سورة المدثر (إنذار وغفران)

سورة المدثر (إنذار وغفران)

افتتاح

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين، وبعد:
بين يدي سورة المدثر نقف متأملين لنكون من المتعظين، فهي سورة تنذر من عذاب يوم عظيم، عذاب أليم، وتتحدى المعاندين والمستهزئين، فتنقل النبي الكريم من الدعوة

سرا لجماعة خاصين، إلى الجهر والتصريح بالدعوة لكل البشر من الأولين والآخرين، ثم تعد التائبين والمتقين بالمغفرة والنجاة من عذاب يوم الدين.
ولذلك قسمت آيات السورة في هذه الصفحات القليلة إلى ثلاثة أقسام: الأول هو ما تحدث عما أمر به النبي صلى الله عليه وآله من الجهر بالدعوة وما رسم له من منهاج عام للسير عليه، وهو في الواقع بيان للناس يوضح حقيقة هذه الدعوة وغاياتها. والثاني هو ما تحدث عن أحد أكبر معاندي قريش وأكثرهم إجراما واستهزاء ابالرسالة والرسول، فواجهته الآيات بما يستحق من التهديد والوعيد والردع. أما القسم الثالث ففيه البيان العام والتحذير الشامل لجميع البشر، تحذير من السير في الظلمات ومن نيل عذاب المعاندين في سقر، التي هي مصير هذا المعاند الذي ذكر وهي إحدى الكُبر.
 

تقديم

كما هو واضح من الآيات الأولى من سورة المدثر؛ هي من أوائل السور النازلة على نبينا محمد صلى الله عليه وآله، لكنها ليست الأولى فسورة العلق هي أول ما نزل، خصوصا إذا لاحظنا بقية سورة المدثر فإننا سنجد أنها تتكلم عن المشركين وكيف كانوا يعارضون الرسول ويتهمونه بالسحر، أما إذا قلنا أن الآيات السبع الأولى نزلت قبل سورة العلق وبقية السورة نزلت بعدها فقد يكون هذا مقبولا، لكن آيات سورة العلق في سياقها أقرب لأن تكون هي ما نزل أولا، ففيها أمر بتلقي الوحي وقراءة القرآن الكريم.
واحتمل بعض المفسرين أن سورة المدثر أول ما نزل عند الأمر بإعلان الدعوة بعدما كانت خفية خاصة لمدة ثلاث سنوات، فهي على كل حال من أوائل السور المكية.
 

وقد جاء في فضل هذه السورة عدة روايات:

فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: (من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقا على الله عز وجل أن يجعله مع محمد صلى الله عليه وآله في درجته، ولا يدكه في الحياة الدنيا شقاء أبدا إن شاء الله تعالى).
وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وآله وبعدد من كذب به عشر مرات، ومن أدمن قراءتها وسأل الله في آخرها حفظ القرآن لم يمت حتى يشرح الله قلبه ويحفظه).
 

الفصل الأول:

منهج الدعوة إلى الحق
بسم الله الرحمن الرحيم

(يأَيُّهَا الْمُدَّثِرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4) وَالرُّجْزَ فاهْجُرْ(5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6) وَلِرَبِّكَ فاصْبِرْ(7) فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الكَـفِرِينَ غَيرُ يَسِير(10)).
 

منهج الدعوة إلى الحق:

يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (2).
(المدثر): بتشديد الدال والثاء، أصله المتدثر، اسم فاعل من التدثر بمعنى المتغطي بالثياب عند النوم، والدثار الثوب الذي يستدفأ به، وتدثر بالثوب أي اشتمل به داخلافيه. (3)
وللمفسرين احتمالات أخرى في المقصود من (المدثر) في الآية، فمنهم من قال: المراد تلبسه بالنبوة، شبهت بالثياب التي يتحلى بها ويتزين. وقيل: المراد اعتزاله وغيبته عن النظر حيث كان في غار حراء. (4)
والمناسب هنا ذكر بعض ما وجهه النبي صلى الله عليه وآله من مشركي مكة، حيث كان يدعوا الناس إلى الإسلام سرا امتثالا لأوامر الله عز وجل، ثم صار خبره ينتشر شيئا فشيئا، وأخذت قريش تواجهه وتبعد الناس عنه، ومن ذلك أنهم صاروا يتهمونه بعدة تهم تصرف الناس عنه، فقالوا أنه شاعر أو مجنون، حتى قالوا أنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، فبلغه ذلك، ولاشك أن ذلك مما يؤذيه ويعيق تبليغه الرسالة، ولم يؤمر بالمواجهة أو الجهر بالدعوة بعد، فيحتمل أنه كان مغتما لذلك متدثرا بثيابه فنزلت عليه هذه الآيات تأنسه وتأمره بالجهر بالدعوة وتنذر المشركين عذاب يوم عظيم.
وَ مَآ أَرْسَلنَـكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (5)، لكن الإنذار هو الأنسب لبداية الدعوة، فالغافل إنما ينذر ليحذر قبل أن يبشر فيستر (6).
أمر بالإنذار من كل ضلال بعمومه، ولكل الناس في شموله، فعليه أن ينذر الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد، ينذرهم جميعا أن يقعوا فيما يوجب لهم العذاب الإلهي، فاليُعدوا للحساب يوم المحشر، بل وينذرهم أن يشملهم غضب الله وعذابه في الدنيا أيضا.
ثم يؤمر صلى الله عليه وآله بتكبير الله وحده، فتقديم (ربك) فيه دلالة على حصر التكبير والإجلال لله سبحانه وتعالى، والأمر هنا أيضا يعم كل أنواع التكبير، ويشمل كل الأوقات، فهو يرسم منهجا للرسالة؛ أن ذلك الرب هو مالكك ومربيك، وجميع ما عندك فهو منه تعالى، لذلك عليك أن تضع غيره في زاوية النسيان، وتشجب كل الآلهة المصطنعة، وامح كل آثار الشرك، وانسبه هو فقط إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا؛ قولا وفعلا.
والتكبير هو التنزيه من أن يعادله أو يفوقه شيء، فلا شيء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، ولا نقص يعرضه، ولا وصف يحده، فالتكبير يشمل معنى التسبيح الذي هو بمعنى التنزيه عن النقص، وهذه الكلمات هي أساس الرسالة الإسلامية الموجهة إلى البشر، خصوصا أهل الشرك في ذلك الزمان.
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)) كناية عن إصلاح العمل، لأن عمل الإنسان بمنزلة ثيابه، هو يشينه أو يزينه، وظاهر الإنسان عنوان باطنه، وقيل: الكلام على ظاهره والمراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة. وعلى هذا المعنى يكون المراد بالتكبير في الآية السابقة هو التكبير للدخول في الصلاة.
والأمر الثالث بعد الجهر بالدعوة هو نبذ وهجران كل ما دون العقيدة الحقة الثابتة السليمة، فالرجز في اللغة هو تتابع الحركات، مما يؤدي إلى الاضطراب والتزلزل، ثم أُطلق على كل أنواع الشرك والمساوئ، التي تسبب اضطراب الإنسان في أمره وعقيدته، فيكون في شك وعلى غير ثقة ولا اطمئنان، وقيل أن المراد بالرجز هو العذاب وما يسببه، أي اهجر ما يسببه من الذنوب المعاصي(7).
وكل هذه المعاني يمكن ربطها بمعنى عام يمثل أيضا جزاء من المنهج العام في مسيرة الدعوة إلى الله، وهو هجر كل انحراف وعمل سيء، كل ما لا يرضي الله وما يجلب سخطه في الدنيا أو الآخرة.
والأمر الرابع هو جزء مهم أيضا من منهج دعوته صلى الله عليه وآله، وهو أنه لا يمن على أحد بما يقدم في سبيل هذه الدعوة، ولا يستكثر عملا يعمله في هذا الطريق، فمقام الرسالة نعمة من الله عليه، والمعنى: فلا تمنن ولا تستكثر تكبيرك لله وتطهير ثيابك وهجران الرجز، فإنما كل ذلك توفيق من الله عز وجل، إنما أنت عبد لا تملك من نفسك إلا ما ملكك الله ولا تقدر إلى على ما الله أقدرك عليه.
والأمر الخامس في طريق الدعوة هو الصبر في هذا الطريق لله سبحانه وتعالى، وهو يشمل الصبر في تبليغ الرسالة وما يتطلبه من جهد، والصبر على أذى المشركين، والصبر في جهاد النفس والعبادة، والصبر في الحروب، وغير ذلك.
 

الفصل الثاني:
قصة وتحذير من العذاب

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12)وَبَنِينَ شُهُوداً(13) وَمَهَّدْتُّ لَهُ تَمْهِيداً(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لاَِيَتِنَا عَنِيداً(16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً(17)).
 

قصة وتحذير من العذاب:

في هذه الآيات وما يليها تهديد ووعيد، وقد استفاض النقل أنها نازلة في الوليد بن المغيرة، الذي كان شيخا من دهاة العرب، ومن المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله، اجتمعت إليه قريش فقالوا: يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمد ؟ أشعر هو أم كهانة ؟ فقال: دعوني أسمع كلامه. فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله بجنب الكعبة، فقال: يا محمد أنشدني من شعرك. فقال صلى الله عليه وآله: ما هو شعر ولكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه ورسله. فقال الوليد: اتل علي منه شيئا.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَـعِقَةً مِّثْلَ صَـعِقَةِ عَاد وَثَمُودَ)(9) اقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ومَرّ إلى بيته ولم يرجع إلى قريش، فأرسلوا له ابن أخيه أبا جهل، فقال له: يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا وأشمتت بنا عدونا وصبوت إلى دين محمد. قال الوليد: ما صبوت إلى دينه ولكني سمعت كلاما تقشعر منه الجلود. فقال له أبو جهل: أَخطْبٌ هو ؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا. قال: أفشعر هو ؟ قال: لا، أما إني سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر. قال: فما هو ؟ قال: دعني أفكر.
فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلناه ؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس. عندها نزلت (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11))(10).
تتعد الاحتمالات في معنى هذه الآية، وإرادة كل تلك المعاني أمر ممكن، فهي معان متقاربة، وجمعها في كلمات قليلة قصيرة يمثل نوع إعجاز، فالآية تشير إلى التوحيد بحسب أحد معانيها المحتملة، وهو أن اتركني مع من خلقته ولم يشاركني في خلقه أحد، ففيها تذكير للوليد أن خالقه هو الله الواحد، وقريش كانوا يؤمنون بالله لكنهم يشركون معه غيره، والاحتمال الآخر للآية هو أن دعني لوحدي ولا تحل بيني وبين هذا الذي هو أحد خلقي لأعذبه بما عصاني.
أو هي تشير إلى خلق الإنسان ضعيفا في أول أمره ثم يرزقه الله المال والقوة والبنون، فيكون معنى الآية أن اتركني مع مخلوقي الذي خلقته وحيدا ضعيفا لا مال له ولا بنون. وقد تكون الآية فيها نوع استهزاء بالوليد إذ عرف عنه قوله: أنا الوحيد ابن الوحيد، ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير. كان يفتخر بماله وجاهه، لكنه كيف قضى آخر عمره ؟
ثم تؤكد الآيات أن كل ما تميز به الوليد إنما هي نعم من الله سبحانه وتعالى، حيث كان ذا مال ممدود، أي مبسوط كثير، وكان له بنون حاضرون عنده لا يفارقونه ولايحتاجون إلى السفر للتجارة مثلا، فهو يأنس بمشاهدة بنيه ويتأيد بهم، وقد مهّد الله له أمور دنياه من الراحة والقوة والجاه.
كل هذه النعم وهو لازال يطمع في الزيادة لما ملئ قلبه من حب الدنيا، مع أنه كافر بنعم الله؛ لم يمتثل لأوامر الله، وعاند آياته، والعنيد هو المخالف مع معرفة، والمباهي بما عنده، وقد قيل أنه ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك.
أما جزاءه وعقابه فتشبهه الآية بغشيانه عقبة جبل وعرة صعبة الصعود، فالإرهاق هو الغشيان بعنف، والصعود عقبة الجبل التي يشق مصعدها.
((إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)فَقَالَ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَـذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(25)).
التقدير عن تفكير هو نظم معان وأوصاف في الذهن بالتقديم والتأخير والوضع والرفع لاستنتاج غرض مطلوب، والتصميم على تطبيقه. إنه فكر و دبر ما ذا يقول في القرآن، و قدر القول في نفسه: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب فما أتى به ليس بشعر، و إن قلنا كاهن لم يصدقونا لأن كلامه لا يشبه كلام الكهان، فنقول ساحر يؤثر ما أتى به عن غيره من السحرة.
قَـتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(11) .
ثم تبين الآيات حالة عدائه واستكباره وعناده، إذ نظر ليقضي في أمره ليطمئن من استحكامه وانسجامه، ثم عبس أي قطّب وجهه وقبض ملامحه، والبسور بدء التكره في الوجه، هذا ما ظهر على شكله، أما نفسه فقد أدبرت وأعرضت، واستكبرت امتناعا وعتوا، كل ذلك نتيجته المباشرة أن قال: إن هذا إلا سحر يروى ويُتعلم من آثارالماضين.
فَقَالَ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يفيد أن قوله هذا مترتب على إدباره واستكباره، بعد نظره ثم عبوسه وبسوره.
ثم يؤكد كلامه أنه سحر وليس من كلام الله؛ بقوله أنه من كلام البشر، قال الطبرسي: و لو كان القرآن سحرا أو من كلام البشر كما قاله الملعون لأمكن السحرة أن يأتوا بمثله و لقدر هو و غيره مع فصاحتهم على الإتيان بسورة مثله.
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26) وَمَآ أَدْراكَ مَا سَقَرُ(27))(12).

ــــــــــــ
1ـ البرهان في تفسير القرآن ج 8 ص 152.
2ـ سورة المزمل 1.
3ـ مجمع البيان ج 10 ص 94، ولسان العرب ج 2 (دثر) ص 1229.
4ـ راجع الميزان ج 20 ص 87.
5ـ سورة الفرقان 56.
6ـ ذكر هذا المعنى في الميزان ج 20 ص 88.
7ـ ورد معنى الرجز في الأمثل ج 19 ص 117، ولسان العرب ج 2 (رجز) ص 1457، وفي مجمع البيان ج 10 ص 96 وذكر معان أخرى.
8ـ راجع الأمثل ج 19 ص 116 – 119، والميزان ج 20 ص 88 – 90.
9ـ سورة فصلت 13.
10ـ هذه القصة مذكورة في عدة تفاسير بفوارق يسيرة: في الميزان ج 20 ص 100، 101، وفي البرهان ج 8 ص 157، 158، وغيرهما. ومما ذكر من قول

الوليد لقومه لما سمع آيات سورة فصلت: و الله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن و إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة و إن

أعلاه لمثر و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و ما يعلى. ثم انصرف إلى منزله. في مجمع البيان ج 10 ص 98.
11ـ سورة التوبة 30.
12ـ راجع الميزان ج 20 ص 93 – 95، والأمثل ج 19 ص 121 – 124، ومجمع البيان ج 10 ص 99.