أحكام الصوم على المذاهب الخمسة

المقدمة:
يُعدّ الصوم في الشريعة الإسلامية المطهرة من الفرائض المهمة جداً ، وذلك لما يتضمنه من فوائد عظيمة للفرد والمجتمع.
ففي الصوم يصبح المؤمن أكثر قرباً من الله تعالى ، بعدما تصفو النفس وتنصقل ، بسبب تجرّدها من علائق المادة وأدرانها ولهفتها إلى إشباع حاجات الجسد، وفي الصوم يرتاح الجسد وأعضاؤه من عناء العمل المستمر طوال العام ، فيزول بهذه الراحة ما ترسّب فيه من سموم وشوائب ما كانت لتزول لولا هذا الجوع، وفي الصوم يستشعر الأغنياء آلام الفقراء وجوعهم فيتحمسون لمساعدتهم ودفع الصدقات لهم، وفي شهر رمضان تعمر المساجد بالذاكرين فتعظم روحانية الفرد ويزداد تضامن المجتمع ، ولعله لأجل ذلك وغيره من المنافع كتب الله الصيام على الأمم السابقة على المسلمين لينال البشر جميعاً خير هذه الفريضة ونفعها.
وأما أن تكون أحكام هذه الفريضة على المذاهب الخمسة:
 فأولاً: من أجل كمال الفائدة.
 وثانياً: من أجل المساهمة في تأكيد الوحدة الإسلامية في هذه الفريضة وفي هذا الشهر الذي تبرز فيه وحدة المسلمين في توجههم بآلامهم ومعاناتهم في وقت واحد إلى رب واحد ، عسانا ننال الأجر بذلك ونقدم خدمة للقارئ المسلم في هذه الأيام المباركة.
وفيما يلي نذكر أحكام الصوم في مباحث عدة.
 
 المبحث الأول ـ في ثبوت الهلال:
لما كان زمن الفريضة هو تمام شهر رمضان من الشهور العربية القمرية.. بإجماع المسلمين ، اقتضى ذلك ضرورة ضبط بداية الشهر ونهايته ووضع الأحكام الخاصة بالاستهلال، وذلك في مسائل:
مسألة(1) لا تعتبر رؤية الهلال حُجّةً ملزمة إلاّ إذا تمّت بالعين المجردة ، فلا يعتدّ بالرؤية الحاصلة بالآلات الفلكية وحدها، ولا بالتقديرات الفلكية، إذا لم يُمكن رؤيته بالعين المجردة ، ولكنها ـ عند الإمامية ـ إذا أفادت اليقين أو ما يشبه اليقين ـ وهو المعبر عنه بالاطمئنان جاز الاعتماد عليها.
وعند الشافعية يجوز للمنجم ولمن صدّقه الاعتماد على التنجيم.
 مسألة(2) من انفرد برؤية الهلال وجب عليه العمل بمقتضى رؤيته، سواء كان عدلاً أو غير عدل، وسواء ردّ القاضي شهادته أو قبلها، باتفاق جميع المذاهب.
 مسألة(3) في حال ادّعاء الغير للرؤية ، قد اختلفت المذاهب في جواز الاعتماد على رؤيته وشروط ذلك على النحو التالي:
1ـ الإمامية: قد ذهبت الإمامية إلى وجوب الصوم في:
أ ـ حصول التواتر المفيد لليقين، وذلك بإخبار الكثيرين الذين لا يُعقل اتفاقهم على الكذب، وبغض النظر عن كونهم عدولاً أو غير عدول.
ب ـ حصول الشياع المفيد للاطمئنان ، وذلك لدى رؤيته من قبل معظم الناس عادلهم وفاسقهم وذكرهم وأنثاهم.
ج ـ شهادة العدلين الرجلين على رؤيته.
2ـ الأحناف: ذهبوا إلى أن السماء إن كانت صحواً فإنه لا بدّ من رؤيته من قبل جماعةٍ كثيرين يحصل العلم من خبرهم.
أما إذا لم تكن صحواً فإنه يكفي لوجوب الصوم شهادة العدل الواحد رجلاً كان أو امرأة.
3ـ الشافعية: اكتفوا بشهادة العدل الواحد الذكر ، من دون فرق بين الصحو وغيره ، ووافقهم الحنابلة على ذلك .
4ـ المالكية: اشترطوا شهادة العدلين الرجلين ، أو رؤيته من قِبَل جماعة كثيرين يمتنع اتفاقهم على الكذب.
ويجوز لمن لا يعتني بأمر الهلال ولا يبالي بالاستهلال الاعتماد على خبر الواحد غير المشهور بالكذب ولو كان امرأة.
مسألة(4) لا يشترط في ثبوت الهلال ووجوب الصوم حكم الحاكم بذلك ، ولكنه إذا حكم بذلك وجب على الناس العمل بحكمه ولو كان مخالفاً لمذهبهم أو تقليدهم ، وخالف في ذلك الشافعية ، فاشترطوا لثبوت الهلال ووجوب الصوم حكم الحاكم ولو كان مستنداً إلى شهادة الواحد.
 مسألة(5) تكفي رؤية أهل قطرٍ واحد أو بلدٍ واحد وثبوته عندهم لثبوته في باقي الأقطار، حتى لو اختلفت مطالع القمر وتباعدت البلدان.
وخالف في ذلك الإمامية والشافعية ، واشترطوا تقارب المطالع ، وإلا لم يثبت عندهم ، وذهب بعض الإمامية إلى أنه إذا ثبت في بلد يثبت في جميع البلدان التي يشتملها الليل .. أي في نصف الكرة الأرضية تقريباً.
 مسألة(6) إذا لم يمكن رؤية هلال شهر رمضان فإن الواجب اعتبار أول شهر رمضان بعد مرور ثلاثين يوماً من شعبان وعليه فإنه لا يصح صيام يوم الثلاثين من شعبان بنية رمضان عند الجميع ما عدا الحنابلة ، فإنهم أوجبوا صيامه بنيّة كونه من رمضان.
 
 المبحث الثاني ـ في تحديد اليوم:
يجب الصوم في كل يوم من شهر رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وقد أجمعت المذاهب على أن الفجر الحقيقي إنما هو الفجر الصادق وبه يبتدئ الصوم، وينتهي النهار بالغروب، وحدّه غياب قرص الشمس ، وزادت الإمامية ضرورة غياب الحمرة من الأفق الشرقي كدليل على غياب القرص من أجل صحة الإفطار والصلاة.
 
 المبحث الثالث ـ في شروط وجوب الصوم :
لابدّ لوجوب الصوم على المسلم من تحقق الشروط المعتبرة، وهذه الشروط هي :
 الأول والثاني: البلوغ والعقل:
وهما شرطان عامّان من شروط التكليف، فلا يجب الصوم على الصبي ولا على المجنون المطبق المستمر في الجنون، أما الذي تأتيه نوبات من الجنون فإن وافق كونه عاقلاً طوال شهر رمضان أو بعضه وجب عليه الصوم ، وإلاّ لم يجب.
ومن المستحسن تدريب الصبي على الصوم قبل بلوغه.
الثالث: الخلوّ من الحيض والنفاس:
فإذا حاضت المرأة أو نفست لم يجب عليها الصوم .
الرابع: الحضر:
فلا يجب الصوم على المسافر ، وحدّ السفر أن يقطع مسافة محدّدة:
أ ـ عند الأحناف: بمائة وسبعة كيلومترات وخمسمائة وعشرين متراً.
ب ـ عند الإمامية: بحوالي أربعة وأربعين كيلومتراً وربع الكيلو.
ج ـ عند سائر المذاهب: بثمانين كيلو متراً وستمائة وأربعين متراً.
وها هنا مسائل:
مسألة (1) لا يجب الإفطار عند تحقق السفر، بل هو جائز عند الشافعية، وواجب عند سائر المذاهب ، فلا يصح الصوم من المسافر، ويجب عليه الإفطار والقضاء بعد ذلك.
مسألة (2) ذهب الشافعية والإمامية إلى وجوب الصيام على من عمله السفر كالمكاري ونحوه.
مسألة (3) اشترطت المذاهب لجواز الإفطار الشروع في السفر قبل طلوع الفجر، فإذا وقع السفر بعده لم يجز الإفطار، فإذا أفطر لم تجب عليه الكفارة، ووجب القضاء فقط.
وخالف في ذلك الإمامية فاشترطوا لجواز الإفطار حصول السفر قبل الظهر، فان سافر بعد الظهر لم يجز له إفطار ذلك اليوم.
وقالوا: إن المسافر إذا وصل قبل الظهر إلى وطنه أو محل إقامته ـ وهو الذي نوى فيه الإقامة عشرة أيام ـ ولم يكن قد تناول المفطر وقبل ذلك، يجب عليه تجديد نية الصيام والبقاء صائماً.
مسألة (4) إنما يصبح السفر موجباً للإفطار بحسب الشروط المعتبرة في السفر الموجب لقصر الصلاة، وله أحكام كثيرة لا يمكن ذكرها هنا لضيق المجال ، فلا بد من مراجعتها وأخذها بعين الاعتبار.
الخامس : عدم المرض:
اتفقت جميع المذاهب على عدم وجوب الصوم على المريض ، واختلفوا في تحديد المرض على النحو التالي:
أ ـ قالت الإمامية: إذا خاف الصائم أو تأكد من حدوث المرض أو زيادته أو استمراره وبطء شفائه، لم يجز له الصوم ووجب عليه الإفطار.
ب ـ قالت سائر المذاهب: إذا خاف زيادة المرض أو طول مدة الشفاء جاز له الصوم وجاز له الإفطار ما دام الضرر لا يصل مرتبة الخطر، فإن غلب على ظنه الهلاك أو تعطيل حاسة من حواسّه وجب عليه الإفطار، ولم يجز له الصوم.
ج ـ من به داء العطش الشديد ، بنحو لا يصبر عن شرب الماء ، يجوز له الإفطار على رأي جميع المذاهب، ويجب عليه القضاء من دون الفدية عند الأربعة ، وعند الإمامية لا بد مع القضاء من الفدية.
وأجازت المذاهب الأربعة الإفطار لدى الجوع الشديد مثله مثل العطش ، ولم تُجوّز الإمامية ذلك إلاّ إذا خيف حدوث المرض أو زيادته أو بطء شفائه.
السادس: الحمل والرضاع:
إذا خافت الحامل التي أوشكت على الولادة ، أو المرضع من الصوم على نفسها أو ولدها ، فقد اختلفت المذاهب في حكمها على النحو التالي:
أ ـ اتفق الأربعة عدا الإمامية على أن الإفطار رخصة لها، إن شاءت صامت وإن شاءت أفطرت ، وذهب الإمامية إلى وجوب الإفطار عليها.
واتفق الجميع على وجوب القضاء في حال الإفطار.
أما الفدية، فقال الحنفية: لا تجب مطلقاً، وقال المالكية: تجب على المرضع دون الحامل، وقال الشافعية والحنابلة: إذا كان الضرر على الولد وجبت الفدية، وإذا كان على نفس الحامل والمرضع لم تجب وقال الإمامية: تجب الفدية مطلقاً، وإن فصّل بعضهم فذهب مذهب الشافعية والحنابلة.
السابع : الهَرِم:
يجوز للإنسان الهرم الطاعن في السن الذي يشقّ عليه الصوم مشقة شديدة، يجوز له الإفطار، وعليه الفدية، باتفاق الجميع، عدا المالكية فإن الفدية مستحبة عندهم.
 
المبحث الرابع ـ في المفطّرات:
والأحكام المتعلقة بها قسمان:
القسم الأول: أحكام النية:
النية هي القصد إلى فعل الصوم على أساس الأمر الصادر من الله تعالى بوجوبه في هذا الشهر الشريف، ولا يجب التلفظ بالنية عند الجميع، وإن كان مستحسناً عند الشافعية والحنفية.
وهنا مسائل:
مسألة (1) اختلفت المذاهب في وقت النية:
أ ـ فذهب الجميع ما عدا الأحناف إلى ضرورة وقوع نية صوم شهر رمضان قبل طلوع الفجر، بحيث لابد لصيام اليوم التالي من وقوع نية قبل طلوع الفجر ، ويكفي في ذلك وقوعها في جزء من الليل بعد غروب الشمس.
ب ـ أما الأحناف فقد أجازوا البقاء من دون نية إلى ما قبل منتصف النهار، فيستمر وقت النية عندهم من غروب الشمس إلى ما قبل نصف النهار، ويقاس النصف عندهم على الزمن الواقع بين طلوع الفجر الصادق وغروب الشمس .
مسألة (2) ذهب الشافعية والأحناف والحنابلة إلى وجوب تجديد النية لكل يوم من أيام شهر رمضان ، واكتفى المالكية والإمامية بنية واحدة لجميع الشهر ، واشترط المالكية لكفاية النية الواحدة استمرار التتابع فإذا انقطع التتابع بسفر أو بمرض وجبت النية لكل يوم ، فإذا انتهى السفر أو المرض وعاد التتابع اكتُفِي بنية واحدة للباقي .
مسألة (3) لا يجب في نية صوم رمضان تعيين كون الصوم من رمضان ، وخالف في ذلك المالكية والشافعية فأفتوا بوجوب تعيين نوع الصوم وكونه من شهر رمضان.
مسألة (4) إذا نوى قطع الصوم .. ثم عدل عن نيته يفسد صومه عند الإمامية والحنابلة دون سائر المذاهب.
القسم الثاني: المفطرات:
وهي جملة أمور لا بد من تركها أثناء النهار على الصائم وهي على النحو التالي:
الأول والثاني: الطعام والشراب:
وهما يفسدان الصوم إذا فعلهما الصائم عمداً باتفاق الجميع، ولا يفسدانه سهواً إلاّ عند المالكية.
 الثالث: وصول المائع إلى الحلق عمداً أو سهواً، من دون فرق بين وصوله عن طريق الفم أو غيره، كالأذن والأنف ونحوهما، فإنه في جميع هذه الحالات موجب لبطلان الصوم، ولو لم يصل إلى الجوف.
وانفرد المالكية بهذا الرأي دون غيرهم.
ويلحق بالمائع عندهم شرب الدخان المعروف في زماننا بالتبغ.
الرابع: وصول أي شيء إلى الجوف ، سواء عن طريق الفم أو غيره مثل الدبر، وذلك على التفصيل التالي:
أ ـ يُفسد الصوم بكل ما يدخل إلى الجوف عن طريق الفم .. حتى لو كان قليلاً وغير معتاد الأكل ، وسواء كان مائعاً أو غير مائع:
ـ عمداً أو سهواً عند المالكية.
ـ وعمداً لا سهواً عند سائر المذاهب.
ب ـ يفسد الصوم بما يدخل إلى الجوف عن طريق الاحتقان بالدبر. وشرطه أن يكون بالمائع عمداً عند الإمامية.
ولم تشترط سائر المذاهب أن تكون الحقنة مائعة ، عدا الحنفية فإنهم اشترطوا كون الداخل ماءً أو دواءً ، وأطلقت سائر المذاهب المنفذ فلم تشترط أن يكون الدبر ، وخصّصت الحنفية المنفذ بالدبر أو الأنف أو الفرج للمرأة، وخصوص وضع الدهن في الأذن.
واشترط الجميع التعمد، إلاّ المالكية فإن الصائم عندهم يفطر به حتى في حالة السهو.
الخامس: دخول الغبار الغليظ وغير الغليظ ويلحق به البخار، ومنه دخان التبغ المتعارف شربه إلى الجوف عمداً مع إمكان التوقي ، وهذا هو رأي الإمامية ، وهو رأي المالكية أيضاً شرط وصولها إلى الحلق.
وخالفتهم سائر المذاهب في ذلك ، عدا دخان التبغ فإنهم اتفقوا على كونه مفطراً.
السادس: وصول شيء إلى الدماغ عمداً عند الحنابلة، وخصوص الجرح عند الشافعية، والدواء عند الحنفية، فحكم هؤلاء الثلاثة بكونه مفطراً إذا وقع على وجه العمد ، وخالف في ذلك المالكية والإمامية.
السابع: إدخال شيء في القُبلُ أو الدُبُر عمداً ، فعند الحنفية يفطر الصائم إذا أدخل في دبره أو المرأة في قُبُلها إصبعه أو أداة كفم الحقنة، وغيّبها كلّها، وكذلك إذا قطرت المرأة في قبلها دهناً.
وخصّ الشافعية الإفطار بإدخال الإصبع أو بعضه في القُبُل والدُبُر لغير ضرورة، ولكن يظهر من قولهم بإفطار من أدخل خشبة في باطن أذنه.. معلّلين ذلك بأنه من الجوف، يظهر منه موافقة الحنفية في الحكم السابق ، وزيادة عليه إفطار من أدخل أي شيء في أي منفذ يعدّ من الباطن.
وخالفتهم بقية المذاهب.
الثامن : الجماع , وحدّه الإدخال في القُبُل أو الدُبر ، وهو موجب لبطلان الصوم باتفاق الجميع ، ولو لم يحصل به إنزال المني .
ويُبطل الجماعُ الصومَ إذا وقع عن نسيان عند الثلاثة ، ولا يُبطله عند الشافعية والإمامية .
التاسع : الاستمناء: وهو إخراج المني بأي سبب إذا حصل عمداً واختياراً، وذلك باتفاق الجميع، وزاد الحنابلة على ذلك الذي إذا حصل بسبب تكرار النظر أو التفكر ونحوهما.
العاشر: تعمد البقاء على الجنابة:
انفرد الإمامية بأن تعمّد البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر موجب لفساد الصوم.
الحادي عشر: الاحتجام:  فقد ذهب الحنابلة إلى فساد صوم الحاجم والمحجوم بالاحتجام.
الثاني عشر: الاكتحال: فإنه مفسد للصوم عند المالكية شرط وقوعه في النهار، وأن يجد له طعماً في حلقه.
الثالث عشر: القيء : إذا تعمّد الصائم القيء فسد صومه عند الجميع، واشترط الحنفية أن يكون ملء الفم، وعن أحمد رواية بعدم الفساد، ولا يفسد الصوم بحصوله قهراً.
الرابع عشر: الارتماس: فقد انفردت الإمامية بأن رمس تمام الرأس في الماء عمداً موجب لبطلان الصوم، دون سائر المذاهب.
الخامس عشر: الكذب: ويقصد به الكذب على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)  بنسبة حكم أو حديث لم يصدر عنهما إليهما.. خلال النهار.. عمداً.
وقد انفردت به الإمامية دون سائر المذاهب.
 
 المبحث الخامس ـ  في تبعات الإفطار:
نظراً لأهمية هذه الفريضة وفائدتها الكبيرة فإن الشريعة قد رتبت على الإفطار آثاراً هي من قبيل التدارك لما يفوت المفطر من منافع هذه الفريضة وفوائدها، وذلك بغض النظر عن كون المكلّف معذوراً في إفطاره أو غير معذور، وهذه التبعات هي القضاء والكفارة والفدية.. التي تختلف باختلاف نوع العذر، ونحن ذاكروها هنا على النحو التالي:
الأول: القضاء:
أوجبت الشريعة قضاء ما يفوت المكلّف من صيام شهر رمضان، من دون فرق بين ما فاته لعذر كالمرض والسفر والحيض، وبين ما فاته من دون عذر كما لو أفطر عمداً فهو ـ مضافاً إلى كونه مأثوماً ـ لا بد من قضاء ما فاته.

وفي هذا مسائل:
 مسألة (1) في كل مورد يفسد فيه الصوم لا بد من القضاء، وفي هذه المسألة تفاصيل كثيرة لدى مختلف المذاهب لا يمكن إحصاؤها في هذه العجالة.
 مسألة (2) اتفقت المذاهب على وجوب القضاء قبل مجيء شهر رمضان الثاني، فإذا لم يبق لمجيء الثاني إلاّ وقتٌ قصير وجبت المبادرة والإسراع قبل فوت الوقت، فإن لم يقضِ حتى جاء شهر رمضان الثاني فإن عليه صوم الشهر الحالي والقضاء بعد ذلك، وهكذا حتى آخر العمر.
 مسألة (3) إذا أدركه الموت ولم يقضِ ، فقد انفردت الإمامية بوجوب القضاء عنه بعد الموت على ولده الأكبر، ويجب عليه الوصية بالقضاء عنه، بينما لم توجب سائر المذاهب القضاء ولا الوصية به.
 مسألة (4) يسقط القضاء:
أ ـ عن المريض الذي يستمر به المرض إلى رمضان الثاني باتفاق الجميع.
ب ـ عن الشيخ الكبير الطاعن في السن حتى لو قدر بعد ذلك على القضاء، وذلك باتفاق الجميع.
وإشترط الحنابلة للقضاء على الهرم والمريض عدم دفع الفدية، أما إذا كانا قد أخرجا الفدية فلا قضاء عليهما.

الثاني: الفدية:
وهي كفارةُ إطعامُ مسكين عن كل يوم، وتجب في الحالات التالية:
أ ـ في حال تأخير القضاء إلى شهر رمضان الثاني للقادر على القضاء باتفاق الجميع عدا الحنفية.
ب ـ في حال استمرار المرض حتى رمضان الثاني، عند الجميع عدا المالكية.
ج ـ لذوي الأعذار، وهم الهِرم، وذو العطاش ، والحامل والمرضعة أما الهرم فعليه الفدية بالاتفاق عدا المالكية، وأما ذو العطاش فعند الإمامية دون من عداهم.
وأما الحامل والمرضعة فعند المالكية تجب الفدية على المرضع دون الحامل في حال خوف المرض أو زيادته، سواء خافتا على النفس أو الولد أو عليهما معاً.
أما الحنفية فلم توجب الفدية عليهما مطلقاً.
وأما الحنابلة فأوجبوا الفدية عند الخوف على الولد.. دون ما لو خافتا على النفس، ووافقهم الشافعية.
وذهب الإمامية إلى وجوبها عليهما مطلقاً.
د ـ من أخّر القضاء مع القدرة عليه حتى مات، فقد اتفق الجميع على وجوب الفدية، وإن كان المالكية قد اشترطوا الوصية بها من قبل الميت، فإذا لم يوصِ لم تجب.
وسبق القول إن الإمامية يوجبون القضاء والفدية إذا استمر التأخير حتى رمضان الثاني.. فلو مات وهذه حاله تجب عليه الفدية مضافة إلى القضاء.

الثالث: الكفّارة:
وهي ثلاث خصال: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً وقد اُختلف في سببها:
فعند الإمامية تجب الكفّارة لدى الفعل العمدي الاختياري لواحد من المفطرات ذكروها من دون فرق بينها، ووافقهم المالكية في ذلك على طبق ما هو معتمد عندهم في التفاصيل.
وعند الأحناف لا تجب الكفارة إلاّ عند الجماع والأكل والشرب، بشروط وتفاصيل كثيرة.
وعند الشافعية لا تجب الكفارة إلاّ عند الجماع، وبشروط كثيرة، ووافقهم الحنابلة وزادوا عليه المساحقة الموجبة للإنزال.

وها هنا جملة مسائل:
 مسألة (1) ذهب الإمامية والمالكية إلى أن المكلّف مخير بين خصال الكفارة يفعل منها أيها شاء.
وذهب سائر المذاهب إلى أنها مرتبة، فيجب عليه أولاً عتق الرقبة فإن عجز وجب الصيام، فإن عجز أطعم ستين مسكيناً.
 مسألة (2) انفردت الإمامية بثبوت كفّارة الجمع أي الخصال الثلاث مجتمعة، وذلك عند الإفطار على محرم، كالزنا وشرب الخمر ونحوهما.
 مسألة (3) لا تتكرّر الكفّارة إذا تكرّر سببها في يوم واحد باتفاق الجميع، ولكن اشترط الحنابلة لذلك عدم التكفير عن الأول، أما إذا كان قد شرب مثلاً أول مرة فكفّر، فإذا شرب في نفس اليوم ثانية وجب عليه التكفير مرة ثانية.
واستثنى الإمامية الجماع فإنهم أوجبوا تكرار الكفّارة على تكرّره دون غيره من المفطرات، سواء كفّر للمرة الأولى أو لم يكفّر.
 مسألة (4) التتابع المطلوب في شهرَي الكفّارة يجب فيه الاستمرار طوال الشهرين عند الأربعة ، ويجوز قطعه لعذر شرعي ثم العود للمتابعة عند الحنابلة ، أما من عداهم من الأربعة فإن التتابع ينقطع بالعذر الشرعي ويجب استئناف الصيام من جديد.
ولا يجوز القطع من دون عذر عند الجميع ، ويجب الاستئناف من جديد.
أما الإمامية فان حدّ التتابع عندهم صيام شهر كاملٍ ، ويوم من الشهر الثاني. والإفطار بدون عذر يقطع التتابع ويوجب الاستئناف، دون ما لو قُطع التتابع لعذر.
 مسألة (5) إذا عجز عن الكفّارة بخصالها الثلاث استقرت في ذمته إلى أن يتمكن من الإتيان بها ، عند الثلاثة.
وعند الحنابلة تسقط عنه حتى لو أيسر بعد ذلك.
وعند الإمامية يتخير بين صوم ثمانية عشر يوماً أو التصدق بما يطيق ، فإن عجز عن ذلك ولم يقدر على شيء استغفر الله، وعليه الإتيان بها عند القدرة.
 
المبحث السادس ـ الصيام المحرم :
من المعلوم أن الصوم ينقسم إلى واجب ومستحب ومكروه وحرام ، وقد رأينا من المهم الإشارة إلى الصيام المحرّم دون غيره، وذلك لما قدّرناه من أهمية هذا القسم ومجهوليته ، خلافاً لغيره من الأقسام ، مضافاً إلى ضيق المجال عن استيعاب جميع ذلك.
وللصيام المحرّم موارد عديدة هي:
1ـ صوم يومَي الفطر والأضحى الموافقين الأول من شوال والعاشر من ذي الحجة ، باتفاق الجميع عدا الحنفية فإنه عندهم مكروه تحريماً، أي أنه أقرب إلى الحرام.
2ـ اختلفت المذاهب في حكم صيام الأيام الثلاثة الواقعة بعد عيد الأضحى ، وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، ذلك على النحو التالي:
عند الإمامية محرّم على من كان بمنى دون غيره.
وعند الحنابلة لا يحرم صيامها في الحج ويحرم في غيره .
وعند الحنفية مكروه تحريماً في غير الحج.
وعند الشافعية حرام مطلقاً، في الحج وفي غيره.
وعند المالكية، يحرم صيام الحادي عشر والثاني عشر في غير الحج، ويحلّ صيامهما للمتمتع والقارن، أما صوم الثالث عشر فمكروه.
3ـ اتفق الشافعية والمالكية والإمامية على عدم جواز صيام المرأة استحباباً من دون إذن زوجها في حال منافاة الصيام لحقوق الزوج، وأجازوه في حال عدم منافاته، كما لو كان غائباً مثلاً، ولم يُجز الحنابلة صومها بدون إذن حتى لو لم يكن منافياً لحقوقه، ما دام حاضراً، كما لو كان عنده مانع من الوطء لمرض أو إحرام أو نحوهما.
واعتبره الأحناف مكروهاً بدون إذنه مطلقاً.
 
المصادر
(1) منهاج الصالحين / ج 1 / الإمام الخوئي.
(2) العروة الوثقى/ ج 2 / السيد محمد كاظم اليزدي.
(3) مستمسك العروة الوثقى / ج 8/ السيد محسن الحكيم.
(4) الفقه على المذاهب الأربعة / ج 1 / عبد الرحمن الجزيري.
(5) الفقه على المذاهب الخمسة / محمد جواد مغنية