شذرات نورانيّة.. (48)

شذرات نورانيّة.. (48)

الذنب ـ تتمّة
قد يُسأل: هل العاقل يُذنب ؟ الجواب: إنّ العقل لا يتقبّل أن يكون الإنسان محبّاً لنفسه وهو في الوقت ذاته يكون معادياً لها، آخذاً بها إلى طريق الهلاك والعذاب المهين، ولذا نراه يعترض على ارتكاب الذنب.. كيف ؟
ـ يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: « مَن قارف ذنباً فارقه عقلٌ لا يَرجِع إليه أبداً! » ( المحجّة البيضاء 160:8 ). ومن هنا:
ـ يقول الإمام موسى الكاظم عليه السلام أيضاً: « إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب! وتركُ الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض » ( بحار الأنوار 301:78 ـ عن: تحف العقول ).
ـ والعقل يطالب العاقل ألاّ يعصي الله: إمّا شكراً له على نعمائه، وإمّا رجاءً منه لرحماته.. وهذانِ حديثان علويّان يُوقفان العاقل على الدليل:
« لو لم يُرغِّب اللهُ سبحانه في طاعته، لوجب أن يُطاعَ رجاءَ رحمتِه » ( عيون الحكم 343:6 ).
ـ « لو لم يتوعّد اللهُ سبحانه على معصيتهِ، لَوجَب أن لا يُعصى شكراً لنعمته » ( غرر الحكم:262 ).
وهنا مسألة تدور بين اكتساب الحسنة واجتناب السيّئة، ما هو الأَولى يا ترى ؟ يُجيب على ذلك حديث علويّ آخر، نصُّه:
« اجتناب السيّئات أَولى من اكتساب الحسنات » ( غرر الحكم:36 ).
نعم، فالواجب طاعةُ الله، والأوجب ترك معصية الله. والعقل يُرشد إلى اجتناب الذنوب، فإنّها مخرّبة، وقد ورد عن أهل البيت عليهم السلام هذا الحديث الشريف: « جِدُّوا واجتهدوا، وإن لم تعملوا فلا تعصوا؛ فإنّ مَِن يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيراً، وإنّ مَن يبني ويهدم يُوشِك أن لا يرتفع بناؤه » ( بحار الأنوار 286:70 / ح 8 ).
وإذا كانت للرحمة الإلهيّة صورٌ وشواهد كثيرة وعظيمة، فإنّ إحداها أنّ الحسنة تضاعَف عشراً، والسيئة إن لم يستغفر منها تبقى واحدة، لكن هل نفع ذلك كثيرَ المذنبين يا تُرى ؟ وهل اغتنموا هذه الرحمة العظيمة ؟ والله تعالى يقول:
ـ مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالِها، ومَن جاءَ بالسيّئةِ فلا يُجزى إلاّ مِثْلَها [ الأنعام:160 ].
ـ وفي وصاياه لولده الحسن المجتبى عليه السلام، كتب أمير المؤمنين عليه السلام إليه: « ولم يُشدِّدْ عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يُؤيِسْك من الرحمة، بل جعل نُزوعك عن الذنب حسنة، وحَسَب سيّئتَك واحدة، وحسب حسنتَك عشراً، وفتح لك بابَ المتاب » ( نهج البلاغة: الكتاب 31 ).
ـ ولكن.. بعد هذا كلّه، يقول الإمام زينُ العابدين عليه السلام:
« يا سَوأتاهُ لمَن غَلَبت إحداتُه عشراتِه! » ( بحار الأنوار 139:78 / ح 24 ـ عن: تحف العقول ).
وأمرٌ آخر في قضيّة ارتكاب الذنب، ذلك هو خيبة الهمم المتوجّهة إلى ارتكاب
الذنب، وفشلها.. وهذان أمام أعيننا حديثانِ شريفان يقولان:
ـ « مَن حاول أمراً بمعصية الله كان أبعدَ له ممّا رجا، وأقربَ ممّا اتّقى ! » ( رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ بحار الأنوار 180:77 / ح 10 ـ عن: إعلام الدين ).
ـ « مَن حاول أمراً بمعصية الله كان أفوتَ لما يرجو، وأسرعَ لمجيء ما يحذر ! » ( زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام ـ بحار الأنوار 392:73 / ح 3 ـ عن: الكافي ).
وهنا أحببنا أن نتطرّق إلى موضوعٍ آخر، وهو أنّ الذنب يرتكبه المرء متستّراً بعيداً عن أعين الناس، وقد يستحي أن يُعرَف به أو يشتهر عنه، لكنّ بعض المذنبين نراهم يتجاهرون بالذنب، إمّا أنّهم لا يعبأون بالمجتمع ولا يستَحْيون، وإمّا أنّهم يفتخرون أو يُراؤون بقبائحهم، وأولئك لهم حسابٌ خاص:
ـ روى الهندي في ( كنز العمال / خ 10338 ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: « كلُّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل فيستره ربّه، ثمّ يصبح فيقول: يا فلان، إنّي عَمِلتُ البارحة كذا وكذا... ».
ـ وروى الصدوق في ( الخصال:119 / ح 107 ) عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: « إنّي لأرجو النجاة لهذه الأمّة لمَن عَرَفِ حقَّنا منهم، إلاّ لأحد ثلاثة: صاحب سلطانٍ جائر، وصاحب هوى، والفاسق المُعلِن ».
ـ وفي ( غرر الحكم:317، 77 ) أورد الآمدي هذين الحديثين العلويَّين:
« مُجاهرة الله سبحانه بالمعاصي تُعجِّل النِّقم ».
« إيّاك والمجاهرةَ بالفجور، فإنّها من أشدّ المآثم ».
وإذا افترضنا أنّ بعض الذنوب عظيمة وبعضها أعظم، وكلُّها كبيرة؛ لأنّها معصية للعظيم الجبار جَلّ وعلا.. فإنّ ذنوباً رهيبة ينبغي أن يتجنّبها المرء ويتحاشاها، بل ويهرب منها، فإنّها الأعظم من بين الذنوب.. ذكرها أهل البيت الكرام، عليهم أفضل الصلاة والسلام، منها:
ـ قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: « أعظمُ الذنب عند الله أن تجعل له نِدّاً وهو خَلَقَك.. » ( كنز العمّال / خ 43869 ).
ـ وقول أمير المؤمنين عليه السلام: « أعظمُ الذنوب عند الله ذنبٌ أصرّ عليه عاملُه » ( غرر الحكم:92 )، وقوله: « أعظمُ الذنوب عند الله سبحانه ذنبٌ صَغُر عند صاحبه » ( عيون الحكم 31:6 ).
ـ وقول الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام محذِّراً: « إيّاك والابتهاجَ بالذنب ، فإنّ الابتهاج به أعظمُ مِن ركوبه! » ( بحار الأنوار 159:78 / ح 18 ـ عن: نثر الدرر ).
ـ وقول الإمام الباقر عليه السلام: « الذنوبُ كلّها شديدة، وأشدُّها ما نبت عليه اللحم والدم! » ( بحار الأنوار 317:73 / ح 5 ـ عن الكافي 270:2 ).
أمّا أقذر الذنوب، فيقول فيها الإمام الصادق عليه السلام: « أقذرُ الذنوب ثلاثة: قتل البهيمة، وحبس مهر المرأة، ومنع الأجير أجرَه » ( بحار الأنوار 169:103 ـ عن: مكارم الأخلاق ).
وهنا بلغنا إلى ذنوبٍٍ ليست أعظمَ وأشدَّ فقط، بل هي ذنوب ـ والعياذ بالله تعالى منها ـ لا تُغفَر! وقد قال صريح القرآن الكريم:
ـ إنَّ اللهَ لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ بِهِ ويَغفِرُ ما دونَ ذلكَ لِمَن يَشاء [سورة النساء:48، 116].
وأمّا صريح الروايات، فهذا منها:
ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « إنّ الله عزّوجلّ غافر كلّ ذنب، إلاّ مَن أحدث دِيناً، أو اغتصب أجيراً أجرَه، أو رجلٌ باع حرّاً » ( عيون أخبار الرضا عليه السلام 33:2 / ح 60 ).
ـ وقال أمير المؤمنين عليه السلام: « إنّ الذنوب ثلاثة... فذنبٌ مغفور، وذنبٌ غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه... وأمّا الذنب الذي لا يُغفَر فظلمُ العباد بعضِهم لبعض.. » ( بحار الأنوار 29:6 / ح 35 ـ عن: المحاسن للبرقي: 7 / ح 18 ).
ـ وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله: « لكلّ ذنبٍ توبة، إلاّ سوءَ الخُلق؛ فإنّ صاحبه كلّما خرج مِن ذنبٍ دخل في ذنب! » ( بحار الأنوار 48:77 / ح 3 ـ عن: مكارم الأخلاق ).
ـ وعن الإمام السجّاد عليه السلام: « يغفر الله للمؤمنين كلَّ ذنب ويُطهّر منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبَين: ترك التقيّة، وتضييع حقوق الإخوان » ( بحار الأنوار 415:75 / ح 68 ـ عن: تفسير الإمام العسكري عليه السلام ).