شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

الطهارة المعنوية للانسان في شهر رمضان

0 المشاركات 00.0 / 5

إن ما يقربنا إلى الله تعالى هو التجافي عن دار الدنيا، لأن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى الله عز وجل مادام متعلقاً بالدنيا، إن دنيا الإنسان من منصب ومال وحب للنفس تحجبه عن الوصول إلى الله عز وجل، ولهذا يقول تعالى عندما يريد أن يبين أسرار العبادة: أريد أن أطهركم، والإنسان إذا لم يطهر لا يستطيع أن يصل إلى الله عز وجل، والقرآن الكريم ذلك الفيض الإلهي الذي أنزله تعالى لا يشمل إلا المطهرين: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون)، (الواقعة: 77 ـ 79) .
 فالمطهرون فقط هم الذين ينهلون من معارف القرآن، والمطهرون الواقعيون هم الأئمة (ع) والقرآن الكريم يصفهم بقوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)، (الأحزاب: 33).
 فلا يصل إلى عمق القرآن إلا المطهرون، فالأئمة (ع) هم الذين يعرفون عمق وحقيقة القرآن، وتلامذتهم ينهلون من معارف القرآن أيضاً، كل حسب طهارته.
القرآن يعتبر الطهارة سر العبادات، وما التعليمات والإرشادات القرآنية إلا لتطهير الإنسان، وليس المقصود من الطهارة، الطهارة الظاهرية، وإذا كان الإنسان يتصور أن الوضوء بالماء وغسل ظاهر بدنه يطهره طهارة ظاهرية، فهذا غير صحيح لأن الطهارة تحصل بالتيمم بالتراب أيضاً، ومن هنا يظهر أن المقصود من الطهارة التي يريدها الله عز وجل هي الطهارة الداخلية، الطهارة من الأنانية وحب الذات.  
من الممكن أن يطهر الماء بدن الإنسان طهارة ظاهرية، لكن ضرب اليدين على الأرض ومسح الوجه بهما يطهر الإنسان طهارة معنوية، ففي سورة المائدة آية تبين هذا المعنى للطهارة: (فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون). (المائدة: 6)
فاذا لم تجدوا الماء فامسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب لكي تتطهروا، يقول بعض الأكابر من العلماء: إن ضرب اليدين على الصخر المجرد الخالي من التراب مشكل لأن الآية الكريمة تقول: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)، فلابد من التصاق شيء من التراب بالوجه.
يقول تعالى: انه لا يريد بكم المشقة والعناء بل يريد أن يطهركم، فيظهر أن مسح الوجه واليدين يطهر الإنسان طهارة معنوية، يطهره من الغرور والأنانية، فلا يتكلم بكلام غير مرض، كأن يقول: إنني أرى كذا وكذا.
ومع أن الله عز وجل لم يترك نعمة إلا وأحصاها، فهو بحثنا على شكر النعم والتيمم نعمة من الله تستحق الشكر.
ليس هناك عدو للإنسان أكبر من العدو الداخلي، أي النفس، وليس هناك خبثاً أكبر من خبث النفس، ولهذا جاءت العبادات لانقاذ الإنسان من الأمراض النفسية، وكل تعاليم الدين الحنيف جاءت لتطهير الإنسان، فالإنسان يصلي ويصوم، ويجاهد من أجل أن يتطهر، ويستشهد من أجل أن يطهر، ويتحمل الصعوبات وويلات الحرب من أجل أن يكون نقياً وخالصاً من الغرور.
وكما أن للصلاة سراً، فكذلك الصيام، والطهارة واحد من تلك الأسرار، وللذهاب للقتال سر، وللحج سر، وكما أن المصلين ليسوا سواء في الدرجات، فكذلك الحجاج والمجاهدون، فلابد من أن نعمل عملاً نتفوق به بين المصلين والحجاج والمجاهدين.
هذه هي المهمة العالية التي علمتنا بأن الطريق إلى الله عز وجل مفتوح، وليس هو حكراً على أحد، أو مغلقاً بوجه أحد، نحن عندما ندعو بدعاء كميل في ليالي الجمعة نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أفضل عباده عنده، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الطريق إلى الله عز وجل مفتوح، "وأقربهم منزلة منك وأخصهم زلفة لديك"،   دعاء كميل. فالطريق لم يغلق بوجه أحد.
إن همتنا ينبغي أن لا تكون في عدم الاحتراق بالنار، فعدم الاحتراق بالنار ليس فخراً، لأن الكثير من الناس لا يحترقون ولا يعذبون بالنار، كالأطفال والمجانين والمستضعفين الذين لا يعرفون الأحكام الإلهية، فليس الفخر في الخلاص من النار، وإنما الفخر والفضل في أن نكون أفضل العباد عند الله، وأن نكون قدوة للبشرية، أن يجعلنا الله تعالى في أعلى مقام يمكن أن يصله الإنسان، غير مقام الأنبياء والأئمة (ع).
هكذا يجب أن تكون همتنا، ففي الحديث الوارد عن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) عن رسول (ص) أنه قال: "إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها"، فالله سبحانه يحب ذوي الهمم العالية والأفكار الصحيحة.
يجب أن لا يكون سعينا من أجل النجاة يوم القيامة من النار، وأن نعبد الله خوفاً من ناره "تلك عبادة العبيد"، فلقد جاءت الأحاديث التي تدعو إلى إحياء الهمم العالية والطلب منه تعالى معالي الأمور وأشرافها.
يعلمنا الحديث الوارد عن الحسين (ع) ـ والذي هو مصداق لسيرته ـ كيف نكون أصحاب همم عالية؟ كيف تكون الأمة أمة عالية، هذه الروح العالية والاباء العظيم تعلمه من جده رسول الله (ص)، فالذي يتربى ويتعلم ويتخرج من مدرسة رسول الله (ص) لا يتذرع بالحجج الواهية، إنها كلمات الفداء والتضحية والشهادة وليس في عقيدة الإمامة والولاية معنى للخوف، ولا يمكن أن يتطرق الخوف لأولياء الله عز وجل.
لو تسنى لشخص ما أن يكون إنساناً أبدياً، وأن يصل إلى مقام سام، عندئذٍ يكون همه السعي للوصول لذلك المقام، نحن لسنا بصدد الحديث عن مقدار من الماء أو بقعة من الأرض، أو في كيفية الخلاص من النار، جميع التعالمي الدينية لها جانب روحي وجانب مادي، وجميع موارد الطهارة حتى التولي والتبري لا تخلو عن هذين الأمرين، وكذلك الحرب والجهاد، وإن الروحية العالية هي التي أوصلت الشهيد إلى ذلك المقام الرفيع.
إن القرآن الكريم هو الذي دلنا على الجانب الروحي للعبادات، لننطلق منه إلى معرفة بقية الأحكام، لقد بدأ القرآن الكريم بالطهارة وصولاً إلى بقية الأحكام الإلهية، والظاهر من هذه الأحكام أن الله عز وجل يريد للإنسان أن يكون عبداً له لا لسواه.
يقول الرسول (ص) بخصوص الصلاة: في كل وقت من أوقاتها ينادي ملك "أيها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم". من لا يحضره الفقيه (ج1، باب 30) فضل الصلاة الحديث 3.
إن الصلاة نهر صاف، وعين ماء الكوثر، فهي تطفئ النيران وتمنع من تجدد اشتعالها على الظهور، إنها تمحو الذنوب التي اقترفها الإنسان، وتمنعه عن ارتكابها مرثة ثانية، وهذه هي خاصية الصلاة، كما ذكرها القرآن الكريم: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)، (العنكبوت: 45) .
 ونقل عن الإمام الصادق (ع): "أول ما يحاسب به العبد الصلاة، فإذا قبلت قبل منه سائر عمله، وإذا ردت عليه رد عليه سائر عمله، فإذا صليت فأقبل بقلبك إلى الله عز وجل فانه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله عز وجل في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين إليه وأيده مع مودتهم إياه بالجنة"،  من لا يحضره الفقيه (ج1، باب 30 حديث 5).
 فأول ما يسأل عنه الإنسان الصلاة فإذا قبلت قبل كل عمله، لقد عرف القرآن الكريم الصلاة والمصلين، فالمصلي من ليس له طمع في الدنيا، ولا تشغله الأموال التي في عهدته عن العبادة، وغيره هم عباد الدنيا الذين وصفهم القرآن الكريم بقوله: (إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً)، (المعارج: 19 ـ 21) .
 وهذه هي الطبيعة البشرية، ولكن القرآن يستثني المصلين من أولئك الذين لهم هذه الطبيعة فيقول: (إلا المصلين). (المعارج: 22)
فالمصلون محفوظون من هذه الرذائل، والصلاة هي التي تطهر الإنسان منها، وتحفظه وتطهر ذاته لأنها مجلبة الفضائل ومنجية من الرذائل.
يقول الإمام الصادق (ع): "إن العبد إذا صلى الصلاة في وقتها وحافظ عليها ارتفعت بيضاء نقية، تقول حفظتني حفظك الله، وإذا لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها ارتفعت سوداء مظلمة تقول ضيعتني ضيعك الله". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح6.
 من هنا يتبين أن للصلاة حقيقة، وحقيقتها أنها حية ولها روح خالدة، وهي تدعو للمصلي ودعاؤها مستجاب، وإذا لم يصل الصلاة لوقتها ترتفع سوداء وهي تدعو عليه.
إن أفضل حالات الصلاة، عندما يكون المصلين في السجود، يقول الصادق (ع): كلما اقترب الإنسان بجبهته من التراب من الله عز وجل "أقرب ما يكون العبد إلى الله ـ عز وجل ـ وهو ساجد".  من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح7.
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع)، أنه قال: "عجبت لشخص أمام بيته عين ماء يغتسل منها كل يوم خمس مرات ثم لا يكون طاهراً"،
 قال: الصلاة مثل عين الماء الزلال تطهر المصلي الذي يصلي خمس مرات في اليوم، الصلاة كماء الكوثر تطهر الإنسان، وإذا لم نحس بالطهارة ولذة الصلاة، فلنعلم أن صلاتنا ليست على الوجه المطلوب.
من الممكن أن تكون صلاتنا صحيحة لكنها غير مقبولة، إنما تقبل الصلاة عندما تتطهر بواطننا وتحدث تغييراً في نفوسنا، يقول الصادق (ع): "لا تجتمع الرهبة والرغبة في قلب إلا وجبت له الجنة". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح11.
إذا خاف الإنسان من ربه وكانت تربطه بالله رابطة قوية فثوابه على الله الجنة.
 أحياناً يجعل الإنسان الله وسيلة للوصول إلى الجنة، وهذا ناشئ عن ضعف الهمة، والله سبحانه لا يحب مثل هذه الهمم، ولكن في بعض الأحيان لا يطلب الإنسان من الله شيئاً سوى لقائه ورضاه، وهنا يفيض الله عز وجل نعمه على مثل هذا الانسان، فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة في قلب الإنسان كان ثوابه الجنة، وإذا احضر الإنسان قلبه في الصلاة، كان على حفظ عينه وأذنه خارج الصلاة أقدر، وإذا أطلق العنان لعينه وأذنه خارج الصلاة منعته تلك الخواطر وكانت له شغلاً شاغلاً عن حضور القلب عند الصلاة، فالمهم أن يحفظ الإنسان جوارحه أثناء الصلاة.
لقد أمرنا بتطهير الفم: "طهروا أفواهكم فإنها طرق القرآن"، وليس المقصود بتنظيف الفم تطهيره بالمسواك فقط، بل حفظ اللسان والفهم عن الفحش وقول السوء وأكل الشبهة، حفظ الفم عن كل كلام سيئ، لأنه طريق القرآن، فإذا كان القرآن عين ماء الكوثر، فلا يمكن أن يمر هذا القرآن من فم لم يطهر، وإذا مر منه فلا تترتب على ذلك أي فائدة، فما العبرة من تطهير الفم؟ إن العبرة والفائدة هي أن نتلو القرآن يسمعه الآخرون، وأن نستمع فنهتدي بنوره ونقتدي به.
إن الله سبحانه وتعالى يتفضل على عباده بالرحمة والنعم إذا توجهوا إليه بقلوبهم، فقبل التفضل بالنعم الإلهية، يجعل الله عز وجل قلوب الناس متجهة.
ما أحلى أن يكون الإنسان موضع قبول المؤمنين ورضا قلوبهم، ألا يحب الإنسان أن يكون حبوباً لدى المؤمنين؟ يسعى الجميع لمساعدته والدعاء له بالمغفرة والرحمة، فمتى يكون الإنسان مهوى قلوب المؤمنين؟ وفي أي حال يطلبه المؤمنون؟ إذا كان قلبه متعلقاً بخالقه، خصوصاً في وقت الصلاة، عند ذاك يكون محبوباً لدى المؤمنين.
في دعاء إبراهيم الخليل (ع): (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم). (إبراهيم: 37) اللهم اجعل مجموعة من الناس تهوى ذريتي وتحبهم.
يعلمنا القرآن الكريم كيف نكسب حب الناس فيقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً). (مريم: 96) فمن نعم الله عز وجل على عبده المؤمن في الدنيا أن يجلب قلوب الناس والمؤمنين له، ويجعله مرضياً عند الناس جميعاً، فأي نعمة أفضل، وأي درجة أعلى من هذه الدرجة؟
الطريق مفتوح أمام الإنسان للوصول إلى مثل هذا المقام، لكن سلوك هذا الطريق صعب، وهذا لا يعني أن الطريق مبهمة، بل هي غاية الوضوح والاستقامة، ونهايته سعادة أبدية خالدة.
كان الإمام الرضا (ع) وعند وقت تناول الطعام يطلب إناءً فارغاً، ويضع فيه من أفضل الطعام ثم يرسله إلى الفقراء وهو يقرأ هذه الآيات (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة)، (البلد: 11 ـ 12) لماذا لا يخرج الناس من هذا الطوق؟ لماذا يحبون المشي في الأرض المنخفضة ولا يرتقون إلى القمم لتكون رؤيتهم واضحة وجلية؟ فالذي يمشي في السفح لا يرى شيئاً، أما الذي يصعد الجبل فسوف يرى الأشياء بشكل جيد. لماذا ينفق الناس الطعام الباقي واللباس القديم؟ ليس هذا طريق الخير، وليس هذا اقتحام العقبة، لماذا يرضى بالمستويات الهابطة؟ لماذا لا يحب الناس الصعود إلى معالي الأمور؟ وهذه الآية المباركة تدعونا إلى كسر الطوق وارتقاء المعالي، إن الله لا يحب الأعمال الخسيسة الدنيئة.
إذا شاهدنا أن القلوب مشدودة لمقام معين، فلنطمئن إلى أن الله عز وجل هو الذي شدها إليه، وهذا المقام نصيب كل من أراد الصعود وسلوك طريق الخير. فليس من المعقول أن يتوجه الإنسان بقلبه في الصلاة إلى الله عز وجل ولا يوجه سبحانه قلوب المؤمنين إليه، فهذه نعمة دنيوية قبل نعيم الآخرة، وهي خير الدنيا والآخرة.
لكل صلاة خصوصية معينة، ومن بين الصلوات، صلاة الظهر (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، (البقرة: 238) لقد فسرت الروايات الصلاة الوسطى بصلاة الظهر، فإذا زالت الشمس وحان وقت الصلاة فلا تفوتنكم فضيلة الصلاة في وقتها. فعند الزوال تفتح أبواب الرحمة، فاسألوا الله عز وجل الرحمة، وفي هذا الوقت لا تكن مشغولاً بالدعاء لنفسك أو لوالديك بل أدع لجميع المؤمنين والمؤمنات ولتكن همتك عالية.
قال الرضا (ع): "لك الحمد ان أطعتك ولا حجة لي أن عصيتك ولا صنع لي ولا لغيري  في إحسانك، ولا عذر لي ان أسأت، ما اصابني من حسنة فمنك يا كريم، إغفر لمن في مشارق الأرض ومغاربها من المؤمنين والمؤمنات".  بحار الأنوار: ج12، ص23.
وفي وقت الزوال تفتح أبواب الرحمة، ولهذا يستحب البدء بالجهاد بعد الزوال وذلك من أسرار الجهاد، وقبل الزوال يكون الجهاد مكروهاً، إلا أن يبدأ العدو بالقتال وحينذاك يصبح الرد عليه جائزاً في أي وقت، ويعلمنا القرآن الكريم أنه كما أن للمسائل الفردية قصاصاً فكذلك للأحكام الإلهية قصاص، فإذا قتل شخص ظلماً وعدواناً فلأولياء المقتول الحق في الاقتصاص، (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، (البقرة: 179) فبالإمكان الرد على العدو إذا اعتدى في الأشهر الحرم (والحرمات قصاص). (البقرة: 194).
أي أنكم تستطيعون القصاص منهم في هذه الأشهر، فلا تقولوا يحرم الدفاع في الأشهر الحرام ضد من يعتدي عليكم فيها، بل دافعوا وردوا عدوكم، لأن السكوت على الظلم ذلة، والله سبحانه لا يحب الذليل "لا يحتمل الضيم إلا الضعيف". فما أسمى هذه المعاني وأرفعها! الإمام علي (ع) يصف الذي يقبل الظلم بأنه ضعيف، والأمة العزيزة الشريفة لا تقبل الظلم والجور يقول (ع): "ردوا الحجر حيث جاء فإن الشر لا يدفعه إلا الشر".   نهج البلاغة الحكمة 314.
لماذا يكون البدء بالقتال قبل الظهر مكروهاً، وبعد الظهر مستحباً؟ إن السر والنكتة في ذلك ما يستفاد من الأحاديث أنه عسى أن يهدي الله قلوب الكفار والمنافقين ويسلموا، وبذلك تحقن دماؤهم، هذا هو السر في الحرب، يقول صاحب الجواهر ـ رضوان الله عليه ـ إن سيد الشهداء الحسين بن علي (ع) بدأ الحركة والجهاد بعد صلاة الظهر، أما ما كان قبل صلاة الظهر فكان دفاعاً عن النفس، ولهذا صلى الإمام (ع) بتلك الحالة، ومن ثم نزل إلى ساحة المعركة لقتال العدو.
إن ابواب الرحمة تفتح بعد الزوال فاسألوا الله الرحمة الشاملة الكاملة.
عن الرسول (ص) أنه قال: "إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء وابواب الجنان واستجيب الدعاء فطوبى لمن رفع له عند ذلك عمل صالح".  من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح12.
فهنيئاً للذي يعمل عملاً صالحاً من بعد الزوال، إن عمله سيرتفع إلى السماء، وإذا ارتفع عمل ارتفع عامله، فليس من المعقول أن يرتفع العمل ويبقى العامل، وليس من الممكن أن تفصل نية الإنسان عن عمله، إن العمل ليس كالبخار أو الدخان، إنه حقيقة واقعية غير مفصولة عن روح الإنسان، ولا يرتفع العمل لتبقى روح الإنسان ملتصقة بالأرض وهي ـ أي الروح ـ منشأ الأعمال، فإذا ارتفع العمل وعامله أصبح الإنسان إنساناً ملائكياً في صف الملائكة.
ومما جاء في أقوال أمير المؤمنين (ع) القصار: "فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه"،  نهج البلاغة الحكمة 32. فنفس الإنسان الصالح أفضل من العمل الصالح، وإذا كان للصلاة فضيلة فالفضل للمصلي لأن الصلاة فعله وأثره، فكيف ترتفع الصلاة ولا يرتفع المصلي؟ كيف يمكن أن يرتفع الصيام ولا يرتفع الصائم؟ وكذلك العمل السيئ ففاعل السوء، والفحشاء أسوأ من عمله.
فإذا ارتفع عمل الخير ارتفعت روح الإنسان الفاعلة له، كان الرسول (ص) يقول لأمته: (تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم). (الأنعام: 151)
تختلف (إليّ) عن (تعال)، فإذا كان شخصان على سطح واحد وأراد أحدهما أن ينادي الآخر يقول له (إليّ)، أما إذا كانا على سطحين مختلفين فالذي في الطبقة العليا يقول للأدنى (تعال)، وكلام الأنبياء من هذا القبيل.
ذكر هذه الملاحظة صاحب التفسير البيضاوي إذ قال: عندما يبني بعض سكنة المناطق الجبلية بيوتهم فانهم يبنونها على سطح الجبل، وتبقى الوديان للزارعة، وعندما يذهب أطفالهم للعب في هذه الوديان يناديهم آباؤهم قائلين: تعالوا تعالوا... وكلام الأنبياء (ع) يشبه هذا، والقرآن الكريم عندما ينقل كلام النبي (ص) يقول: (تعالوا اتل... عليكم).
الى متى نبقى ننظر إلى الأسفل، إلى التراب؟ يقول صدر المتألهين: الإنسان الذي يقضي عمره في بناء قصر أو جمع مال لا يمكن أن يرتقي أو يصل إلى مقام مقبول عند الله عز وجل، مثله مثل الشجرة كلما ازدادت شموخاً وارتفاعاً ازدادت جذورها في الأرض غوراً، إن أصل الشجرة هي العروق أما الأغصان فهي ليست إلا فروعاً.
والإنسان الذي همه هو الدنيا وزينة الأرض يتجه تفكيره إلى التراب، ومثله كثمل الشجرة التي تمد جذورها إلى أعماق الأرض، ومثل هذا الإنسان لا يستطيع أن يرتقي في سلم الكمالات، وقد أمرنا الله سبحانه أن نكون كالملائكة لا كالأشجار.
وردت هذه المعاني في أحاديث الرسول الأكرم (ص) مراراً، إذ يقول: تعالوا تعالوا فمتى ندرك ونرتقي إلى الأعلى؟ عندما لا نعرف شيئاً، علينا أن نصعد لنتعرفه، وعندما تنفلت من أيدينا زمام الأمور ينبغي أن نصعد لنتعلم كيف نسيطر على شهواتنا ورغباتنا.
من المؤسف أن يقف الإنسان إلى جانب الفساق والظلمة والمنافقين، ثم يقيس نفسه بهم ويقول الحمد لله، يقول الإمام المجتبى (ع): لا تقس نفسك بالحقراء إلا فستبقى في مكانك ولا ترقى، بل قل الحمد لله إذا لم يجعلنا مع الكفار والمنافقين، لا تجعل نفسك مع هؤلاء، بل اجعلها مع شهداء كربلاء، وقس نفسك بأصحاب الإمام (ع)، إحسب نفسك مع أولئك الذين صلوا صلاة الصبح بوضوء العشاء.
إن دماء أصحاب الحسين (ع) الطاهرة هي التي حفظت الإسلام، وهذا يعني أنه لولا تلك الدماء لما تحمل الإسلام كل هذه الضربات والأزمات وتشريد القادة وقتل الأئمة (ع) بأشكال مختلفة، فمنذ استشهاد الإمام الحسين (ع) حتى ولاية الإمام العسكري (ع) عانى الإسلام أشد المعاناة على أيدي خلفاء السلطة الأموية والعباسية وبقية السلاطين الظلمة، ومع ذلك بقي الإسلام، وما ذاك إلا بفضل تلك الدماء الزكية التي سالت على أرض كربلاء، وإذا أدركنا كيف حفظت هذه الدماء الأمة، عندئذ نعرف أن هذه الدماء ليست دماءً عادية، وبهذه الدماء نستطيع أن نحفظ بلادنا وإسلامنا.
يقول الإمام المجتبى (ع): لا تجعل نفسك مع أهل الدنيا وإلا أصابك الضرر، ولقد كلفنا باحياء ليالي الجمعة ونطلب من الله سبحانه أن يجعلنا من أحسن خلقه (وأخصهم زلفة لديك)، ولهذا يقول رسول الله (ص): "هنيئاً لأصحاب الأعمال الحسنة الصالحة، أولئك يرقون في السماء وتصبح أرواحهم ملائكية".

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية