شذرات نورانيّة (42)

شذرات نورانيّة (42)

الدَّهْر
 للدهر معانٍ.. هل هو الوقت والزمان، هل هو الوقائع والأحداث، هل هو مخلوق كأنّه شخص واعٍ متحكِّم مؤثّر في الأبدان والأنفس والآثار ؟ على كلّ حال، هو يُفهَم من خلال سياق الكلام.. وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام فيه هذه العبارات الحكيمة:
ـ « الدهر يُخلِق الأبدان ( أي يُتلفها )، ويُجدّد الآمال، ويُقرّب المَنيّة، ويُباعد الأُمنيّة. مَن ظَفِرَ به تَعِب، ومَن فاتَه نَصِب » ( بحار الأنوار 67:78 / ح 8 ـ عن: المناقب لابن الجوزي:77. وفي نهج البلاغة: الحكمة 72، وفيه: « مَن ظَفِر به نَصِب، ومَن فاتَه تَعِب ». ونَصِب: أعيا ).
ـ « إنّ الدنيا دارُ فَناءٍ وعَناء، وغِيَرٍ وعِبَر، فَمِن الفَناء أنّ الدهر مُوتِرٌ قوسَه، لا تُخطئ سِهامُه، ولا تُوسى جراحه ( أي لا تُدارى )، يرمي الحيَّ بالموت، والصحيحَ بالسَّقَم، والناجيَ بالعَطَب ( أي الهلاك ) » ( نهج البلاغة: الخطبة 114 ).
ـ « مَن عَتَب على الدهرِ طال مَعتَبُه » ( غرر الحكم:282 ).
ـ « الدهرُ يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك، فإذا كان لك فلا تَبْطَر، وإذا كان عليك فلا تَحزَن، فبِكلَيهِما ستُختبَر » ( بحار الأنوار 44:78 / ح 42 ـ عن: تحف العقول:207. وفي بعض المصادر: وإن كان عليك فلا تَضْجَر ).
ـ وفيما أوصى ولدَه الحسنَ المجتبى عليه السلام أن قال له: « واعلَمْ يا بُنيَّ أنّ الدهر ذو صُروف، فلا تكنْ ممّن يشتدُّ لائمتُه، ويقلّ عند الناس عذرُه » ( بحار الأنوار 212:77 / ح 1 ـ عن: كشف المحجّة لثمرة المهجة، للسيّد ابن طاووس:157 / الفصل 154 ).
ـ « لا يُستعان على الدهر إلاّ بالعقل » ( بحار الأنوار 7:78 / ح 59 ـ عن: مطالب السَّؤول، لابن طلحة الشافعي:49 ).
 وحول عقيدة الدهريّة، جاء في كتاب الله العزيز قوله تعالى:  وقالُوا ما هيَ إلاّ حياتُنا الدنيا نموتُ ونَحْيا وما يُهلِكُنا إلاَّ الدَّهْرُ، وما لَهُم بِذلكَ مِن عِلمٍ إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّون  [ سورة الجاثية:24 ].
ـ وفي ما احتج به رسول الله صلّى الله عليه وآله على المشركين والزنادقة، أن أقبل عليهم قائلاً: « وأنتم، فما الذي دعاكم إلى القول بأنّ الأشياء لابدءَ لها، وهيَ دائمةٌ لم تَزَل ولا تزال ؟ »، فقالوا: لأنّا لا نحكم إلاّ بما نشاهد، ولم نجد للأشياء مُحْدِثاً، فحَكَمْنا بأنّها لم تَزَل، ولم نجد لها انقضاءً وفناءً، فحكَمْنا بأنّها لا تزال. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « أفَوَجدتُم لها قِدَماً، أم وجدتُم لها بقاءً أبد الآباد ؟ فإن قلتم أنّكم وجدتم ذلك أثْبتُّم لأنفسكم أنّكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية، ولا تزالون كذلك. ولئن قلتم هذا دفعتُم العَيان وكذّبكم العالِمون الذين يشاهدونكم! »، قالوا: بل لم نشاهد لها قِدَماً ولا بقاءً أبد الآباد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « فَلِمَ صِرتُم بأن تحكموا بالقِدم والبقاء دائماً ؟ لأنّكم لم تشاهدوا حدوثَها وانقضاءها أَولى مِن تارك التميّز لها مثلُكم، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع، لأنّه لم يشاهد لها قِدَماً ولا بقاءً أبدَ الآباد. أوَ لستُم تشاهدون الليل والنهار وأحدُهما بعد الآخر ؟ »، فقالوا: نعم، فقال: « أفَتَرَونها لم يزالا ولا يزالان ؟ »، فقالوا: نعم، قال: « أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟ »، فقالوا: لا، فقال صلّى الله عليه وآله: « فإذاً ينقطع أحدُهما عن الآخر، فيسبق أحدُهما ويكون الثاني جارياً بعده »، فقالوا: كذلك هو، فقال: « قد حكمتم بحدوث ما تقدّم مِن ليلٍ ونهار ولم تشاهدوهما، فلا تُنكروا لله قدرة.. » ( بحار الأنوار 261:9 ـ 262 / ح 1 ـ عن: تفسير الإمام العسكري عليه السلام ).
 

المُداهَنة
 قال تعالى:  وَدُّوا لَو تُدْهِن فَيُدْهِنُون  [ سورة القلم:9 ].
الإدهان مِن الدُّهن، يُراد به التليين، أي أحبَّ هؤلاء المكذِّبون أن تليّنهم بالاقتراب منهم في دِينك، فيُليّنوك بالاقتراب منك في دِينهم. ومحصّلُه أنّهم وَدُّوا أن تصالحهم ويصالحوك على أن يتسامح كلٌّ منكم بعضَ المسامحة في دِين الآخَر ـ كما قيل: إنّهم عَرَضوا عليه صلّى الله عليه وآله أن يَكفَّ عن ذِكر آلهتهم، فيكفُّوا عنه وعن ربّه عزّوجلّ. ( الميزان للسيّد محمّد حسين الطباطبائي 371:19 ).
 وقد روى البرقيّ في ( المحاسن ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: « ما مِن مؤمنٍ خلص ودّي إلى قلبه إلاّ وقد خلص ودُّ عليٍّ إلى قلبه كَذِب ـ يا عليُّ ـ مَن زعم أنّه يُحبّني ويُبغضك ».
فقال رجلان من المنافقين: لقد فُتن به! فأنزل الله تبارك وتعالى:  فَسَتُبصِرُ ويُبصِرون * بِأيِّكمُ المَفتُون... * وَدُّوا لَو تُدهِنُ فَيُدْهنُون * ولا تُطِعْ كلَّ حَلاّفٍ مَهين..  [ سورة القلم:5 ـ 10 ]. ( عنه: تفسير نور الثقلين للحويزي 392:5 / ح 30 ).
 وحول مداهنة أهل المعاصي، رُويَ عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: « أوحى الله تعالى إلى شعيبٍ النبيّ: إنّي مُعذِّبٌ مِن قومك مئةَ ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستّين ألفاً من خيارهم. فقال: يا ربّ، هؤلاءِ الأشرار، فما بالُ الأخيار ؟! فأوحى الله عزّوجلّ إليه: داهَنُوا أهلَ المعاصي، فلم يغضبوا لغضبي » ( الكافي للكليني 56:5 / ح 1، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي 181:6 / ح 372، مشكاة الأنوار لعليّ بن الحسن الطبرسي 112:1 / ح 241 ).
ـ وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: « شرُّ إخوانك مَن داهَنَك في نفسك، وساتَرَك في عَيبِك » ( غرر الحكم:197، عيون الحكم 222:6 ).
ـ وعنه سلام الله عليه أيضاً: « لا تُرخِّصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تدهنوا في الحقّ فتخسروا » ( الكافي 45:1 ).
ـ وقال عليه السلام كذلك: « لا تُرخِّصوا لأنفسكم فتذهبَ بِكمُ الرُّخَصُ مَذاهبَ الظَّلَمة، ولا تُداهنوا فيَهجُمَ بكمُ الإدْهان على المعصية » ( نهج البلاغة: الخطبة 86 ).
ـ وعنه عليه السلام ورد قوله: « لا تدهنوا في الحقّ إذا وَرَد عليكم وعَرَفتموه فتَخسَروا خُسراناً مبيناً » ( بحار الأنوار 293:77 / ح 1 ـ عن: تحف العقول ـ خطبة الوسيلة ).
ـ وفي وصفٍ له لحالاتٍ من حالات المجتمع قال عليه السلام في خطبةٍ له: « واعلموا ـ رَحِمكمُ الله ـ أنّكم في زمانٍ: القائلُ فيه بالحقِّ قليل، واللسانُ عن الصِّدقِ كَلِيل، واللاّزمُ للحقِّ ذليل. أهلُه معتكفون على العصيان، مُصْطَلِحون على الإدْهان.. » ( نهج البلاغة: الخطبة 233 ).