التأويل

والتأويل كلمة أخرى ظهرت إلى صف كلمة: (التفسير) في بحوث القرآن عند المفسرين. واعتبرت - من قبلهم - متفقة بصورة جوهرية مع كلمة التفسير في المعنى. فالكلمتان معاً تدلان على بيان معنى اللفظ والكشف عنه قال صاحب القاموس: (أول الكلام تأويلاً: دبره وقدره وفسره) (1).
والمفسرون الذين كادوا أن يتفقوا على التوافق بين الكلمتين بشكل عام - اختلفوا في تحديد مدى التطابق بين الكلمتين.
ونحن هنا نذكر بعض الاتجاهات والمذاهب في ذلك:
1- الاتجاه العام لدى قدماء المفسرين الذي يميل إلى القول بالترادف بينهما. فكل تفسير تأويل. والعكس صحيح أيضاً وعلى هذا فالنسبة بينهما هي التساوي. ولعل منه قول مجاهد: إن العلماء يعلمون تأويله وقول ابن جرير الطبري في تفسيره (القول في تأويل قوله كذا.... واختلف أهل التأويل في الآية...).
2- الاتجاه العام لدى من تأخر عنهم من المفسرين الذي يميل إلى القول بأن التفسير يخالف التأويل في بعض الحدود: أما في طبيعة المجال المفسر والمؤول. أو في نوع الحكم الذي يصدره المفسر والمؤول وفي طبيعة الدليل الذي يعتمد عليه التفسير والتأويل. فهنا مذاهب نذكر منها ثلاثة:
أ- التمييز بين التفسير والتأويل في طبيعة المجال المفسر ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأن التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص. فالتأويل يصدق بالنسبة إلى كل كلام له معنى ظاهر فيحمل على غير ذلك المعنى فيكون هذا الحمل تأويلاً. والتفسير أعم منه لأنه بيان مدلول اللفظ مطلقاً أعم من أن يكون هذا المدلول على خلاف المعنى الظاهر أولاً.
ب- التمييز بين التفسير والتأويل في نوع الحكم ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأن التفسير والتأويل متباينان لأن التفسير هو: القطع بأن مراد اللّه كذا. والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون قطع وهذا يعني أن المفسر أحكامه قطعية والمؤول أحكامه ترجيحية.
ج- التمييز بينهما في طبيعة الدليل: ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأن التفسير هو: بيان مدلول اللفظ اعتماداً على دليل شرعي. والتأويل هو بيان اللفظ اعتماداً على دليل عقلي.

 

موقفنا من هذه الاتجاهات:

والبحث في تعيين مدلول كلمة التأويل والمقارنة بينها وبين كلمة التفسير يتسع في الحقيقة بقبول كل هذه الوجوه حين يكون بحثاً اصطلاحياً يستهدف تحديد معنى مصطلحي لكلمة التأويل في علم التفسير. لأن كل تلك المعاني داخلة في نطاق حاجة المفسر فيمكنه أن يصطلح على التعبير عن أي واحد منها بكلمة التأويل لكي يشير إلى مجال خاص أو درجة معينة من الدليل. ولا حرج عليه في ذلك. ولكن الخطر يكمن في اتخاذ المعنى المصطلحي معنى وحيد اللفظ، وفهم كلمة (التأويل) على أساسه إذا جاءت في (النص الشرعي).
ونحن إذا لاحظنا كلمة التأويل وموارد استعمالاتها في القرآن نجد لها معنى آخر لا يتفق مع ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير ولا يميزها عنه إلا في الحدود والتفصيلات فلكي نفهم كلمة التأويل يجب أن نتناول إضافة إلى معناها الاصطلاحي معناها الذي جاءت به في القرآن الكريم.
وقد جاءت كلمة التأويل في سبع سور من القرآن الكريم إحداها سورة آل عمران ففيها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ(2) والأخرى سورة النساء ففيها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(3) والثالثة سورة الأعراف ففيها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ / هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ(4) والرابعة سورة يونس ففيها قوله ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ(5) والخامسة سورة يوسف جاء فيها قوله ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ(6) والسادسة والسابعة سورتا الإسراء والكهف إذ جاء فيها كلمة التأويل على هذا المنوال أيضاً.
وبدراسة هذه الآيات نعرف أن كلمة التأويل لم ترد فيها بمعنى التفسير وبيان مدلول اللفظ ولا يبدو إمكانية ورودها بهذا المعنى إلا في الآية الأولى فقط لأن التأويل في الآية الأولى أضيف إلى الآيات المتشابهة ولهذا ذهب كثير من مفسري الآية إلى القول بأن تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها وتدل الآية عندئذ على عدم جواز تفسير الآية المتشابهة وبالتالي على أن قسماً من القرآن يستعصي على الفهم ولا يعلمه إلا اللّه والراسخون في العلم وأما ما يتاح للأنسان الاعتيادي فهمه وتفسيره ومعرفة معناه من القران فهو الآيات المحكمة منه فقط. وهذا الموقف الذي وقفه أولئك المفسرون من هذه الآية وحملهم لكلمة التأويل على ضرب من التفسير نتيجة لانسياقهم مع المعنى الاصطلاحي لكلمة التأويل ونحن بإزاء موقف من هذا القبيل يجب أن نعرف قبل كل شيء أن المعنى الاصطلاحي هل كان موجوداً في عصر القرآن، وهل جاءت كلمة التأويل بهذا المعنى وقتئذ ولا يكفي مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لنحمل كلمة التأويل فيها عليه.
وملاحظة ما عدا الأولى من الآيات التي جاءت فيها كلمة التأويل تدل على أنها كانت تستعمل في القران الكريم بمعنى آخر غير التفسير ولا نملك دليلاً على أنها استعملت بمعنى التفسير في مورد ما من القرآن.
والمعنى الذي يناسب تلك الآيات هو أن يكون المراد بتأويل الشيء ما يؤول إليه ولهذا أضيف التأويل إلى الراد إلى اللّه والرسول تارة، وإلى الكتاب أخرى، وإلى الرؤيا وإلى الوزن بالقسطاس المستقيم، وهذا نفسه هو المراد في أكبر الظن من كلمة التأويل في الآية الأولى التي أضيف فيها التأويل إلى الآيات المتشابهة في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾ فتأويل الآيات المتشابهة ليس بمعنى بيان مدلولها وتفسير معانيها اللغوية بل هو ما تؤول إليه تلك المعاني لأن كل معنى عام حين يريد العقل أن يحدده ويجسده، ويصوره في صورة معينة فهذه الصورة المعينة هي تأويل ذلك المعنى العام.
وعلى هذا الأساس يكون معنى التأويل في الآية الكريمة هو ما أطلقنا عليه اسم تفسير المعنى لأن الذين في قلوبهم زيغ كانوا يحاولون أن يحددوا صورة معينة لمفاهيم الآيات المتشابهة إثارة للفتنة لأن كثيراً من الآيات المتشابهة تتعلق معانيها بعوالم الغيب فتكون محاولة تحديد تلك المعاني وتجسيدها في صورة ذهنية خاصة عرضة للخطر وللفتنة ونستخلص من ذلك أمرين أحدهما أن التأويل جاء في القرآن بمعنى ما يؤول إليه الشيء لا بمعنى التفسير وقد استخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى لا تفسير اللفظ أي على تجسيد المعنى العام في صورة ذهنية معينة. والآخر أن اختصاص اللّه سبحانه والراسخين في العلم بالعلم بتأويل الآيات المتشابهة لا يعني أن الآيات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم وأن اللّه وحده الذي يعلم بمدلول اللفظ وتفسيره بل يعني أن اللّه وحده الذي يعلم بالواقع الذي تشير إليه تلك المعاني ويستوعب حدوده وكنهه. وأما معنى اللفظ في الآية المتشابهة فهو مفهوم بدليل أن القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآية المتشابهة فلو لم يكن لها معنى مفهوم لما صدق لفظ (الاتباع) هنا فما دامت الآية المتشابهة يمكن أن تتبع فمن الطبيعي أن يكون لها معنى مفهوم وهي جزء من القرآن الذي أنزل لهداية الناس وتبيان كل شيء.
والواقع أن عدم التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير معنى اللفظ هو الذي أدى إلى الاعتقاد بأن التأويل المخصوص علمه باللّه هو تفسير اللفظ وبالتالي إلى القول بأن قسماً من الآيات ليس لها معنى مفهوم لأن تأويلها مخصوص باللّه. ونحن إذا ميزنا بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى نستطيع أن نعرف أن المخصوص باللّه هو تأويل الآيات المتشابهة بمعنى تفسير معانيها لا تفسير ألفاظها.
وهكذا يمكننا في هذا الضوء أن نضيف إلى المعاني الاصطلاحية التي مرت بكلمة التأويل معنى آخر هو: تفسير معنى اللفظ والبحث عن استيعاب ما يؤول إليه المفهوم العام ويتجسد به من صورة.

----------------
1- القاموس: مادة (أول).
2- سورة آل عمران، آية: 7.
3- سورة النساء، آية: 59.
4- سورة الأعراف، آية: 52.
5- سورة يونس، آية: 39.
6- سورة يوسف، آية: 6.