شذرات نورانيّة (41)

شذرات نورانيّة (41)

الدنيا
 إنّ من المخاطر التي تنتاب المرء تقلّبَ الدنيا، فيلقى بذلك صدمةً كبيرةً إذا كان رَكَنَ إليها واعتمد عليها ووَثِق بها، وجعَلَها همَّه وآخرتَه، ومن هنا جاءت الروايات تحذّر من ذلك:
ـ ممّا أوصى به آدمُ عليه السلام وصيَّه وولدَه شيثَ عليه السلام أن قال له: « لا تَركَنوا إلى الدنيا الفانية، فإنّي ركنتُ إلى الجنّة الباقية فما صحّت لي وأُخرِجت منها » ( بحار الأنوار 452:78 / ح 19 ).
ـ وفيما أوحى الله تعالى إلى موسى الكليم عليه السلام: « يا موسى لا تَركنْ إلى الدنيا ركونَ الظالمين، وركونَ مَن اتّخذَها أمّاً وأباً... واترُكْ مِن الدنيا ما بِكَ الغنى عنه... » ( بحار الأنوار 353:13 ـ 354 / ح 51 ).
ـ ومن كلامٍ لأمير المؤمنين عليه السلام قال واعظاً: « انظروا إلى الدنيا نظرَ الزاهدين فيها، فإنّها عن قليلٍ تُزيل الساكن، وتفجع المترف، فلا تغرّنّكم كثرةُ ما يُعجِبكم فيها لقلّة ما يَصحَبكم منها، فرَحِمَ اللهُ امرءاً تفكّر واعتبر، وأبصر إدبارَ ما قد أدبر... » ( بحار الأنوار 20:78 / ح 79 ).
 ولعلّ متسائلاً يقول: كيف نعلم أنّنا من أهل الدنيا وعبيدها أم من أهل الآخرة ؟ ويأتي الجواب في الحديث القدسي الشريف يخاطب الله تعالى فيه حبيبَه المصطفى صلّى الله عليه وآله بهذا الخطاب:
ـ « يا أحمد، إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقةٌ وجوههم، كثيرٌ حياؤهم، قليلٌ حُمقُهم، كثيرٌ نفعهم... الناس منهم في راحة وأنفسُهم منهم في تعب، كلامهم موزون، محاسِبينَ لأنفسهم... ».
وحين سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله ربَّه جلّ وعلا: يا ربّ، مَن أهل الدنيا ؟ أجابه الباري تبارك وتعالى: « أهل الدنيا مَن كَثُر أكلُه وضَحِكُه ونومه وغضبه، قليل الرضا... كسلانُ عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أملُه بعيد وأجَلُه قريب، لا يحاسب نفسَه، قليل المنفعة، كثير الكلام، قليل الخوف ( أي من الله عزّوجلّ )، كثير الفرج عند الطعام. وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء، ولا يصبرون عند البلاء،.. يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويَدّعون بما ليس لهم، ويتكلّمون بما يتمنَّون، ويذكرون مساوئ الناس ويُخْفون حسناتهم.
فقال صلّى الله عليه وآله: يا ربّ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا ؟ قال: يا أحمد، إنّ عيب أهل الدنيا كثير، فيهمُ: الجهل، والحمق، لا يتواضعون لِمَن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء، وعند العارفين حُمَقاء! « ( بحار الأنوار 23:77 ـ 24 / ح 6 ـ عن: إرشاد القلوب للديلمي ).
 وربَّ معترض عن سوء فهم يقول: هل يصبح بعد هذا أن تكون الدنيا ممقوتة فننبذها، ونُخْلي أنفسنا للآخرة فحسب ؟
الجواب: لا، والدليل هذه الروايات المباركة:
ـ في ظلّ قوله تعالى:  ولا تَنْسَ نصيبَكَ مِنَ الدنيا  [ سورة القصص:77 ]، قال أمير المؤمنين عليه السلام: « لا تَنسَ صحّتَك وقوّتك وفراغك وشبابك ونشاطك، أن تطلب بها الآخرة » ( معاني الأخبار:325 ).
ـ وقال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام: « إجعلوا لأنفسكم حظّاً من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال، وما لا يثلم المروّة، وما لا سَرَفَ فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين؛ فإنّه رُويَ: « ليس مِنّا مَن ترك دنياه لآخرته، أو ترك آخرته لدنياه » ( بحار الأنوار 321:78 / ح 18 ).
ـ وقال سلام الله عليه أيضاً: « إجتهِدوا في أن يكون زمانُكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثِّقاتِ الذين يُعرّفونكم عيوبكم ويُخْلصون لكم في الباطن، وساعة تَخلُون فيها لِلَذّاتِكم في غير محرَّم، وبهذه الساعة تَقْدِرون على الثلاث ساعات » ( بحار الأنوار 321:78 / ح 18 ـ عن: تحف العقول:302 ).
 ونعود ـ أيّها الإخوة ـ إلى الدنيا فنتعرّف عليها مرّةً أخرى من خلال النصوص الشريفة:
ـ قال تعالى:  وفَرِحُوا بالحياةِ الدنيا، وما الحياةُ الدنيا إلاّ مَتاع  [ سورة الرعد:26 ].
ـ وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « ما الدنيا في الآخرة إلاّ مِثلُ ما يَجعل أحدُكم إصبعَه في اليمّ، فَلْيَنظر بِمَ يَرجِع! » ( بحار الأنوار 119:73 / ح 110 ـ عن: روضة الواعظين ).
ـ وقال أمير المؤمنين عليه السلام: « أيّها الناس، إنّما الدنيا دارُ مَجاز، والآخرة دار قرار، فَخُذوا مِن ممرّكم لمَقرّكم » ( شرح نهج البلاغة 3:11 ).
ـ وروي عن السيّد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام قوله: « مَن ذا الذي يبني على موج البحر داراً ؟! تلك الدنيا، فلا تَتّخِذوها قراراً » ( بحار الأنوار 326:14 ).
ـ وعن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم: « الدنيا ساعة، فاجعلوها طاعة » ( بحار الأنوار 164:77 ).
ـ وجاء عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام قوله: « إنّ جميع ما طَلعَت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها، بحرها وبرّها وسهلها وجبلها، عند وليٍّ من أولياء الله وأهل المعرفة بحقّ الله، كفَيْءِ الظِّلال.. » ( بحار الأنوار 306:78 ).
ـ وفيما أوصى لقمان ابنه قال له: « إنّ الدنيا بحرٌ عميق قد غَرِق فيها عالَمٌ كثير، فَلْتكنْ سفينتُك فيها تقوى الله، وحَشْوُها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكّانها الصبر » ( الكافي 16:1 / ح 12 ـ كتاب العقل والجهل ).
ـ ومن خطابٍ واعظ قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله جاء فيه: « أيُّها الناس، إنّ مَن في الدنيا ضيف، وما في أيديهم عارية، وإنّ الضَّيف مرتحل، والعارية مردودة. ألا وإنّ الدنيا عرضٌ حاضر، يأكل منه البَرّ والفاجر، والآخرة وعدٌ صادق، يَحكُم فيها مَلِكٌ عادلٌ قادر. فَرَحِم الله امرءاً ينظر لنفسه، ومَهَّد لرَمسِه، ما دام رَسَنُه مرخيّاً، وحَبلُه على غاربه مَلْقيّاً، قبلَ أن يَنفَدَ أجَلُه، وينقطع عمَلُه » ( بحار الأنوار 189:77 / ح 10 ـ عن: أعلام الدين للديلمي ).
 بعد هذا لا يكفّ القرآن الكريم ولا السنّة الشريفة من أن يقدّما للناس كلَّ نصيحةٍ وموعظة، وكلَّ عِبرةٍ مُوقظة، ليتّزنوا ويعلموا أنّ الدنيا ليست كلَّ العيش، إنّما هي أيّام وساعات يغتنمها العاقل فيطلب بها سعادةً ونعيماً خالدَين دائمين:
ـ قال تعالى:  تَبتَغونَ عَرَضَ الدنيا، فعِندَ اللهِ مغانمُ كثيرة  [ سورة النساء:94 ].
ـ وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « إنّ الله يُعطي الدنيا مَن يُحبّ ويُبغض، ولا يُعطي الآخرةَ إلاّ لمَن يُحبّ. وإنّ للدنيا أبناء، وللآخرة أبناء، فكونوا مِن أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا » ( بحار الأنوار 190:77 / ح 10 ـ عن: إعلام الدين / ح 39 من رواية ابن ودعان ).
ـ وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام تنبيه عجيب يفوز به مَن استفاد منه، حيث يقول: « ما بالُكم تفرحون باليسير مِن الدنيا تُدركونه، ولا يَحزنكم الكثيرُ من الآخرة تُحرَمونه ؟! » ( غرر الحكم:312، عيون الحكم 427:6 ).