العبّاسيّ بالاضطهاد الذي مارسه حكّام بني العبّاس في حقّ معارضيهم، وبخاصّة في حقّ الطالبيّين والعلويّين الذين توصّل العبّاسيون إلى الحكم من خلال المطالبة بإعادة حقوقهم إليهم وبالثأر من ظالميهم، ورَفعوا ـ من أجل التعمية على أهدافهم الحقيقيّة ـ شعاراً عامّاً مُضلِّلاً يدعو إلى « الرضا من آل محمّد صلّى الله عليه وآله ».
وسرعان ما تنكّر العبّاسيون لهذا الشعار، وقلبوا لبني عمومتهم ظَهرَالمِجَنّ، ولاحقوهم وشرّدوهم وقتلوهم حيثما كانوا. ويُعدّ عصر المنصور الدوانيقيّ ( الذي عاصره الإمام الصادق عليه السّلام ) وعصور من جاء بعده..ن أحلك العصور التي مرّت على أئمّة أهل البيت عليهم السّلام.
ـ التكالب على السلطة
تعدّى جور حكّام بني العبّاس وتكالبهم على السلطة حدود قمع معارضيهم إلى مقاتلة بعضهم البعض الآخر من أجل السلطة؛ فقد حارب المأمونُ أخاه الأمين حرباً دمويّة انتهت بقتل الأخير، ثمّ تربّع المأمون على عرش الحكم وجيء إليه برأس أخيه الأمين مقطوعاً موضوعاً في طست.
وتكرر الأمر بين الأب والابن، فقد قَتَل المنتصر أباه المتوكّل وجلس على العرش بعده، ثمّ خلع أخوَيه المعتزَّوالمؤيّد من ولاية.
ثمّ جاء الدور إلى المستعين العبّاسي، فأُرغم على التنازل عن الخلافة ونُصب المعتزّ مكانه. ثمّ إنّ المعتزّ أمر بالخليفة المعزول فحُبس في دار ومُنع عنه الماء والطعام، ثمّ أمر البنّائين فبَنَوا عليه جداراً.
ـ نصب العداوة لأهل البيت عليهم السّلام
من السمات البارزة للحكّام العبّاسيّين الذين عاصرهم الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام: نصب العداوة لأهل البيت عليهم السّلام. ولعلّ عصر المتوكّل بلغ الذروة في هذا النصب؛ فقد أمر المتوكّل بهدم قبر الإمام الحسين عليه السّلام في كربلاء وطمس آثاره، ومَنَع الناس من زيارته، ووضع المسالح والمفارز على الطرق لمنع الناس من التوجّه إلى قبره الشريف، حتّى قال الشعراء في ذلك:

تـاللهِ إنْ كانت أميّـةُ قـد أتَتْ

 

قَتْـلَ ابْـنَ بنتِ نبيِّها مَظلومـا

فلـقد أتـاهُ بنـو أبيـهِ بمِثْلِهـا

 

هذا لَعَمْـرُكَ قَبْـرُهُ مَهـدومـا

أَسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا

 

في قَتْـلِهِ، فَتَـتَبَّـعُوهُ رَميمـا!

ولمّا بلغ المتوكّلَ أنّ نصر بن عليّ حدّثَ « أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أخذ بيد الحسن والحسين فقال: مَن أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة »، أمر بضربه ألف سوط (8).
ونقل المؤرّخون أنّ المتوكّل أمر عاملَه على المدينة ومكّة ( وهو عمر بن الفرج الرخجيّ ) بتشديد الوطأة على العلويّين، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويّات يُصلّينَ فيه الواحدة بعد الأخرى، ثمّ يُرقّعنَه ويَجلسنَ على مَغازلهنّ عَواري حَواسِر! (9)!
والمتوكّل العبّاسي هو الذي وقف شاعره مروان بن أبي الجنوب فأنشده شعراً نال فيه من آل عليّ عليه السّلام وذمّ شيعتهم، فأمر المتوكّل أن يُنثر على رأسه ثلاثة آلاف دينار، وعَقَد له على إمارة البحرين واليمامة، وخَلَع عليه أربع خلع! (10)
وكان المتوكّل قد أمر يحيى بن هرثمة بإشخاص الإمام عليّ الهادي عليه السّلام ـ ومعه ابنه الحسن العسكريّ عليه السّلام ـ لأنّه بَلَغه مقامُ الإمام الهادي عليه السّلام بالمدينة وقيل الناس إليه، فخاف منه (11).
 

ثورة صاحب الزنج وموقف الإمام العسكريّ منها
من الحوادث الهامّة التي وقعت في عصر الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام، ثورة صاحب الزنج التي بدأت سنة 255 هـ وانتهت سنة 270 هـ. اتّفق المؤرّخون على أنّه ليس من العلويّين، على الرغم من إصراره على نسبة نفسه إليهم، وذكر بعض المؤرّخين ـ ومنهم المسعوديّ ـ أنّ صاحب الزنج من فرقة الخوارج، واستدلّوا على ذلك بأنّ شعاره مطابق لشعار الخوارج: « لا حُكم إلاّ لله »، وبأنّه كان يعتقد بأنّ جميع الذنوب من الشِّرك.
وكان صاحب الزنج قد دعا الزنوج الإفريقيّين الذين كانوا يتعرّضون لظلم مرير من أصحاب الأراضي الذين كانوا يقومون باستصلاحها في جنوب العراق، دعاهم إلى الثورة، فاتّبعه منهم جمع غفير، ثمّ إنّه استولى على البحرين والأحساء، وأباح لجنده الأموال والنساء، ثمّ توجّه إلى البصرة فأغار عليها سنة 257 هـ وأمعن في أهلها نهباً وسلباً وقتلاً وتحريقاً، ثمّ سبى النساء ـ وفيهنّ الكثير من العلويّات ـ وباعهنّ بأثمان زهيدة.
ثمّ توجّه صاحب الزنج إلى الأهواز، وهزم الحملات التي أرسلها المعتمد العبّاسيّ لقتاله. ثمّ قصد مدينة واسط وهمّ بالتوجّه إلى بغداد، فجهّز له المعتمد جيشاً كثيفاً قاده أخوه الموفّق، فدارت بينهم معارك ضارية قُتل فيها صاحب الزنج (12).
وقد صرّح الإمام العسكريّ عليه السّلام بموقفه من صاحب الزنج بما لا يدع مجالاً لريب ولا شبهة، فنفى صِلته بأهل البيت عليهم السّلام في بيانٍ بليغ موجز، قال عليه السّلام: صاحب الزنج ليس منّا أهلَ البيت (13).
 

المنهج السياسيّ للإمام العسكريّ عليه السّلام
واجه الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام، في الظروف الخطيرة التي عاصرها، مسؤوليّةً كبيرة على المستوى السياسيّ والثقافيّ، فقد كان عليه ـ علاوة على الاستمرار في نهج آبائه الكرام عليهم السّلام في نشر الثقافة الإسلاميّة الأصيلة وتثبيت القيم الإسلاميّة ـ أن يتصدّى لجملة من المخاطر التي كانت تُهدّد خطّ الإمامة، وتسعى جاهدة في استئصال القواعد المؤمنة الموالية لخطّ الإمامة؛ وأن يُمهّد ـ فوق ذلك ـ لحدث خطير كان على مشارف الحدوث، هو غيبة الإمام المهديّ عليه السّلام، من أجل تخفيف الوطأة على القواعد الشيعيّة، ورسم الخطوط العامّة لوظائف وتكاليف تلك القواعد في عصر الغيبة.
وكان الإمام العسكريّ عليه السّلام يفعل كلّ هذه المهام الصعبة في ظروف دقيقة كان السلطان يبتغي له فيها الغوائل، وقد نقل المؤرّخون أنّ المهتدي العبّاسيّ تَهدّد الإمام العسكريّ عليه السّلام بقوله: « واللهِ لأجلينّهم عن جديد الأرض » (14)، وأنّ الإمام العسكريّ عليه السّلام حُبس مرّةً عند علي بن أوتامش ـ وكان شديد العداوة لآل محمّد عليهم السّلام، غليظاً على آل أبي طالب ـ وقيل له: إفعل به وافعل (15).
ونقلوا أنّ العبّاسيين خلوا على صالح بن وصيف لمّا حُبس الإمام العسكريّ عليه السّلام عنده فقالوا له: ضَيِّق عليه، فقال لهم أنّه وكّل به رَجُلَين مِن شَرّ مَن قَدَر عليه (16).
ونقلوا أنّ الإمام العسكريّ عليه السّلام سُلّم مرّةً إلى أحد خدم بني العبّاس ـ واسمه نحرير ـ فقال نحرير: واللهِ لأرمينّه بين السِّباع! ثمّ استأذنهم في ذلك فأذنوا له، فرمى به إليها، ثمّ نظروا إلى الموضع فوجدوه عليه السّلام قائماً يصلّي والسِّباع حوله (17).
وقد سطّر لنا التاريخ بأحرف من نور الانجازاتِ الرائعةَ التي قام بها الإمام العسكريّ عليه السّلام في مجال تحصين القواعد المؤمنة، وفي التمهيد للغيبة، وفي التصدّي لدعوات الإلحاد والتشكيك التي كانت تطرأ على المجتمع المسلم يومذاك.
 

الإمام العسكريّ عليه السّلام يقمع التشكيك بالقرآن
ينقل ابن شهرآشوب أنّ إسحاق الكِنديّ ـ وكان فيلسوف العراق في زمانه ـ أخذ في تأليف كتابٍ في تناقض القرآن، جمع فيه ما حَسِب أنّ فيه تناقضاً، وأنّ بعض تلامذة الكِنديّ دخل يوماً على الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام فقال له أبو محمّد عليه السّلام: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكنديّ عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن ؟
فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره ؟!
فقال له أبو محمّد عليه السّلام: أتُؤدّي عنّي ما أُلقيه إليك ؟
قال: نعم.
قال عليه السّلام: فصِرْ إليه وتَلطّفْ في مُؤانسته ومُعاونته على ما هو بسبيله، فإذا وَقَعت المؤانسةُ في ذلك، فقل له: « قد حَضَرَتْني مسألة، أسألك عنها ؟ » فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: « إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غيرَ المعاني التي قد ظننتَها أنّك ذهبتَ إليها ؟ »، فإنّه سيقول لك: « إنّه من الجائز » لأنّه رجلٌ يفهم إذا سمع.
فإذا أوجب ذلك، فقلُ له: « فما يُدريك لعلّه قد أراد غيرَ الذي ذهبتَ إليه أنت، فيكون واضعاً لغير معانيه ! ».
فصار الرجل إلى الكنديّ وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له الكنديّ: أعِدْ علَيّ! فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمتُ عليك إلاّ أخبرتَني مِن أين لك ؟ فقال: إنّه شيءٌ عَرَض بقلبي فأوردتُه عليك.
فقال الكِنديّ: كلاّ، ما مِثلُك مَن اهتدى إلى هذا، ولا مَن بلغ هذه المنزلة؛ فعرِّفني مِن أين لك هذا ؟
فقال: أمرني به أبو محمّد عليه السّلام.
فقال الآن جئتَ به، وما كان ليخرج مثلُ هذا الاّ من ذلك البيت. ثمّ إنّه دعا بالنار وأحرق جميعَ ما كان ألّفه (18).
 

قصّة الإمام العسكريّ عليه السّلام مع الجاثليق
روى ابن شهرآشوب أنّه كان في زمن أبي الحسن العسكريّ عليه السّلام قَحط، وأنّ المسلمين خرجوا للاستسقاء فلم يُمطَروا، قال: فَخُرِج يوم الرابع بالجاثليق مع النصارى فسُقوا؛ فخرج المسلمون في اليوم الخامس فلم يُمطَروا، فشكّ الناس في دينهم؛ فأخرج المتوكّل الحسن العسكريّ عليه السّلام من السجن وقال: أدرِك دينَ جدّك يا أبا محمّد! فلمّا خرج النصارى ورفع الراهب يده إلى السماء، قال أبو محمّد عليه السّلام لبعض غِلمانه: خُذ مِن يدهِ اليُمنى ما فيها! فلمّا أخذه كان عظماً أسوَد. ثمّ قال عليه السّلام: استَسقِ الآن! فاستسقى فلم يُمطر وأوضحت السماء، فسأل المتوكّل عن العظم، فقال عليه السّلام: لعلّه أُخذ من قبر نبيّ، ولا يُكشف عظم نبيّ إلاّ لَيُمطَر (19).
 

تمهيد الإمام العسكريّ عليه السّلام لغيبة الإمام المهديّ عليه السّلام
حدّثنا التاريخ عن الجهود الكبيرة التي بذلها الإمام العسكريّ عليه السّلام من أجل تحصين القواعد الشيعيّة المؤمنة وتثبيتها، وصولاً إلى الحفاظ عليها من الضلال والتشتّت، وتقليلاً للصدمة التي تنجم عادة عن الغَيبة بما تمثّله من تقليل التواصل الفاعل بين الإمام عليه السّلام وقواعده المؤمنة إلى درجات أدنى، وحصر ذلك التواصل عن طريق السفراء المعيّنين ( وهم أربعة سفراء: أوّلهم عثمان بن سعيد العَمْريّ، ثمّ ابنه محمّد بن عثمان بن سعيد، ثمّ الحسين بن روح النوبختيّ، ثمّ عليّ بن محمّد السَّمَريَّ ).
ومن الأمور الهامّة التي قام بها الإمام العسكريّ عليه السّلام في التمهيد للغيبة:
1 ـ تقديم الهويّة الكاملة للإمام المهديّ عليه السّلام وبيان دوره المستقبليّ في إقرار العدل والأمان في ربوع البسيطة.
ونلاحظ في هذا المجال أنّ الإمام العسكريّ عليه السّلام قد أخرج ولده محمّداً عليه السّلام في اليوم الثالث من مولده، وعرضه على أصحابه قائلاً: هذا صاحبكم مِن بَعدي، وخليفتي فيكم، وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالانتظار؛ فإذا امتلأت الأرض جَوراً وظلماً خرج فيملأها قسطاً وعدلاً (20).
كما أنّ الإمام العسكريّ عليه السّلام كتب إلى خواصّ شيعته وأطلعهم على ولادة الإمام المهديّ عليه السّلام. يروي الشيخ الصدوق عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمّي، قال:
لمّا وُلد الخلف الصالح عليه السّلام ( وهذا من الألقاب التي لُقّب بها الإمام المنتظر عليه السّلام ) وَرَد عن مولانا أبي محمّد الحسن بن عليّ عليه السّلام إلى جدّي أحمد بن إسحاق كتاب، فإذا فيه مكتوب بخطّ يده عليه السّلام الذي كانت تَرِد به التوقيعات عليه: « وُلد لنا مولود، فليكُنْ عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنّا لم نُظهر عليه إلاّ الأقرب لقرابته، والوليّ لولايته؛ أحببنا إعلامك ليسرّك الله به مثل ما سرّنا به، والسلام » (21).
2 ـ المحافظة على الإمام المهديّ عليه السّلام، من خلال سَتره عن أعين أعدائه، وإخفاء أمره ولادته عنهم.
وقد نجح الإمام العسكريّ عليه السّلام في هذين المجالين نجاحاً كبيراً، فلم يطّلع أعداؤه عليه السّلام على ولادته، ولم يعرفوا مكانه. ويحدّثنا التاريخ أنّ رجال السلطة أرسلوا بعد شهادة الإمام العسكريّ عليه السّلام مَن فتّش داره، ثمّ احتجزوا نساءه وإماءه، وأوعزوا إلى نساءٍ يفتّشن جواري الإمام ونساءه، فمن كان بها أثر الحمل أُلقي عليها القبض (22).
كما نلاحظ في هذا المجال أنّ الإمام العسكريّ عليه السّلام يُوصي إلى أمّه من أجل الستر على ابنه المهديّ عليه السّلام، حيث روى الصدوق عن أحمد بن إبراهيم أنّه دخل على حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السّلام وكلّمها من وراء الحجاب، ثمّ إنّه سألها عن ابن الإمام الحسن عليه السّلام، فقالت له بأنّه مستور، فقال: فإلى مَن تفزع الشيعة ؟
قالت: إلى الجدّة أمّ أبي محمّد عليه السّلام.
فتساءل أحمد بن إبراهيم عن هذه الوصيّة، بمَن اقتدى الإمام العسكريّ عليه السّلام، فقالت حكيمة: اقتداءً بالحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.. إنّ الحسين بن عليّ عليه السّلام أوصى إلى أخته زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في الظاهر، وكان ما يخرج من عليّ بن الحسين عليه السّلام من عِلم يُنسَب إلى زينب بنت عليّ تستّراً على عليّ بن الحسين عليه السّلام (23).
 

منزلة الإمام العسكريّ عليه السّلام لدى جماهير الشيعة
عاش الإمام العسكريّ عليه السّلام وسط جماهير شيعته، يتعاهدهم ويُحسن إليهم ويأمرهم بالتآخي والتآلف، وقد بالغ في رعاية شيعته إلى الحدّ الذي كان يحذّرهم معه من أعين السلطة التي كانت ترصد حركاتهم وسكناتهم. وقد روى ابن شهرآشوب أنّ الإمام العسكريّ عليه السّلام قال للحسن بن محمد العقيقيّ ومحمّد بن إبراهيم العمريّ ـ وكانا معه في الحبس ـ: لولا أنّ فيكم مَن ليس منكم، لأعلمتُكم متى يُفرج عنكم ـ وأومأ عليه السّلام إلى الجُمَحيّ أن يخرج فخرج ـ فقال أبو محمّد عليه السّلام: هذا الرجل ليس منكم فاحذروه؛ وإنّ في ثيابه قصّة ( ورقة ) قد كتبها إلى السلطان يُخبره بما تقولون؛ فقام بعضُهم ففتّش ثيابه، فوجدوا القصّة يذكرهم فيها بكلّ عظيمة (24).
ورأينا الإمام العسكريّ عليه السّلام يكتب إلى عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي:... عليك بالصبر وانتظار الفرج؛ قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: « أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج »؛ ولا يزال شيعتنا في حُزن حتّى يظهر ولدي الذي بشّر به النبيّ صلّى الله عليه وآله، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً؛ فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن عليّ، وأْمُرْ جميع شيعتي بالصبر، فإنّ الأرض لله يُورثها مَن يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين، والسّلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته، وصلّى الله على محمّد وآله (25).
وقد بادل الشيعة إمامهم عليه السّلام الودَّ والحبّ والاحترام، ولذلك رأينا أحمد بن عبيدالله بن خاقان ـ وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت ـ يقول عن الإمام العسكريّ عليه السّلام: ما رأيتُ ولا عرفتُ من العَلَويّة مثل الحسن بن عليّ بن محمّد بن الرضا في هَدْيه وسُكونه، وعفافه ونُبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم كافّة، وتقديمهم له على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك كانت حاله عند القوّاد والوزراء وعامّة الناس (26).
وروى ابن شهرآشوب أنّ جعفر الكذّاب اجتهد في أن يقوم مقام الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام بعد وفاته فلم يقبله أحد، بل بَرِئوا منه ولقبّوه الكذّاب، فورد على عبدالله بن خاقان وقال: اجعل لي مرتبة أخي وأنا أوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار، فزبره وقال: يا أحمق! إنّ السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمّة ليردّهم عن ذلك فلم يتهيّأ له؛ فإن كنتَ عند شيعة أبيك وأخيك إماماً، فلا حاجة بك إلى مرتب؛ ثمّ أمر أن يُحجَب عنه (27).
وروى الطبرسيّ أنّه لمّا ذاع خبر وفاة الإمام العسكريّ عليه السّلام صارت « سُرّ من رأى » ضجّةً واحدة، وعُطّلت الأسواق، وركب بنو هاشم والقُوّاد، وسائر الناس إلى جنازته، فكانت « سرّ من رأى » يومئذٍ شبيهاً بالقيامة (28).


1 ـ مدينة سامرّاء الحاليّة، وتقع إلى الشمال من العاصمة العراقية بغداد. 
2 ـ إثبات الوصيّة للمسعوديّ 207. 
3 ـ كمال الدين للصدوق 501:2 / ح 27؛ بحار الأنوار 364:51. 
4 ـ الإرشاد للمفيد 313:2. 
5 ـ الإرشاد 314:2. 
6 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 149:2. 
7 ـ إعلام الورى 132:2. 
8 ـ تاريح بغداد للخطيب البغدادي 287:12 ـ 288. 
9 ـ مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهانيّ 599. 
10 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير 38:7. 
11 ـ منهاج الكرامة للعلاّمة الحلّيّ 62؛ تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزيّ 359. 
12 ـ أحداث التاريخ الإسلاميّ لعبد السلام الترمانيني، المجلّد الأوّل من الجزء الثاني 33 ـ 34. 
13 ـ بحار الأنوار للمجلسي 293:50. 
14 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 145:2. 
15 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 150:2. 
16 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 150:2. 
17 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 151:2. 
18 ـ مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 425:4. 
19 ـ المناقب لابن شهرآشوب 425:4. 
20 ـ كمال الدين للصدوق 396:1 / ح 8. 
21 ـ كمال الدين للصدوق 398:1 / ح 16. 
22 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 151:2؛ كمال الدين للصدوق 430:1 ـ 431 / ح 25. 
23 ـ كمال الدين للصدوق 454:1 / ح 27 ـ الباب 45. 
24 ـ المناقب لابن شهرآشوب 437:4. 
25 ـ المناقب لابن شهرآشوب 426:4. 
26 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 147:2. 
27 ـ المناقب لابن شهرآشوب 422:4؛ إعلام الورى للطبرسيّ 149:2. 
28 ـ إعلام الورى للطبرسيّ 149:2.