شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

مشروعية زيارة البقيع والبناء على القبور وطلب الشفاعة والتوسّل بأهلها

0 المشاركات 00.0 / 5

إنّ الموضوع المطروح للإيضاح هو مشروعية زيارة البقيع والقبور والبناء عليها وطلب الشفاعة والتوسل بأهلها، وما هو موقف علماء المسلمين منها؟

وهل إن زيارتها فيها شبهة وبدعة؟

سوف نستدل على المختار مشروعية الزيارة... بالأدلة التالية:

1. القرآن.

2. السنة.

3. الإجماع.

4. العقل.

5. الدليل العلمي.

6. الدليل الفطري.

الدليل الأول: القرآن الكريم

لقد أثبت القرآن مشروعية البناء على القبور والزيارة والعبادة عندها وإقامة المساجد عليها، والقرآن هو عندنا من الأدلة الأولية والقطعية والشرعية كضابطة وقانون يستلهم منها الأحكام الشرعية للإسلام والمسلمين.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، في تفسير سورة الكهف آية: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (1) قال: هؤلاء القائلون هم الموحدون، ومن الشاهد عليه التعبير عمّا اتخذوه بالمسجد دون المعبد، فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله والسجود له(2).

وقال صاحب تفسير (مجمع البيان) الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره سورة الكهف آية: (ولنتخذن عليهم مسجداً) قال: وموضعاً للعبادة والسجود يتعبد الناس فيه ببركاتهم(3).

وجاء في تفسير الكاشف للشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره سورة الكهف آية: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً) قال: نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس. وقد غلب هذا الرأي على بقية الآراء(4).

وذكر الشيخ جعفر السبحاني في كتابه (في ظل أصول الإسلام) معلقاً على مورد الاستدلال بالآية المتقدمة الذكر قال:

وعلى هذا فقد روى المفسرون، أن القول بالبناء على أصحاب الكهف كان قول المشركين، والقول باتخاذ المسجد كان قول المسلمين، وهذا هو الظاهر مما رواه ابن جرير الطبري؛ فإن أصحاب الكهف إنما بعثوا بعد سحق الوثنية واستعادة المؤمنين المسيحيين سلطتهم وكيانهم(5).

وقال أيضاً: ويظهر من الكتاب أن البناء على القبور والبناء على المساجد كان جائزاً في الشرائع السابقة، ولذا حصل الخلاف، وإن الاستدلال بالآية واضح لمن يرى القرآن قدوة وأسوة. وقال: إن سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين إلى عصرنا هذا أقوى حجة على الحكم الشرعي، فإن اتفاق العلماء في عصر واجتماعهم على حكم حجة شرعية عليه؛ فكيف اتفاقهم عليه طيلة قرون؛ لا سيّما الصحابة العدول؛ فالصحابة واروا جسد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بيته ولم يخطر ببال أحد أن البناء على القبور محرم، ولا أظن أن جاهلاً متنسكاً يفرق بين البناء المتقدم على الدفن والمتأخر عنه فضلاً عن العالم؛ فإن كون قبر الميت تحت بناء تكريم له وتعظيم(6).

أمّا الزيارة فلا إشكال ولا خلاف في ثبوت الزيارة وجوازها وصحتها في القرآن الكريم وحثّه عليها وخاصة زيارة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

جاء في كتاب (كشف الارتياب) للسيد محسن الأمين العاملي في مشروعية زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) قال رحمه الله: وتدلّ على مشروعيتها أدلة الشرع الأربع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل. قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (7) قال: فإن الزيارة هي الحضور الذي هو عبارة عن المجيء إليه (صلى الله عليه وآله) سواء كان لطلب الاستغفار أو بدونه، والتسليم لا يدخل في معناها، وإذا ثبت رجحان ذلك في حال حياته ثبت بعد مماته، لما دلّ على حياته البرزخية وسماعه تسليم من يسلّم عليه وعرض الأعمال عليه.

ونقل عن السبكي فيما حكاه عنه السمهودي في وفاء الوفاء: والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة واستحبوا لمن أتى القبر أن يتلوها(8).

وفي وفاء الوفاء قال السمهودي مُعلّقاً على قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) (9) قال: الآية دالة على الحث بالمجيء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) والعلماء فهموا من الآية العموم حالتي الموت والحياة واستحبوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر الله تعالى. ويعلم من كمال رحمته أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربه(10).

وقد علّق صاحب كتاب صدق الخبر على الآية السابقة الذكر على نحو ما تقدم من كلام السمهودي إلاّ أنه أضاف قائلاً: فأما استغفاره (صلى الله عليه وآله) فهو حاصل لجميع المؤمنين بنص قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (11) وصح في مسلم عن بعض الصحابة أنّهم فهموا من الآية ذلك (12).

 

الدليل الثاني: السنة المطهرة

وهي الأحاديث التي صدرت عن النبي (ص) وعن المعصوم (ع) من قول وفعل وتقرير، وهي حجة عندنا وهي الدليل الثاني بعد القرآن الكريم، ويشترط فيها أن يكون رواتها ثقاة:

وقد أثبتت أحاديث كثيرة عند المسلمين مشروعية جواز البناء على القبور وجواز زيارتها، وكذا عمل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله):

جاء في صحيح البخاري ج4 ص109 قال: حدثنا يحيى بن سلمان حدثني ابن وهب أخبرني عمرو أن بكيراً حدثه أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه أنه سمع عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان يقول عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله): إنكم أكثرتم، وإني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: من بنى مسجداً ـ قال بكيراً: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله ـ بنى الله له مثله في الجنة.

وأما في جواز زيارة القبور فجاءت فيها الأحاديث مستفيضة وكثيرة عند المسلمين تحث وترشد وتؤكد على زيارتها، فمن هذه الأحاديث ما يلي:

في سنن ابن ماجة: ج1 ص 500 قال: وعن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رخّص في زيارة القبور.

وفي مستند أحمد بن حنبل في هامش الكتاب من منتخب كنز العمال للمتقي ج6 ص273 قال: وعن أم سلمة (رضي الله عنها): قد كنت (صلى الله عليه وآله) نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمّد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكركم الآخرة.

كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو نفسه كان يزور قبور الشهداء في أحد والبقيع ويستغفر للموتى.

جاء في مسند أحمد بن حنبل في هامش الكتاب من منتخب كنز العمال للمتقي ج5 ص360 قال: وعن ابن مسعود قال: يا أبا مويهبة انطلق؛ فإني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، السلام عليكم يا أهل البقيع.

وفي خروجه (صلى الله عليه وآله) إلى شهداء أحد، روى في سنن أبي داود ج3 ص216 قال: وعن عقبة بن عامر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج يوماً فصلّى على أهل اُحد صلاته على الميت ثم انصرف.

وفي كتاب وفاء الوفاء قال السمهودي ج2 ص932: روى الحاكم عن علي (رضي الله تعالى عنه): أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة، فتصلي وتبكي عنده.

وروى السمهودي عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر عليه السلام): أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت تزور قبر حمزة (رضي الله تعالى عنه) ترمه وتصلحه، وقد تعلمته بحجر.

وروى السمهودي أيضاً حديثاً قال: روى ابن شبه عن عباد بن أبي صالح، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأتي قبور الشهداء بأُحد على رأس كل حول فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال: وجاءها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.

أقول: وفعل الزهراء (عليها السلام) هذا كاشف عن الجواز لزيارة القبور فلو كانت محرمة لنهى وردع عنها النبي (صلى الله عليه وآله)، بل هو حثّ على زيارتها وقام بهذا الفعل ومعه الصحابة، وهذا مما ظهر واستدل عليه من فعله وسكوته وأقواله التي جاءت بها الأحاديث المتقدمة الذكر.

الشفاعة

من أكبر نعم الله وتفضله على العباد أنه منّ عليهم بقبول الشفاعة من أنبيائه وأوليائه والصالحين من عباده المخلصين لطاعته.

وقد جاء ذكر الشفاعة في الشريعة المقدسة، وهذا ما أثبتته الأدلة المتوافرة والكثيرة بين أيدي المسلمين.

جاء في مسند أحمد بن حنبل في هامش الكتاب من منتخب كنز العمال للمتقي ج6 ص81 قال: عن عبد الرحمن بن عوف قال النبي (صلى الله عليه وآله): شفاعتي يوم القيامة حق، فمن لم يؤمن بها لم يكن من أهلها.

وجاء في نفس المصدر قال: وعن أبي الدرداء ـ قال النبي ‚ ـ : شفاعتي لأمّتي، مَن أحب أهل بيتي) (13).

وجاء في سنن أبي داود ج4 ص23 قال: وعن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: شفاعتي لأهل الكبار من أمتي.

وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج1 ص71 قال: وعن عبد الله بن شقيق قال: جلست إلى قوم أنا رابعهم فقال أحدهم: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم، قال: قلنا: سواك يا رسول الله؟ قال: سواي.

وروي في سنن النسائي ج2 ص76 قال: وعن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من الناس فيبلغوا أن يكونوا مائة فيشفعوا إلاّ شفعوا فيه.

وجاء في كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي ج14 ص322 قال: وبإسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة.

الشفاعة في اللغة:

في لسان العرب قال: وروي عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه): الشفاعة الدعاء ههنا.

وقال ابن منظور أيضاً: وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، والمُشَفِّع الذي يقبل الشفاعة، والمُشَفَّع الذي تقبل شفاعته. وقال: الشافع الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب(14).

وقال السيد الخوئي في (البيان في تفسير القرآن) ص480: أما إذا أذن الله بالشفاعة لأحد إن الاستشفاع به يكون نحواً من الخضوع لله والتعبد له.

كما قال السمهودي في كتابه وفاء الوفاء ج2 ص1370: واعلم أن الاستغاثة والتشفع بالنبي (صلى الله عليه وآله) وبجاهه وبركته إلى ربه تعالى من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين، واقع في كل حال: قبل خلقه (صلى الله عليه وآله) وبعد خلقه، في حياته الدنيوية، ومدة البرزخ وعرصات القيامة.

التوسل بالنبي والصالحين من أهل القبور

أما التوسل بالنبي (ص) وبالصالحين من أهل القبور فإنّ الصحابة كانوا في حياتهم وسيرتهم يتوسلون ويتبركون بالنبي (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد مماته ويقدمونه أمام حوائجهم الدنيوية والأخروية، وبما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل لهم في اعتقادهم أنه أفضل الخلائق وأحب عباد الله إليه وأفضل أنبيائه ورسله، وبما أنه يمثل واسطة الفيض الإلهي، ولما رأوا على يده المباركة الكثير من المعاجز الكبيرة جعلوا من النبي (صلى الله عليه وآله) باباً يتوسلون به إلى الله سبحانه وتعالى في قضاء حوائجهم، وقد قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (15) كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينه أحداً من الصحابة عن التبرك والتوسل والاستشفاع به، مما جعل الصحابة يتسابقون في نيل البركة منه والتماس التوسل والاستشفاع به إلى الله تعالى، وهذا كله ثبت بالأحاديث المروية في كتب المحدثين وكتب التفسير وكتب السير المتوارثة بين المسلمين.

روي في مسند أحمد بن حنبل ج4 ص329 قال: وعن عروة بن الزبير عن المسور بن محزمة في حديث مطول قال: ثم إنّ عروة جعل يرمق النبي (صلى الله عليه وآله) بعينه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله (صلى الله عليه وآله) نخامة إلاّ وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.

وذكر السمهودي في وفاء الوفاء ج2 ص1372 في التوسل حديثاً قال: رواه جماعة؛ منهم النسائي والترمذي في الدعوات عن جماعة عن عثمان بن حنيف: إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمّد (صلى الله عليه وآله) نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهّم شفعه فيّ» قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه البيهقي وزاد: فقام وقد أبصر، وفي رواية، ففعل الرجل فبرأ.

ونقل السمهودي حادثة أيضاً في كتابه وفاء الوفاء ج2 ص1376 جرت لأبي جعفر المنصور الدوانيقي العباسي سأل فيها مالك بن أنس، قال يا أبا عبد الله استقبل القبلة وادعو، أم استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (عليه السلام) إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله.

ذكر صاحب كتاب صدق الخبر حادثة قال فيها: روى الدارمي في صحيحه عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا(16).

أقول: وهذه الأحاديث تدل وتأكد بأجمعها على جواز مشروعية التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً، وعلى جواز استقبال قبره الشريف للتوسل وللزيارة وطلب الشفاعة والتبرك به.

الدليل الثالث: الإجماع

الإجماع حجة عند جميع المسلمين، وهو عندنا حجة بالكشف وبدخول قول المعصوم (عليه السلام) معهم، وقد قام الإجماع على ذلك.

قال السيد محسن الأمين العاملي رحمه الله: بل إن استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين بل سائر المؤمنين ومشروعيتها ملحق بالضرورة عند المسلمين، فضلاً عن الإجماع، وسيرتهم مستمرة عليها من عهد النبي (صلى الله عليه وآله) والصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين في كل عصر(17).

وقال السمهودي: وقد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة حتى على مكة المنيفة(18).

وقال أيضاً: وأما السنة فما سبق من الأحاديث في زيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) بخصوصه، وقد جاء في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، وقبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيد القبور وداخل في عموم ذلك، وأما الإجماع فقال عياض: زيارة قبره (صلى الله عليه وآله) سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها(19).

قال صاحب كتاب صدق الخبر: قال العلامة ابن حجر المكي الشافعي في كتابه الجوهر المنظم: اعلم وفقني الله وإياك لطاعته وفهم خصوصيات نبيه (صلى الله عليه وآله) أن زيارته مشروعة ومطلوبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس(20).

وقال أيضاً: وأما الإجماع فقد نقل جماعة من الأئمة حملة الشرع الشريف الذين عليهم المدار والمعول في نقل الخلاف، الإجماع عليها، وإنما الخلاف بينهم في أنها واجبة أو مندوبة، وقال الحنفية: أنها تقرب من درجة الواجبات، وقال بعض الأئمة المالكية: أنها واجبة(21).

ونقل صاحب صدق الخبر القول بالجواز عن جمع من علماء المذاهب الأربعة، منهم الإمام النووي الشافعي، وعبد القادر الجبلاني الحنبلي، والإمام كمال الدين الحنفي، والإمام المحدّث الشيخ العدوي المصري المالكي، والإمام مالك بن أنس في سؤال المنصور إليه(22).

ونقل السمهودي بالجواز عن العلماء للزيارة والتبرك بقبره الشريف (صلى الله عليه وآله)، قال: قال حجة الإسلام الغزالي: كل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد موته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض(23).

وجاء أيضاً في وفاء الوفاء: وقال القاضي ابن كج من أصحابنا: إذا نذر أن يزور قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فعندي يلزمه الوفاء بشرط في النذر أن يكون مما وجب جنسه بالشرع، ويقول: إن زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجب جنسها، وهي الهجرة إليه في حياته(24).

وقد روى الشيخ الكليني في الكافي في باب زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين مكة والمدينة لم يعرض ولم يحاسب، ومن مات مهاجراً إلى الله عزوجل حشر يوم القيامة مع أصحاب بدر(25).

قال الشيخ عباس القمي (رحمه الله) في كتاب (مفاتيح الجنان) في زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) والزهراء والأئمة بالبقيع (صلوات الله عليهم أجمعين): اعلم أنه يستحب استحباباً أكيداً لكافة الناس ولا سيّما الحجاج أن يتشرفوا بزيارة الروضة الطاهرة والعتبة المنورة لمفخرة الدهر مولانا سيد المرسلين محمّد بن عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه)، وترك زيارته جفاء في حقه. وقال أيضاً: عن الشهيد: فإن ترك الناس زيارته فعلى الإمام أن يجبرهم عليها؛ فإن ترك زيارته جفاء محرم(26).

وفي كتاب (الجواهر) في باب استحباب زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل مكة: يستحب زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) للحاج استحباباً مؤكداً إجماعاً وضرورة من الدين، ولذا يجبر الإمام الناس عليها لو تركوها(27).

الدليل الرابع: العقل

العقل قوة مودعة في الإنسان ومدرك للكليات وأنه ينتزع من الأشياء مفاهيم ومصاديق، وأن العقل بالضرورة والبداهة يكشف ويحكم بالحسن والقبح العقليين على الأشياء، فيحكم بأن الظلم قبيح والإحسان جميل وأن الكل أكبر من الجزء. والعقل ليس لوحده يتأمل الحكم للقضية والموضوع، بل بدخول قواعد وعناصر وأجزاء علمية تكون هي الدخيلة في التركيب لقضية الحكم إما سالبة أو موجبة.

ومن الأمور التي يحكم العقل بحسنها هي زيارة الأولياء، فالعقل يرى في الزيارة تكريماً وإخلاصاً ووفاءً لصاحب هذا القبر؛ وخاصة إذا حكم العقل على أن صاحب هذا القبر من ذوي الفضل والصلاح، وهذا كما أوضحته الشريعة المحمدية في منهجها السليم.

جاء في كتاب كشف الإرتياب قال: العقل؛ فإنه يحكم بحسن تعظيم من عظّمه الله تعالى، والزيارة نوع من التعظيم، وفي تعظيمه بالزيارة وغيرها تعظيم لشعائر الإسلام وإرغام لمنكريه. وقال: ليس في العقل شيء يمنع من الزيارة أو يوجب قبحها، بل فيه ما يحسنها من تعظيم من عظّمه الله، واحترام من هدى الناس إلى سبيل الرشاد وكان سبب سعادتهم في الدارين(28).

أقول: وهذا أمر واضح بديهي لذوي العقول السليمة والخالية من الشبهات.

الدليل الخامس: الدليل العلمي

وهنا لابدّ من طرح حقيقة ثابتة وتصور ضروري لابدّ منه ولا تناقض فيه، وهو أنّه أثبت الفلاسفة أن حقيقة الروح ثابتة ولا انعدام فيها، وإنما العدم مختص بالمادة ومنطبق عليها، كما أنه لا يوجد موت بمعنى الفناء والانعدام، بل هو انتقال من عالم إلى عالم، أي من عالم المادة والإمكان إلى عالم الروح والبرزخ وإلى عالم المعاد، فلا يمثل القبر محل موت الروح بل الموت هو مفارقة الروح وتحليل المادة، هذا إضافة إلى أن أبدان بعض الناس كالأنبياء والأئمة وبعض الصالحين لا تموت ولا يعتريها الفناء أيضاً.

وأثبت القرآن الكريم بصريح الآية القرآنية، أنّ الشهداء أحياء ويرزقون وأنهم خالدون، قال الله تعالى في كتابه الكريم في سورة آل عمران : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (29) صدق الله العلي العظيم.

جاء في مسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة، قال: كان (صلى الله عليه وآله) إذا دخل الجبانة يقول: السلام عليكم أيتها الأرواح... إلى آخر الحديث(30).

كما ذكر حديثاً في هذا الشأن صاحب كتاب صدق الخبر قال: رواه مسلم، قالت عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا كان ليلتي منه، يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد(31).

أقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله) حينما يخرج لزيارة أهل القبور لم يوجه سلامه إلى تلك الأحجار، وإنما يوجه سلامه ودعاءه واستغفاره لأرواح تلك القبور، وإنّ أفضل تلك الأرواح التي أوجدها وأخلدها الله تعالى هي الأرواح المقدسة النورانية التي حوت الكمالات الإسلامية والطهارة القدسية التي حلت في أجساد تفانت في عبادة الله وطاعة الله سبحانه وتعالى، وهي أرواح الأنبياء والأولياء والصالحين والشهداء، فهم أولى بالسلام والتحية والزيارة.

وأيضاً: إن موتى المسلمين ـ بحسب تصريح الأحاديث المتوارثة بين أيدي المسلمين ـ ينتفعون بعمل الأحياء لهم؛ من إهداء الثواب وقراءة القرآن والدعاء لهم بالمغفرة، وإن الموتى يردون السلام على الأحياء إلاّ أنّ الأحياء لوجود الحُجب بينهم وبين الموتى لا يسمعون كلامهم.

جاء في صحيح البخاري قال: وعن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلاّ الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق(32).

جاء في مسند أحمد بن حنبل في هامش الكتاب من منتخب كنز العمال قال: وعن أنس قال (صلى الله عليه وآله): ما من عبد يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلاّ عرفه ورد عليه السلام(33).

هذا وقد صرحت بعض الأحاديث التي بين أيدي المسلمين أن أجسام الأنبياء والأولياء والصالحين والشهداء لا تأكلها الأرض، وذلك لأن الله تعالى يحفظها من التآكل تكريماً وتعظيماً لأجسادهم الطاهرة والمقدسة التي تفانت في طاعته.

قال في كتاب صدق الخبر: قال إبن القيم في كتابه (الروح) نقلاً عن أبي عبد الله: صح عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء(34).

وذكر السمهودي قصة تبين فيها عظم شأن الشهداء عند الله تعالى قال: لما أجرى معاوية العين كان ذلك أيضاً ظهور المعجزة بحياة الشهداء، فقد أسند ابن الجوزي في مشكله عن جابر قال: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين، فأخرجناهم بعد أربعين سنة تتثنى أطرافهم، لينة أجسادهم(35).

وجاءت كرامة في حق الصلحاء والعلماء ذكرت في مقدمة كتاب كفاية الأصول للشيخ محمد كاظم الخراساني الشهير بالآخوند، عند ما توفيت ابنته ـ أي ابنة الآخوند ـ الوحيدة عام 1375هـ وأرادوا دفنها بجانب جدار قبره الشريف، أنهار جدار القبر وأنكشف جسد المرحوم الآخوند رضوان الله تعالى عليه، فوجد الجسد سليماً طرياً لم يبل منه شيء وكأنه كان نائماً دون أن يتنفس، والحال قد مر على وفاته رحمه الله 46 سنة، وقد شهد كثيرون هذا المشهد العجيب وزاروا جثمانه المبارك(36).

أقول: المستفاد من هاتين القصتين ومن أمثالهما من القضايا المنقولة وهي كثيرة جداً تبلغ حدّ التواتر في المحتوى والمضمون، إذا كان هؤلاء الشهداء والعلماء لهم هذه المنزلة وهذه الكرامة عند الله تعالى ولم تبل أجسادهم في القبور، فكيف بمن هو أشرف وأفضل الكائنات محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين والأنبياء والأولياء والصالحين عند الله، إذاً من الأمر الضروري والطبيعي أن يحافظ الله سبحانه وتعالى على أجسادهم من الفناء تعظيماً لشأنهم وتكريماً لهم، فلذا إن أي مسلم موحد لله ومقر له بالعبودية حينما يقف بجنب قبر ولي من أولياء الله، يضع في تصوره أن صاحب هذا القبر هو عبد مخلوق لله مُكرّم ووجيه عند الله تعالى، وأنه حينما يقف في هذا الموضع لا يقف على الأحجار يخاطبها إنما يقف ويأتي إلى شخص حي يسمع كلامه، ويعبّر عن الاحترام والحب الذي أوجبه الإسلام له كنبي أو إمام مفترض الطاعة، ولذا حكمت الشريعة الإسلامية والعقل ووجود النصوص والأدلة الشرعية الصريحة بجواز زيارة القبور والأماكن المقدسة، بل باستحبابها في حق الأولياء...

الدليل السادس: الدليل الفطري

أجمع العقلاء على أن شكر المنعم واجب، فإن العقل الفطري في الإنسان يوجب إكرام المنعم وشكره، وهذا الشيء أقره العقلاء في سيرتهم.

أقول: إن البشرية في تاريخها وفطرتها وحياتها تكرم الموتى وتواريهم في أحسن مكان لما لهم من المكانة الاجتماعية، وترتاد قبورهم وتزورها بين الحين والحين ليتذكروهم ويحنون إليهم لما ينتج منه الوفاء والمحبة والإخلاص، وفي العرف الإنساني ترى الابن يتخذ صورةً تذكارية لأبية أو عزيزه في بيته بعد موته وغيابه، لتذكره ولتورث في نفسه حنين الماضي والعلاقة الناتجة بينهما، لتعكس من خلال هذا الموقف أجل الروابط الروحية والمعنوية من محبة متجلية بالصدق وبراءة فياضة ومشرقة نابعة عن حب ذاتي.

قال صاحب (صدق الخبر) ص224: إن زيارة الموتى حال فطري وأمر طبيعي تميل إليه النفوس وتألفه الأرواح؛ لما ينجم من عود ذكريات الماضي.

أقول: قد ذهب جماعة في اعتقادها المتفرد الذاتي إلى أن زيارة القبور والبناء عليها والتبرك بأولياء القبور وطلب الشفاعة والتوسل بأوليائها الصالحين، بأنها بدعة ومنافية لكمال التوحيد. وقد اتضح ممّا مرّ من ذكر الروايات والدليل القرآني والإجماع والعقل، عند المسلمين كافة دفع هذه الشبهة التي ذهبت إليها (الفرقة) في مسلكها واعتقادها المتفرد الذاتي، ولزيادة التوضيح نقول:

أولاً: جاء في كتب اللغة تعريف البدعة كما يأتي:

لسان العرب: البدعة: الحدث، وما ابتدع من الدين بعد الإكمال، وكل محدثة بدعة إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة. وقال: فلان بدع في هذا الأمر: أي أول لم يسبقه أحد(37).

الصحاح: أبدعت الشيء: اخترعته(38).

المعجم: البدعة: ما استحدث في الدين وغيره(39).

وقال في التعريفات: البدعة: هي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي.

وقال أيضاً: البدعة: هي الفعلة المخالفة للسنة، سميت البدعة لأن قائلها ابتدعها من غير مقال إمام(40).

ثانياً: إن الأحكام تابعة للمواضيع، والبدعة وصفها ليس متحقق في الخارج لأن الوصف يتبع الموصوف، ولقيام الدليل الخاص على نفيها في مورد بحثنا ـ أي زيارة القبور وطلب الشفاعة و...ـ ومفهوم البدعة منطبق على إدخال ما ليس من الدين في الدين، لكن مشروعية الزيارة ثابتة في الدين، وكذلك البناء على القبور، والشفاعة ثابتة أيضاً للنبي (صلى الله عليه وآله) والأنبياء والأولياء والصالحين، وهذا ما دلّت عليه الأدلة من القرآن والسنة والإجماع والعقل وعمل الأصحاب والتابعين لهم، وكما أن الإفتاء به ثابت كما جاء سابقاً بالاستحباب المؤكد عليه، بل قال بعض العلماء حتى من أبناء العامة بالوجوب، وجاء ملاك الحكم بالغاية لما تترتب عليه من الفوائد المعنوية والأجر والثواب العظيم.

ثالثاً: وليست الزيارة إلاّ هي عبارة عن عبادة لله تعالى وخالصة له لأن العمل بالمستحب منشأه الدليل الشرعي، والزيارة هنا جاءت بها الشريعة بالاستحباب المؤكد وقصد بها التقرب إلى الله تعالى وتكريماً لنبيه أو وليه أو رجل صالح من عباده، وهذه الأمور لا تنافي التوحيد، بل هي عين التوحيد وأصل التوحيد، لأن الزائر إنّما يمتثل أمر الله وأمر رسوله وأوليائه ويتقرب إلى الله تعالى بذلك ولا معبود سواه، ولا يقوم الزائر إلا بطاعة محبوبة في الإسلام إلى الله تعالى في شريعته المقدّسة في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه وحثت عليها الشريعة الإسلامية من خلال أولياء الله الذين أطاعوا وأخلصوا لشريعة الله، فهم أولياؤه وأبوابه إليه سبحانه وتعالى عن كل شيء سواه.

كما أن أئمة المسلمين أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) والذين هم طالما سهروا على حفظ الشريعة والدين يؤكدون ويحثون ويرشدون المسلمين والموالين إليه، إلى طريق صحيح في كيفية المناجاة والعبادة مع الله تعالى ويعلمون المسلمين والموالين لهم منهجاً عملياً إسلامياً صحيحاً في التوحيد، النهج الذي ارتضاه الله وأكرم به نبيّه وأولياءه، والنهج الخالي من الهوى والشهوات، بل ( إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) .

قال العلامة الشيخ المظفر في كتابه عقائد الإمامية: ومرد كل ذلك إلى وصايا الأئمة (عليهم السلام) وحثهم شيعتهم على الزيارة وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى؛ باعتبار أنها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة، وباعتبار أنّ هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى.

وقال أيضاً: ليست حقيقة الزيارة إلا السلام على النبي أو الإمام باعتبار أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فهم يسمعون الكلام ويردون الجواب.

وقال أيضاً: وفي هذا النوع من الأدب ما يوضح لمن يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وسيرتهم تبعاً لهم في زيارة القبور، وما يلقم المتجاهلين حجراً حينما يزعمون أنها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرب إليها والشرك بالله(41).

قال العلامة السيد عبد الله شبر في كتابه الأنوار اللامعة في شرح زيارة الجامعة: المراد بالوقوف، الوقوف على باب الروضة والإتيان بالشهادتين لتقدمهما رتبة، أو للتيمن. ولعل السر في الإتيان بالتكبير عند رؤية جلال كبريائهم للإشارة إلى أن الله أكبرمن كل كبير وإن الكبرياء والعظمة له تعالى، أو لتزول الدهشة عن الداخل إلى محل كبريائهم. والسكينة عبارة عن اطمئنان القلب بذكر الله وتذكر عظمته بل عظمة أوليائه وأصفيائه؛ فإنها راجعة إلى عظمته(42).

قال صاحب صدق الخبر: فمن كان هذا مقامه العالي وقدره السامي فجدير أن تعشقه الأرواح والنفوس، وحري بأن يسعى الكون للتشرف بزيارته لا على الأقدام بل على الرؤوس(43).

أقول: وبعد أن ظهرت الحجة بالاستدلال على جواز زيارة القبور والبناء عليها والتوسل عندها والشفاعة من أهلها، فلا جدال لمتمسك ببعض ظواهر ناتج عن قصور في المقدمات واجتهاد مقابل النص، أو لمرض في قلبه أو... إذاً فليس فيها أي شائبة ومحذور وبدعة، بل إنها مشروعة ومحببة أكدت عليها الأدلة الشرعية وسيرة عمل الأصحاب من السلف الصالح.

فائدة زيارة القبور

تصورنا العقائدي نحو البقيع بأنه قاعدة قدسية ودستور يستلهم من واقعه المعنويات والانعكاس الروحي، الذي يولد لنا العزة والكرامة من خلاله بذكر الماضي، ومن خلال ما دفن فيه من عظماء سطر التاريخ في صفحاته مجدهم وعظمتهم، وعليه فالتعبير الناشئ من خلال الحب والتعبير الفياض والبريء الذي لا يحمل في طياته سوى التعبير لهم بأنهم هم القدوة والأسوة الحسنة، وإنه ثبت بالعلم أن تذكر الشخص وربطه بالماضي يعكس في نفسه العزة والكرامة من خلال ما يعكسه التاريخ من شخصياته الفذة والعظيمة، وبتمسكنا بتاريخ عظمائنا وسيرتهم الخالدة في النفوس يهبنا مستقبلاً زاهراً ويكون لأجيالنا خالداً، وذلك من خلال ما ورثناه من تاريخ السلف الصالح.

وحينما تكون هذه هي الغاية والقصد النبيل بتصورنا الإيجابي الذي يعكس للعالم، أن هناك حضارة إسلامية مجيدة ومن ومصاديقها الآثار الإسلامية التي عاش ودفن فيها عظماء الإسلام، تصور للعالم أن الإسلام خلد بدمائهم وعلمهم وشهادتهم، وها نحن نعيش كل ساعة في ربوع ذكراهم، وآثارهم الخالدة والمقدسة تذكرنا دائماً أنهم لهم الفضل العظيم لما خلدوه في نفوسنا من عزة وقوة واعتزاز بإسلامنا الحبيب والغالي.

وعليه إن إسلامنا وإيماننا وضمائرنا توجب علينا الحفاظ على سيرتهم وآثارهم وما تركوه من علم وفكر وتراث ضخم، يملأ الدنيا إشراقة وسيطاً، مما يعكس الصورة الحسنة عن الإسلام وأهله، ويبرز قوة الإسلام للعالم ويكبر في عيون أهل الشرك والإلحاد، ونكون بهذا العمل البار أحسن سفراء للإسلام في زمن تكالب أعداء الإسلام عليه من كل حدب ومكان.

المصادر:

1- سورة الكهف: 21.

2 - تفسير الميزان: ج13 ص267، سورة الكهف.

3 - تفسير مجمع البيان: ج6 ص710، سورة الكهف.

4 - تفسير الكاشف: ج5 ص144، سورة الكهف.

5 - في ظل أصول الإسلام: جعفر السبحاني، ص164.

6 - في ظل أصول الإسلام: جعفر السبحاني، ص289-291.

7 - سورة النساء: 64.

8 - كشف الارتياب: السيد محسن الأمين، ص459.

9 - سورة النساء: 64.

10 - وفاء الوفاء: السمهودي، ج2 ص1360.

11 - سورة محمد: 19.

12 - صدق الخبر: الشريف عبد الله بن حسن باشا، ص299.

13 - مسند أحمد بن حنبل: ج6 ص81.

14 - لسان العرب: ابن منظور، ج7 ص151 – 152.

15 - سورة المائدة: 35.

16 - صدق الخبر: الشريف عبد الله حسن باشا، ص240.

17 - كشف الارتياب: السيد محسن الامين، ص466.

18 - وفاء الوفاء: السمهودي، ج2 ص28.

19 - وفاء الوفاء: السمهودي، ج2 ص1362.

20 - صدق الخبر: الشريف عبد الله حسن باشا، ص288.

21 - صدق الخبر: الشريف عبد الله حسن باشا، ص230.

22 - صدق الخبر: الشريف عبد الله حسن باشا، ص230-232.

23 - وفاء الوفاء: السمهودي، ج2 ص1362.

24 - وفاء الوفاء: السمهودي، ج2 ص1369.

25 - الكافي: الكليني، ج4 ص537.

26 - مفاتيح الجنان: الشيخ عباس القمي، ص313.

27 - جواهر الكلام: الشيخ محمد حسن النجفي، ص80، ج20.

28 - كشف الإرتياب: السيد محسن الأمين، ص471.

29 - سورة آل عمران: 169.

30 - مسند أحمد بن حنبل: ج3 ص89.

31 - صدق الخبر: الشريف عبد الله حسن باشا، ص235.

32 - صحيح البخاري: ج7 ص105.

33 - مسند أحمد بن حنبل: ج6 ص273.

34 - صدق الخبر: الشريف عبد الله حسن باشا، ص238.

35 - وفاء الوفاء: السمهودي، ج2 ص938.

36 - كفاية الأصول: للشيخ محمد كاظم الخراساني الآخوند، ص17.

37 - لسان العرب: بن منظور، ج1 ص342.

38 - الصحاح: الجوهري، ج3 ص1183.

39 - المعجم: ص40.

40 - التعريفات: الجرجاني، ص19.

41 - عقائد الأمامية: محمد رضا المظفر، ص101-105-106.

42 - الأنوار اللامعة في شرح زيارة الجامعة: السيد عبد الله شبر، ص33.

43 - صدق الخبر: الشريف عبد الله حسن باشا، ص228.

 

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية