سورة المدثر القسم الثاني

1431 هـ

الفصل الثالث:

هول العذاب والخلاص منه

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26) وَمَآ أَدْراكَ مَا سَقَرُ(27) لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ(28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ(29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30) وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَبَ النَّارِ إِلاَّ مَلَـئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَـبَ وَيزْدَادَ الَّذِينَ اَمَنُوا إِيمَـناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَـبَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَـفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهـذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)).
 

هول العذاب:

هنا أخذت الآيات تبين عظم عذاب المشركين والمكذبين بشكل عام، بعد أن تعرضت لأحد كبار معانديهم، وتشير هذه الآيات إلى بعض صفات نار جهنم التي هي مصيرهم يوم القيمة؛ إنذارا لهم لعلهم يحذرون ويرجعون عن عنادهم.

وَمَآ أَدْراكَ مَا سَقَرُ) تفخيم لأمر سقر وتهويل، فبينت الآية أولا أنها أعظم مما تتصورون وما يمكن أن تدركوا، ثم تأتي الآيات التي بعدها لتقرب شيئا من أحوالها، فهي ليست كنار الدنيا التي ربما أحرقت شيئا وتركت شيئا مما تصيبه، بل هي لا تبقي شيئا إلا أحرقته، تحرق كل ما يقع فيها، بل وتحرق الأرواح مع الأبدان أيضا، وهي لوّاحة أي تغير لون الجلد إلى السواد (1)، والبشر جمع بشرة، وهو ظاهر الجلد (2)، ومن عظيم عذابها أن عليها تسعة عشر ملكا، وقيل أنهم تسعة عشر مجموعة من الملائكة، وتؤكد الآيات أنهم من الملائكة وليسوا بشرا ليسهل على البشر مواجهتهم، حيث يذكر أن أبا جهل استهزء بهذا العدد وقال لقريش: أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأسد بن أسيد الجحمي – وكان شديد البطش -: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين(3).

لكن الآيات تؤكد أن الإخبار بعددهم وأنهم تسعة عشر كان اختبارا لقريش وابتلاءا لهم، أما الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فسيوقنون بأن هذا القرآن حق، وذلك لأنهم سيجدون هذا العدد مطابقا لما في كتبهم، وذلك سيزيد المؤمنين أيضا إيمانا وتصديقا ويقينا، أما المنافقون والكفار فهم الذين سيرتابون ويترددون في قبول الحق، فيزيد الله المعاندين ضلالا ويكرم المؤمنين بمزيد توفيق للهدى والإيمان.

فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ)(4) ، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء من فضله. قال الطبرسي: ولو راجع الكفار عقولهم لعلموا أن من سلط ملكا واحدا على كافة بني آدم لقبض أرواحهم فلا يغلبونه قادر على سوق بعضهم إلى النار و جعلهم فيها بتسعة عشر من الملائكة (5).

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ(32))، هذا ردع وإنكار، فنجد الآيات الكريمة تتخذ أسلوب الحوار مع المشركين، إذ أنذرت بالعذاب لمن استهزء بالنبي صلى الله عليه وآله، ووصفت النار، ثم أوردت ما قابلوا به الإنذار من استهزاء بالملائكة، وعادت مرت أخرى لتؤكد على عظم العذاب، وتقسم على ذلك بعدة أقسام في تذكيرٍ بِعظم الخالق بالإشارة إلى آياته في الخلق ومخلوقاته التي إذا تفكر فيها الإنسان تذكر، كالقمر وتقلب الليل والنهار.

(وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33) وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ(34)) قسم بعد قسم، وهذه الأقسام الثلاثة مرتبطة ببعضها، فالقمر ذو الجمال والنور في الليل لا تراه في النهار، كما أن الليل إذا أدبر وقرب الصبح يكون أكثر جملا وعجبا، وأجمل ما في النهار إذا أسفر وأخذ نوره يزداد شيئا فشيئا، حيث النشاط والحيوية، كما يمكن ربط هذا بشروق نور التوحيد وهداية القرآن، واستدبار ظلمات الشرك.

هذه الأقسام ليتفكروا فيها لعلهم يتذكرون أن خالقها هو القادر على كل شيء، فيؤمنوا بما يدعوهم إليه، ويحذروا العذاب والنار التي هي إحدى الكبر، فتعود الآيات لتحذرهم مرة أخرى بقولها:

(إِنَّهَا لاَحْدَى الْكُبَرِ(35)) هنا تحذير من النار وتأكيد على أنها إحدى الأهوال الكبيرة ومن أعظمها، وقد يكون المراد هو القيامة، وفي قول أنها آيات القرآن الكريم، أو الملائكة الذين استهزء بهم المشركون، وكل ذلك من العظائم(6).

نَذِيراً لّلْبَشَرِ(36) لِـمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37) كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلاَّ أَصْحَـبَ الْـيَمِينِ(39) فِى جَنَّـت يَتَسآءَلُونَ(40) عَنِ الْـمُجْرِمِينَ(41) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآئِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْدِّينِ(46) حَتَّى أَتَـنا الْيَقِينُ(47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَـعَةُ الْشَّـفِعِينَ(48)).

 

طريق الخلاص بمعرفة الأسباب:

يقدم القرآن الكريم هذا التحذير والبيان والتذكير نذيرا للبشر، ليس فقط لأولئك الذين أنكروا واستهزؤوا، بل هو لكل البشر، لكل من أحب أن يتقدم، وحتى من يريد أن يتأخر، فهاقد حُذّر أُنذر، فكل نفس ستبقى رهينة مالم تؤدي واجبها وتكاليفها، ستبقى رهينة العذاب والنار، إلا من حطم أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح فيدخلون الجنة.

فَإِنَّهُمْ لَُمحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ)(8) .

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: ( نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون )(9) .

أصحاب اليمين هؤلاء سيكونون في جنات، وتنكير جنات بالتنوين وعدم تعريفها بالألف واللام لبيان عظمها وعدم محدوديتها، فهم في جنات لا يُدرك وصفها، ثم تؤكد الآيات أنكم سترون ذلك وتعلمون أنه الحق من ربكم، وستعاتبون: مالكم في أهل النار ؟

وتدير الآيات هنا حوارا بين أصحاب اليمين وأهل الجحيم، لتبين ما ينبغي للإنسان أن يسلكه من طريق الحق لينجوا من العذاب، وذلك في أربع نقاط مهمة، أولها الصلاة فهي تُذكر بالله وتنهى عن الفحشاء والمنكر، والمقصود بالصلاة هو التوجه العبادي ليشمل كل العبادة التي شرعت في جميع الشرائع السماوية، والنقطة الثانية هي ما يتعلق بحق الناس والمجتمع من الاهتمام بالمحتاجين وقضاء حوائجهم، وأبرز ما يحتاجه الإنسان هو الطعام، والثالثة ترك الباطل والإعراض عنه وعدم المساعدة عليه، فمن الجرائم التي أدت إلى تردي المجرمين في سقر استهزائهم بالقرآن والنبي، وفي هذه النقطة إشارة إلى الحركة الجماعية للمجتمع في اتجاه واحد، وتحذير من أن يسير الفرد مع الناس دون تفكر وتدبر إلا أن يقول: حشر مع الناس عيد. بل يجب أن يكون سير المجتمع في اتجاه الحق لا الباطل، والنقطة الرابعة هي الإيمان بيوم القيامة والحساب، وهو أساس الإيمان والأعمال الصالحة، والدافع عن ارتكاب المحارم، وبداية الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.

فهذه أركان أربعة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان إلى الحق، بدايتها التوحيد وختامها المعاد، وهي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بالمخلوقين من حوله، هذا ما يجب أن يكون عليه الإنسان إلى آخر حياته، أما إذا أتاه الموت وهو على غير ذلك فهو ممن سلك سقر، وبالموت يكون قد رأى وتيقن الحق فلا شفاعة عندها تنفعه، فاليقين في الآية إما هو الموت لأنه مما لا يشك فيه الإنسان وعليه أن يتعض به، أو هو العلم الحاصل بعد الموت بمشاهدة آيات القيامة وعالم البرزخ، ولا تنفع الشفاعة عندئذ لمن لم يُهيء لها.

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرَةٌ (50)فَرَتْ مِن قَسْوَرَة(51))، تعجب من عنادهم وفرارهم من الحق وكأنه أسد هجم على مجموعة حمر، وحمر جمع حمار، والحمار وإن كان وحشيا إلا أنه شديد الخوف، فصوت الأسد يجعله كالمجنون، أما إذا حمل الأسد على فصيل منها فإنها تتفرق في كل الجهات بحيث يتعجب الناظر من رؤيتها. وهذا التشبيه الواضح يبين مدى عنادهم، فهم مع ما لهم من عقول إلا أنهم آثروا أن يكونون كالمجانين المرعوبين على أن يتفكروا فيهتدوا، إلا أنهم مرضى لا يقبلون ما يصلح نفوسهم ويربي أرواحهم(10).

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً(52) كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْءَخِرَةَ(53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ(55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)).
 

 

التقوى طريق المغفرة:

يتكبرون على الله عز وجل وعلا ولا يقبلون برسله ولا يتبعونهم، إلا أن ينزّل على كل واحد منهم ما ينزّل على الرسل، وهذا نظير ما جاء في قوله تعالى (وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ)(11) ، والجواب لهم وضح في هذه الآية، فالرسالة ليست لكل أحد، بل هي لمن هو أهل لها، هي لمن أعد وتهيأ بطهارة الروح وصلاح النفس، وعلى كل حال فإن كلامهم هذا إنما هو حجة يحتجون بها لإنكار الحق، والواقع أنهم لم يخافوا ولم يتقوا الآخرة، فهم لو آمنوا بالآخرة ولم يكذبوا بيوم الحساب لما عاندوا ولخافوا، كما حكت الآيات السابقة عن لسانهم وهم في العذاب يقولون: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْدِّينِ(46)) .

ثم تختم السورة بالتذكير فالقرآن للذكرى، وهذا رفض لحجتهم الباطلة، فالذكرى تحصل بإرسال الرسل ولا حاجة لأن ينزل على كل إنسان كتاب، وبعد هذه التذكرة فالإنسان مختار إن شاء آمن وإن شاء أبى، ومع ذلك فهم غير خارجين عن إرادة الله وغير معجزين له، فالله هو من جعلهم مختارين أن يتذكروا أو ينفروا، ومن يسعى إلى الإيمان فإن الله تعالى يزيده من توفيقه.

وتؤكد آخر آية من السورة أن الله صاحب كل هذه القدرة والسيطرة حتى على النفوس، أنه هو الأحق أن يُتقى، وأنه هو صاحب المغفرة، فجمعت الآية بين الخوف والرجاء، وبين التذكير بالعذاب والمغفرة، لكنها رجحت جانب المغفرة بذكر التقوى، فهي ذكرت بالعذاب بكلمة التقوى التي هي الطريق إلى المغفرة. ويمكن أن يقصد أنه هو أهل لأن لا يظلم أحدا، لأن الآية علقت تذكرتهم بمشيئة الله، فكذلك هو أهل لأن يغفر ويهدي(12).

هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)) أنه قال: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أهل أن أُتقى، ولا يشرك بي عبدي شيئا، أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنة. وقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أقسم بعزته وجلاله أن لا يعذ أهل التوحيد بالنار أبدا)(13) .
 

خاتمة

هكذا بدأت السورة بالإنذار والتكليف، وختمت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة، فالله سبحانه وتعالى إنما يريد لعباده الهداية والصلاح، لكنه كما هو غفور رحيم فهو شديد العقاب لذلك يحذرهم أشد تحذير، ويهدد المستهزئين والمعاندين بأقسى تهديد، لعلهم يحذرون، ولعلهم يهتدون، ولكي يتعظ الآخرون، فمن يقرأ قصص المعاندين يعرف مصيرهم وعاقبتهم فيتقيها لينجوا.

نسأل الله أن يوفقنا لتقواه ولنيل رضاه في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من المصلين المطعمين، ومن المعرضين عن اللغو والخوض في غمرات الباطل والظلم، بل المؤمنين بيوم الدين، لنكون من المتقين الخائفين، المستحقين للمغفرة والمشفوعين بشفاعة الشافعين، اللهم فلتلطف بعبدك المسكين.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــ

(1) قدح مُلوّح : مغير بالنار ، وكل ما غيرته النار ، و(لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ) أي تخرق الجلد حتى تسوده ، لسان العرب ج 4 (لوح) ص 3624 .

(2) ذكر معنى التلويح ، ومعنى بشر في مجمع البيان ج 10 ص 97 .

(3) ومما ذكر في وصف ملائكة سقر ( هم خزنتها مالك و معه ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف و أنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة تسع كف أحدهم مثل ربيعة و مضر نزعت منهم الرحمة يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم و قيل معناه على سقر تسعة عشر ملكا و هم خزان سقر و للنار و دركاتها الآخر خزان آخرون ) ، في مجمع البيان ج 10 ص 99 .

(4) سورة الكهف 29 .

(5) الميزان ج 20 ص 95 – 98 ، والأمثل ج 19 125 – 130 ، ومجمع البيان ج 10 ص 99 ، 100 .

(6) أيضا في الميزان ج 20 ص 103 ، والأمثل ج 20 ص 131 .

(7) سورة الواقعة 10 ، 11 .

(8) سورة الصافات 127 ، 128 .

(9) الأمثل ج 19 ص 133 . والبرهان ج 8 ص 161 ، 162 .

(10) راجع الأمثل ج 19 ص 131 – 138 ، والميزان ج 20 ص 103 – 107 .

(11) سورة الأنعام 124 .

(12) راجع الميزان ج 20 ص 107 – 109 ، والأمثل ج 19 ص 138 – 140 .

(13) البرهان ج 8 ص 163 .