جمع القرآن

والكثرة الكاثرة كانت تَحفظ القرآن بمدارسته وتكرار تلاوته ، وأقلّ ما في ذلك أنّ تقارن الحفظ والاستظهار بما لديها من نصوص قرآنية ، وهذا هو المتعيّن من قِبل المسلمين ؛ نظراً لورعهم واحتياطهم من جهة ، وتعبيراً عن شَغَفِهِم بالقرآن وحبّهم لمتابعته من جهة أخرى ، فقد يظهر من كثير من الروايات كونهم يتحلّقون لتلاوته ليلاً ، فقد رُفع إليه :

( إنّي لأعرف أصوات الرفقة الأشعريّين بالليل حين يدخلون ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإنْ كنت لم أَرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار ) (50)  .

5 ـ ( ومن المعلوم الذي لا خفاء به أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان يَؤمّ أصحابه في الصلوات الخمس ، لا يخلّ بذلك في سفر ولا حضر ، فقرأ في الركعتين من كل صلاة بسورة مع فاتحة الكتاب ، ويُسْمِعهم ذلك في الغداة والعَشِيّ . فماذا كان يُسْمِعهم ليت شعري ، إنْ كانت آيات القرآن متفرّقة ولم تنظَّم السور حتى أنّها نُظّمت في أيّام أبي بكر وعثمان ، فبماذا كان يقرع العرب حيث يقول الله تعالى : ( ... فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ... ) (51)  ، وذلك ممّا نزل بمكّة ، ثمّ قال تعالى : ( ... فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... ) (52)  ، ونزل ذلك بالمدينة ، ولو كان على ما خيّلوا لم يكن العبّاس بن عبد المطّلب يهرب يوم حنين حيث انهزم القوم ، فيقول : يا أصحاب سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . يستدعيهم بذلك إليه ) (53)  .

6 ـ أورد ابن حجر ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس ، وكان في الوفد الذين أسلموا على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فسألنا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قلنا : كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : نُحزّبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل من ( ق ) حتى نختم ( يعني القرآن ) .

قال ابن حجر : ( فهذا يدلّ على أنّ ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (54)  .

7 ـ أورد السيوطي في مسألة القراءة في المصحف أفضل من القراءة مِن حفظه ؛ لأنّ النظر في المصحف عبادة مطلوبة ، أورد عدّة روايات مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ذكر المصحف ، ممّا يعني أنّ لفظ ( المصحف ) المجموع فيه القرآن ، كان شائعاً ومعروفاً ، وذا دلالة معيّنة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فما رُفع إليه على سبيل المثال (55)  :

أ ـ ما أخرجه الطبراني ، والبيهقي في الشعب من حديث أوس الثقفي مرفوعاً : ( قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعَف ألفَي درجة ) .

ب ـ ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود مرفوعاً : ( مَن سرّه أنْ يحبّ الله ورسوله ، فليقرأ في المصحف ) .

ج ـ وأخرج بسند حسن مرفوعاً : ( أديموا النظر في المصحف ) .

د ـ وأخرج غير السيوطي ، عن أبي هريرة ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الغرباء في الدنيا أربعة ، وعَدّ منها مصحفاً لا يُقْرَأ فيه (56)  .

هـ ـ وروى ابن ماجة ، وغيره ، عن أنس مرفوعاً : ( سبع يجري للعبد أجرهنّ بعد موته ، وهو في قبره ... ، وعدّ منهنّ مَن ورّث مصحفاً ) (57)  .

و ـ وعن ابن عمر ، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يُسافَر بالمصاحف إلى أرض العدو ، مخافةَ أنْ ينالوها ، وفي لفظ آخر : نهى أنْ يُسافَر بالمصحف إلى أرض العدو (58) .

فهذه الأحاديث وأمثالها ـ إنْ صحّت ـ دليل صريح على وجود جمعي وكيان تأليفي للقرآن في مصحف ، بل في المصحف نفسه .

والزركشي مع قوله : إنّ القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . إلاّ أنّه يعقب عليه بقوله : وإنّما ترك جَمْعَه في مصحف واحد ؛ لأنّ النسخ كان يَرِدُ على بعض ، فلو جَمَعَه ثمّ رُفعت تلاوة بعض ، لأدّى إلى الاختلاف ، واختلاط الدين ) (59)  .

فيردّه التصريح بالجَمْع فيما تقدّم من روايات وأدلّة وإمارات يقطع العقل بصحّتها ، والتحقيق العلمي يقتضي أنْ يكون القرآن كلّه قد كُتب وجُمع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يرى ذلك ابن حجر (60)  .

أمّا تعليله عدم جمْع القرآن في مصحف بنسخ التلاوة ، فمعارَض ومطروح بمناقشة المسألة أصلاً وموضوعاً ، إذ لا نَسْخ تلاوة في الكتاب الكريم ، والقول بنسخ التلاوة هو عين القول بالتحريف ، ولا تحريف بالكتاب إجماعاً ، فالآية حينما تنزل فهي قرآن ، سواء نُسخت أو لم تُنْسَخ ، ورَفْعها من القرآن يعني ما هو قرآن .

وعلى فرض وجود النسخ المدَّعَى ، فالإشكال نفسه يرد بالنسبة للحفظ والاستظهار ، فحفّاظ القرآن أكثر مِن أنْ يُحْصَوا ، فإذا نزل الناسخ للتلاوة وقع ذات الإشكال ، وصعب إزالة ما هو محفوظ في الصدور ، بينما لو ثبت كتابة ، لكان الرفع والإزالة أيسر ذلك بالإشارة إلى مواضعها ، وهو أبرم للأمر كما هو ظاهر .

وفي ضوء ما تقدّم ، لا نميل إلى الرأي القائل بأنّ القرآن لم يُجمع في مصحف واحد ، لِئَلاّ يَرِد الناسخ فيؤدّي إلى الاختلاف .

والذي يلفت النظر حقّاً من جرّاء الاعتقاد أو التصوّر بأنّ أبا بكر (رض) قد جمع القرآن في مصحف ، هو مصير هذا القرآن المجموع ، فليس بين أيدينا رواية واحدة تتحدّث عن هذا القرآن بأنّه قد جُمع للمسلمين ، أو جُعل قيد الاستعمال ، أو استُنْسِخ منه ولو نسخة واحدة إلى مكّة مثلاً ، وهي حَرَمُ الله ، وقد بقي هذا الحرم فيما يزعم دون قرآن يقرأ أو يتعلّم أو يستظهر فيه .

وأغلب الظنّ إذا صحّت روايات الجمْع المدّعى ، فإنّ أبا بكر قد جمع لنفسه قرآناً في مصحف كما جَمع غيره من الصحابة ، وإلاّ فلو جمعه للمسلمين ، وليس للمسلمين في قرآن مجموع لكان من الضرورة الملحّة بمكان أنْ لا يغيب عن ظنّه احتياج المسلمين لعدّة نسخ منه على الأقل ، كما فعل عثمان فيما بعد ، أو لأَوْضَحَ بأنّه القرآن الرسمي للدولة التي يقوم على رأسها ، ولو اعتذر بأنّ حياته لم تَطل ، لكان من الواجب على عمر تنفيذ ذلك .

والأغرب من هذا كلّه أنّه لم يحدّثنا التأريخ أنّ أحداً في عهد أبي بكر وعمر قد استنتسخ من هذا القرآن شيئاً ، ممّا اضطرّ فيه الدكتور ( دَرَاز ) أنْ يعبّر عن رأيه فيه بقوله : ( ولكن رغم قيمة هذا المصحف العظيمة ، ورغم ما يستحقّه من العناية التي بُذلت في جَمْعه ، فإنّ مجرّد بقائه محفوظاً بعناية عند الخليفتَين الأوّلين أسبغ عليه الطابع الفردي أو الشخصي بعض الشيء ، ولم يصبح وثيقة للبشر كافّة إلاّ من يوم نشره ، ولكنّ فرصة نشره لم تُتَح إلاّ في خلافة عثمان بعد معارك أرمينيّة وأذربيجان ) (61)  .

على أنّ ما صرّح به الحاكم في المستدرك أنّ ذلك كان جَمْعَاً في المصحف ، لا في المصحف ، إذ قال : ( فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه الله ، ثمّ عند عمر حياته ، ثمّ عند حفصة بنت عمر ) (62)  .

وقد قطع ابن أبي داود بأنّها صحف في عدّة مواضع من كتابه (63) .

ودَرَاز وإنْ اعتبر ما جَمَعه أبو بكر ـ بحسب الروايات التي ناقشناها ـ مصحفاً ، إلاّ أنّه أرجعه إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطريقة التي عبّر عنها بقوله : ( ولا يفوتنا أنْ ننبّه هنا إلى أنّ آيات مصحف حفصة لا ترجع إلى الخليفة الأوّل ، وإنّما ترجع بنصّها الكامل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (64)  .

ومهما يكن من أمر ، فقد أورد ابن حجر ، بناءً على صحّة بعض الروايات في شأن الكتابة قوله : ( ولم يأمر أبو بكر إلاّ بكتابه ما كان مكتوباً ) (65)  .

وهذا هو الاستنساخ بعينه ، ولا مانع أنْ يستنسخ أبو بكر لنفسه مصحفاً شأن بقيّة الصحابة . وقد أيّد ذلك ابن شهاب بقوله : ( إنّ أبا بكر الصديق كان جَمَع القرآن في قراطيس ، وقد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل ) (66)  .

فهذه الرواية تدلّ صراحة أنّ أبا بكر قد جَمَعه في قراطيس ، وقد طلب من زيد باعتباره من كُتّاب الوحي أنْ ينظر فيه لتقويمه ، ولا دلالة فيه على جمْع مصحفي ، وإلى تصدّيه لذلك .

ولا يفوتنا التنبيه أنّ جملة من الرواة يعتبرون الجمْع إنّما تمّ في عهد عمر لا أبي بكر . ومنه ما أخرجه بن أبي داود عن طريق الحسين ، أنّ عمر سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان ، قتل يوم اليمامة ، فقال : ( إنا لله ثمّ أمر بالقرآن فجُمِع ، فكان أوّل من جمعه في المصحف ) (67)  .

وفي رواية أخرى ، قال ابن إسحاق : لمّا جَمع عمر بن الخطاب المصحف . وفي نص آخر : لمّا أراد عمر أنْ يكتب الإمام .. (68)  .

ولم يكتف هؤلاء بترك القرآن متناثراً في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر ، حتى قالوا بجمْعه في عهد عمر ، ممّا فتح باب القول للمستشرقين في ذلك ، فقد أيّد ( شواللي ) الشكّ في صحّة الرواية القائلة : بأنّ أبا بكر هو الذي أمر بجمع القرآن (69)  .

وقال بروكلمان : ( وممّا يحتمل كثيراً من الشكّ ما ذكرتْه الرواية من أنّ معركة اليمامة الحاسمة مع مسيلمة سنة : 12 هـ ، 663 م التي قُتل فيها عدد كبير من قرّاء الصحابة ، هي التي قدّمت الداعي إلى جَمْع القرآن ... على أنّ الخليفة عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت ـ وكان شابّاً مدنياً ، كتب كثيراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنْ يقوم بجمع القرآن وكتابات الوحي . وبقي هذا المجموع في حوزة عمر ، ثمّ ورثتْه حفصة . ولعلّ هذا المجموع الأوّل كان صحفاً متناثرة ) (70)  .

وأغرب ممّا تقدّم ما أخرجه بن أشته ، قال : ( مات أبو بكر ولم يُجمع القرآن ، وقُتل عمر ولم يُجمع القرآن ) (71)  .

وكل هذه الاعتبارات ـ بما فيها ما أكّد المستشرقون ـ تتضمّن تلويحاً خفيّاً ، بل تصريحاً جليّاً بأنّ القرآن قد مرّت عليه عهود وعصور وهو بعد لم يُدَوّن ، وإنّما دُوِّن بعد ذلك اعتماداً على نصوص قد تكون ناقصة أو ممزّقة ، وعلى روايات شفوية قابلة للخطأ والسهو والنسيان ، للقول من وراء هذا بالتحريف وهو ما نرفضه جملة وتفصيلا .

وإذا سلّمنا بأنّ جمْع القرآن قد تمّ بعهد الصحابة ، وأنّهم قد استَشْهَدوا على إثباته بشاهدَين (72)  ، وأنّ آيات لم يجدوها إلاّ مع معيّنين بالذات ، ( فعن زيد قال : كتبتُ المصاحفَ فقدّتُ آيةً كنتُ أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري . ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ... ) (73)  وكذلك آية : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... ) (74)  وغيرها وغيرها (75)  .

فلا يصح حينئذ عدّ آيات القرآن في أماكنها من السور ، ولا السور من المصحف توقيفيّاً ، وإنّما هو باجتهاد من الصحابة ، كما تدلّ عليه تضافر روايات الجمع في ذلك ، وإذا قلنا بتوقيف الآيات في السور ، والسور من المصحف ، فلابدّ أنْ نقول إنّ القرآن قد جُمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو ما نميل إليه ونرجّحه في ضوء ما تقدّم .

قال البيهقي : وأحسن ما يُحتجّ به أنْ يُقال : إنّ هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه عن جبرائيل عليه السلام (76)  .

وهناك ثلاثة مواقف تجلب الانتباه عند جملة من أرباب علوم القرآن ، فهي تقدّم رِجلاً وتؤخّر أخرى ، فلا تريد أنْ تقول إنّ القرآن لم يجمع بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تريد أنْ تقول إنّ أبا بكر قد جَمع القرآن سابقاً إلى الموضوع .

الأوّل :

عملية الاستنساخ التي صرّح بها أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ( ت : 243 هـ ) بقوله : ( كتابة القرآن ليست بمُحْدَثة ، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بكتابته ، ولكنّه كان مفرّقاً في الرِقاع والأكتاف والعَسَب ، وإنّما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وُجدتْ في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها القرآن منتشِر ، فجَمَعها جامع ، ورَبَطَها بخيط ؛ حتى لا يضيع منها شيء ) (77)  .

الثاني :

ما ورد في المقدّمة الأولى في علوم القرآن بإجمال على شكل فتوى تارةً ، وتحذير تارةً أخرى ، في قوله : ( ومَن زعم أنّ بعض القرآن سقط على المسلمين وقت جمْع المصحف ، وأنّ السور ضُمّ بعضها إلى بعض بالمشورة والرأي فقد أعظم على الله الفرية ؛ لأنّ الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يُمْلِي كلّما نزل من القرآن على كتابه أوّلاً بأوّل ، مَيْلاً إلى حفظه وصيانته ، فحُفظ القرآن من أوله إلى آخره على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (78)  .

الثالث :

موقف الزركشي المتردّد بين السلب والإيجاب فيما ردّ به توهّم بعض الناس أنّ القرآن لم يُجمع بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، متبيّناً رأي الحارث المحاسبي بقوله : وفي قول زيد بن ثابت : فجمعتُه من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال ما أوهم بعض الناس أنّ أحداً لم يجمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ مَن قال : إنّه جَمع القرآن أُبيّ بن كعب وزيد ليس بمحفوظ . وليس الأمر على ما أوهم ، وإنّما طلب القرآن متفرّقاً ليعارض بالمجتمع عند مَن بقي ممّن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جُمع ، فلا نصيب أحد عنده منه شيء ، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف ، ولا يشكّو في أنّه جُمع عن ملأ منهم ) (79)  .

وفي ضوء ما تقدّم يجب أنْ ندع التشريق والتغريب جانباً ، في قضيّة جمْع القرآن ، وأنّ نخضع للواقع الموضوعي والجرأة العلمية فنقول : إنّ القرآن جُمع ودُوِّن كاملاً بكلّ حيثيّاته وجزئيّاته في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبأمر من الوحي ، وبإشارة من القرآن نفسه ، ما دام هناك أثر قطعي من كتاب أو سنّة أو عقل أو إجماع ، فلا نركن إلى روايات آحاد لا تبلغ حدّ الشهرة ، فضلاً عن التواتر الذي لا يثبت القرآن إلاّ به بإجماع المسلمين ، وأنْ نعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولاً أمام الوحي عن جمْع القرآن وتدوينه ، كمسؤوليّته عن نشره وتبليغه ، وفيما قدّمناه من دلائل وبراهين وروايات إثبات لِمَا نَتَبَنّاه .

نعم ، لا شكّ أنّ عثمان قد جُمع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنّه جَمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد ، وأحرق المصاحف الأخرى التي تُخالف مصحفه ، وكتب إلى البلدان أنْ يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة (80)  .

فقد أخرج ابن أشته قال : اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلّمون ، فبلغ ذلك عثمان بن عفّان ، فقال : عندي تكذبون به وتلحنون فيه ، فمن نأى عنّي كان أشدّ تكذيباً ، وأكثر لَحْنِاً . يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً ، فاجتمعوا فكَتَبوا (81)  .

هذا فيما شاهد عثمان في المدينة المنورة من الاختلاف في القراءات والوجوه واللغات ، فاقتصر من سائرها على لغة قريش ؛ لأنّ القرآن نزل بلغتهم .

وقد يبدو من رواية أخرى أكثر شيوعاً أنّ الاختلاف امتدّ إلى الثغور بين الأجناد ، فطَعن بعضُهم البعض بقراءة البعض الآخر ، فهال هذا الأمر حذيفة بن اليمان ، وكان يغازي أهل الشام في أرمينيّة وأذربيجان مع أهل العراق ، فأشار على عثمان أنْ يُدرك هذه الأُمّة قبل أنْ يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى ، ففزع عثمان لذلك وصَمّم على جمع الناس على إمام واحد (82) .

وكان هذا الأمر غيرة من حذيفة على القرآن ، واستجابة من عثمان لصيانة القرآن .

وسأل عثمان : أي الناس أَفْصَح ؟ قالوا : سعيد بن العاص ، قال : أي الناس أَكْتَب ؟ قالوا زيد بن ثابت ، قال : فليكتب زيد ، وليملِ سعيد ، فكتب مصاحف فقسّمها في الأمصار (83)  .

ويُستدلّ في كثير من الروايات أنّ هذا الترتيب والجَمْع على قراءة واحدة وفي مصحف واحد كان على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبمشاورة من أهل القرآن (84)  .

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقّن أصحابه ويعلّمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك ، وإعلامه عند نزول كل آية أنّ هذه الآية تُكتب عقيب آية كذا في السورة التي يُذكَر فيها كذا ، وروي معنى هذا عن عثمان بالذات (85)  .

قال الحارث بن أسد المحاسبي ( ت : 243 هـ ) : ( والمشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان رضي الله منه ، وليس كذلك ، إنّما حَمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وَقَعَ بينه وبين مَن شهده من المهاجرين والأنصار لَمّا خَشِيَ الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات والقرآن . وأمّا قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن ) (86)  .

وفي عقيدتي أنّ أهمّ الأعمال التي قام بها عثمان هو جَمْع الناس على حرف واحد ، فقد قطع به دابر الفتنة والخلاف ، وفيه جُرْأَة كبيرة تحدّى بها كثيراً من الصعوبات .

يقول الدكتور طه حسين : ( وليس من شكّ في أنّ ما أَقْدَمَ عليه عثمان من توحيد المصحف وحسم هذا الاختلاف ، وحَمْل المسلمين على حرف واحد ، أو لغة واحدة يقرؤون بها القرآن ، عملٌ فيه كثير من الجراءة ، ولكنّ فيه من النُصْح للمسلمين أكثر ممّا فيه من الجراءة . فلو قد ترك عثمان الناسَ يقرؤون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها ، لكان هذا مصدر فرقة لا شكّ فيها ، ولكان من المحقّق أنّ هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدّي إلى فرقة شرّ منها حول المعاني بعد أنْ كان الفتح ، وبعد أنْ استعرب الأعاجم ، وبعد أنْ أخذ الأعراب يقرؤون القرآن ) (87)  .

وحينما تمّ توحيد المصحف على الشكل المقرّر ، استنسخ عثمانُ منه عِدّة مصاحف أرسل بها إلى الأمصار .

واختلف في عِدّة هذه المصاحف ، فقيل أربعة ، والمشهور أنّها خمسة (88)  ، وأخرج أبو داود عن أبي حاتم السجستاني : أنّها سبعة مصاحف ، فأرسل إلى مكّة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة ، وحبس بالمدينة واحداً  (89)  .

وهذا العدد أوعى في توحيد القراءة ؛ لاستيعابه كبريات الآفاق الإسلامية آنذاك ، فيما دامت المهمّة بهذا الاتجاه ، فالأنسب التوسّع في استنساخ جملة من المصاحف تؤدّي الهدف بعناية شموليّة .

وأيّاً كان عدد هذه المصاحف ، فقد كانت الأساس لاستنساخ آلاف المصاحف في الديار المترامية الأطراف ، موحّدة منظّمة مؤصلة ، اشتملت على القرآن بجزئيّاته وحيثيّاته كافّة ، دون زيادة أو نقصان ، أو تغيير أو تحريف ، بل هي من الوثوق بكونها عين القرآن الذي أُنزل على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بجميع خصوصيّاته في التنزيل والترتيب والتوقيف .

وليس أدلّ على ذلك من شهادة أعلام المستشرقين في تأكيد هذه الحقيقة العلمية مع ابتعادهم عن كثير من ضروريات الإسلام ، ولكنّه الحق الذي يَفرض ذاتيّته وموضوعيّته في أغلب الأحيان .

 

قال السير وليم موير :

( إنّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أيّ تحريف . ولقد حُفظ بعناية شديدة بحيث لم يَطرأ عليه أيّ تغيير يُذْكَر ، بل نستطيع أنْ نقول إنّه لم يطرأ عليه أيّ تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة ) (90)  .

ولم يكن اختلاف المسلمين في الفروع والجزئيات مانعاً من إجماعهم المنقطع النظير على توثيق كل تفاصيل القرآن مَن ألفه إلى يائه .

ولقد كان الأستاذ لوبلوا موضوعيّاً حينما أكّد بقوله : ( إنّ القرآن هو اليوم الكتاب الربّاني الوحيد الذي ليس فيه أيّ تغيير يُذْكَر ) (91)  .

وحينما تمّ إقرار المصحف الإمام ، واستُنْسِخَتْ المصاحف في ضوئه ، وسُيّرت إلى الآفاق ـ وكان ذلك في سنة خمس وعشرين من الهجرة النبوية (92)  . ـ أنس عثمان بصنيعه هذا ، وعَمَد إلى توثيقه وتفرّده بصيغتَين :

الأولى : إرساله مَن يثق المسلمون بحفظه وإقرائه مع مصحف كلّ إقليم بما يوافق قراءته ، وكان ذلك موضع اهتمام منه في أشهر الأقاليم ، فكان زيد بن ثابت مقرِئ المصحف المدني ، وعبد الله بن السائب مقرئ المصحف المكّي ، والمغيرة بن شهاب مقرئ المصحف الشامي ، وأبو عبد الرحمان السلمي مقرئ المصحف الكوفي ، وعامر بن عبد القيس مقرئ المصحف البصري (93)  .

الثانية : أَمْرَه بما سواه مِن القرآن ـ في كلّ صحيفة ومصحف ـ أنْ يُحرق (94)  .

وكان هذا العمل مدعاة للنقد حيناً ، ومجالاً للتشهير به حيناً آخر ، حتى قال الخوئي :

( ولكنّ الأمر الذي انْتُقِد عليه هو إحراقه لبقيّة المصاحف ، وأَمْره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف ، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعةٌ من المسلمين ، حتى سمّوه بحرّاق المصاحف ) (95)  .

وقد عقّب على ذلك الدكتور طه حسين بقوله : ( وربّما تحرّج بعض المسلمين مِن تحريق ما حرّق عثمان من المصحف ، ولم يقبلوا اعتذاره بحسم الفتنة وقطع الخلاف . ولو قد كانت الحضارة تقدّمت بالمسلمين شيئاً لكان مِن الممكن أنْ يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنّها نصوص محفوظة لا تُتاح للعامّة ، بل لا تكاد تُتاح للخاصّة ، وإنّما هي صحف تحفظ ضنّاً بها على الضياع . ولكنّ المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يُتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات ، وإذا لم يكن على عثمان جُناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة ، فقد يكون لنا أنْ نأسى لتحريق تلك الصحف ؛ لأنّه إنْ لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئاً من دينهم ، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيراً من العلم بلغات العرب ولهجاتها ، على أنّ الأمر أعظم خطراً وأرفع شأناً من علم العلماء ، وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات ) (96)  .

ومهما يكن من رأي حول هذا الموضوع ، فإنّ من المقطوع به أنّ المصحف العثماني هو النص القرآني الوحيد الذي عليه عمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الكتاب المقدّس الوحيد الذي أحيط بعناية ورعاية خاصة ، حتى نقل بالتواتر القطعي جيلا بعد جيل .

ويبدو أنّ بعض نسخ المصحف العثماني ، قد كانت معروفة في القرن الثامن الهجري ، فالحافظ ابن كثير ( ت : 774 هـ ) يقول : ( أمّا المصاحف العثمانية الأئمّة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد كان قديماً بمدينة طبريّة ، ثمّ نُقل منها إلى دمشق في حدود : 518 هـ ، وقد رأيتُه كتاباً عزيزاً جليلاً عظيماً ضخماً بخطّ حسن مبين قوي ، بحبرٍ مُحْكَم ، في رقٍّ ، أظنّه من جلود الإبل ) (97)  .

قال أبو عبد الله الزنجاني : ( ومصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري فهو يقول في وصف مسجد دمشق : ( وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني ) ويُظنّ قويّاً أنّ هذا المصحف هو الذي كان موجوداً في دار الكتب في لينين غراد وانتقل إلى إنكلترا ) (98)  .

وقد تتبّعتُ هذا الأمر في المتحف البريطاني فلم أظفره بحصيلة يُطمئنّ إليها بوجود هذا المصحف .

نعم ، هناك عِدّة مصاحف في دار الكتب المصرية ، مكتوبة بالخط الكوفي ، ولكنّ الزخارف والنقوش توحي بأنّها لا علاقة لها بأية نسخة من المصاحف العثمانية .

ــــــــــــــــــ

(50) الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 ، 313 .

(51) سورة هود : الآية : 13 .

(52) سورة البقرة : الآية : 23 .

(53) مقدّمتان في علوم القرآن : 27 .

(54) ابن حجر ، فتح الباري : 9 ، 42 .

(55) الأحاديث : أ ، ب ، ج ، في السيوطي : الإتقان : 1 ، 34 وما بعدها .

(56) المناويّ ، فيض القدير .

(57) ظ : السيوطي ، الراتقان : 4 ، 166 .

 (58) ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : 180 ـ 181 .

(59) الزركشي ، البرهان : 1 ، 235 .

(60) ابن حجر ، فتح الباري : 9 ، 12 .

(61) محمد عبد الله دَرَاز ، مدخل إلى القرآن الكريم : 38 .

(62) السيوطي ، الإتقان : 1 ، 165 .

 (63) ابن أبي داود ، المصاحف : 19 ، 21 ، 23 ، 24 ، 25 ... إلخ .

(64) دَرَاز ، مدخل إلى القرآن الكريم : 46 .

(65) ابن حجر ، فتح الباري : 9 ، 13 .

(66) الخوئي ، البيان : 242 وانظر مصدره .

(67) المصاحف : 10 . والسيوطي ، الإتقان : 1 ، 166 .

(68) الخوئي : البيان : 244 وانظر مصدره .

(69) ،

(70) بروكلمان تأريخ الأدب العربي : 1 ، 139 وما بعدها .

(71) السيوطي : الإتقان : 1 ، 202 .

(72) المصدر نفسه : 1 ، 167 .

(73) الأحزاب : 23 .

(74) التوبة : 128 .

(75) ابن أبي داود ، المصاحف : 31 .

(76) السيوطي ، الإتقان : 1 ، 309 .

(77) الزركشي ، البرهان : 1 ، 238 .

(78) مقدّمتان في علوم القرآن : 58 .

(79) الزركشي ، البرهان : 1 ، 238 .

(80) ظ : الخوئي ، البيان : 258 .

(81) ظ : الخوئي ، البيان : 258 .

(82) ظ : ابن أبي داود ، المصاحف : 18 وما بعدها .

(83) ظ : الطبري ، جامع البيان : 1 ، 62 . وابن أبي داود ، المصاحف : 24 . وأبو شامة ، المرشد الوجيز : 58 .

(84) ظ : ابن أبي داود : المصاحف : 12 . والمرشد الوجيز : 64 .

(85) أبو شامة ، المرشد الوجيز .

(86) الزركشي ، البرهان : 9 ، 239 . والسيوطي ، الإتقان : 1 ، 171 .

(87) طه حسين ، الفتنة الكبرى : 1 ، 182 وما بعدها .

(88) ظ : السيوطي ، الإتقان : 1 ، 172 .

(89) ظ : ابن داود ، المصاحف : 34 .

(90) محمد عبد الله دَرَاز ، المدخل إلى القرآن : الكريم : 40 وانظر مصدره .

(91) المصدر نفسه والصفحة .

(92) السيوطي ، الإتقان : 1 ، 170 .

(93) ظ : الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 ، 396 وما بعدها .

(94) السيوطي ، الإتقان : 1 ، 169 .

(95) الخوئي ، البيان : 258 .

(96) طه حسين ، الفتنة الكبرى : 1 ، 183 وما بعدها .

(97) ابن كثير ، فضائل القرآن : 49 ، طبعة المنار ، القاهرة 1348 هـ .

(98) الزنجاني ، تاريخ القرآن : 67 .

  جمع القرآن (*)  

اقتباس شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام )

 لجمع القرآن في الروايات تأريخ متناقض عجيب ، ألقى بتبعته على القرآن الكريم ، والقرآن أسمى من أنْ يقدح فيه تعارضُ الروايات ، وتداخلُ الأهواء ، فهو محفوظ كما نزل ، وسالم كما أُوحي :

هذه الروايات بعد ضَمّ بعضها إلى البعض الآخر تُسْفِر عن هذه النتائج المتضاربة :

أ ـ مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) والقرآن كلّه على العَسَب واللّخاف والرِقاع والأكتاف ، ولكنّه لم يُجمع في مصحف ، وقد راع أبو بكر (رض) كثرة القتل في القرّاء بعد وقعة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة ، فاستشار عمر في الأمر ، فأقرّا معاً جَمْع القرآن من الصحف إلى المصحف ، أو مِن العَسَب واللّخاف والأقتاب إلى الصحف ، وكلَّفَا بالمهمّة زيدَ بن ثابت .

ب ـ إنّ عمر بن الخطّاب كان أوّل مَن جمع القرآن بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد أنْ سأل عن آية فلم يُجَبْ إليها ، ونهض بالمهمّة زيدُ بن ثابت .

ج ـ إنّ أبا بكر مات ، وعمر قد قُتل ، ولم يُجمَع القرآن بعد ، أي أنّ المسلمين في حالة فوضى من شرائع دينهم ، وكتاب ربّهم .

د ـ إنّ عثمان كان أوّل مَن جمع المصحف تارة ، وأوّل مَن وحّد المصحف تارةً أخرى .

هـ ـ إنّ القرآن كان مجموعاً في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنّ جامعيه كانوا من الكثرة بحيث يعدُّون تارة ، ويخصَّصون تارة أخرى ، ولا يُحاط بهم سواهما .

ولقد وقفتُ من هذه الروايات موقف المندهش تارةً ، وموقف المتحيّر تارةً أخرى ، وقرّرتُ في النهاية دراستها في موضوعية خالصة ، أَخلُصُ منها إلى نتائج سليمة ، قد تقارب الواقع وتتّجه نحو الصواب بإذن الله .

وهذه الدراسة تعنى بالاستنباط القائم على أساس الاجتهاد الفكري ، والاجتهاد معرّض للخطأ والصواب ، وهي لا تمسّ القرآن ولا الحديث ، وإنّما تسير بينهما هامشيّاً ، فالقرآن هو القرآن أنّى كانت طرقه ، وليس في جميع روايات الجَمْع ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله .

من خلال ما تقدّم نظفر بحصيلتَين متعارضتَين :

الأولى : إنّ النبي صلى الله عليه وآله مات والقرآن بعد لم يُجمَع في مصحف .

الثانية : إنّ القرآن كان مجموعاً في عهد النبي صلى الله عليه وآله في مصحف .

يدلّ على الحصيلة الأولى طائفة الروايات المتناثرة لإثبات الفقرات : ( أ ، ب ، ج ، د ) ، ويدلّ على الحصيلة الثانية طائفة الروايات والدلائل والبراهين لإثبات الفقرة هـ ، ولسنا نحاول تفنيد روايات الحصيلة الأولى بقدر ما يهمّنا إثبات حقيقة الحصيلة الثانية .

لقد تتبّع السيّد الخوئي ـ فكفانا مؤنة الخوض في ذلك ـ روايات الجمع بناء على الحصيلة الأولى في كلٍّ من صحيح البخاري ، ومسند أحمد ، وكنز العمّال ، ومنتخب كنز العمال ، والإتقان للسيوطي ، وكان أهمّ هذه الروايات من خلال تعقيبه عليها ـ غَثِّها وسمينها ـ اثنتان وعشرون رواية (1)  .

وقد خَلُص إلى تناقضها في تعيين العهد الذي جُمع فيه القرآن ، متردِّداً بين عهود : أبي بكر ، عمر ، عثمان .

ومَن هو المتصدّي لذلك ؟ هل هو أبو بكر ، أو عمر ، أو زيد بن ثابت ؟

وهل بقي من الآيات ما لم يُدوّن إلى زمن عثمان ؟

ومَن الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ؟

ومتى أُلْحِقَتْ بعض الآيات في القرآن ، وبماذا ثبت ذلك ، وهل يكفي ذلك لتواتر القرآن (2)  .

وقد عارض الخوئي هذه الروايات بروايات أُخر تدلّ على جمْع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، مستنِداً فيها إلى منتخب كنز العمّال ، وصحيح البخاري ، وإتقان السيوطي ، وقد اعتبر التمحّل بأنّ المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين ، دعوى لا شاهد عليها ؛ لأنّ الحفّاظ أكثر من أنْ يعدّوا (3)  .

وقد ثبت لديه جمْع القرآن بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، واعتبر ما سوى هذا معارِضاً لكتاب الله ، ومخالِفاً لحكْم العقل ، ومناهضة صريحة للإجماع الذي عليه المسلمون كافّة بأنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، فلا بدّ من طرح هذه الروايات ؛ لأنّها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر ، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين (4)  .

واعتبر القول بروايات الجمْع على أساس الحصيلة الأولى يستلزم فتح القول بالتحريف ، باعتبار الجمْع على تلك الطرق يكون قابلاً للزيادة والنقصان (5)  .

وقد أَيّدَ جمْع عثمان للقرآن ، لا بمعنى أنّه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد : ( وهذا العمل من عثمان لم ينتقدْه عليه أحدٌ من المسلمين ؛ وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين ، وتمزيق صفوفهم ، وتفريق وحدتهم ، بل كان يؤدّي إلى تكفير بعضهم بعضاً ، وقد مرّ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع عن الاختلاف في القرآن ) (6)  .

والحق أنّ الخوئي قد تتبّع هذه القضية بكلّ جزئياتها وتفصيلاتها ، وانقضّ عليها يفنّدها ويجرحها ، مثبّتاً أنّ القرآن قد دُوِّنَ في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا ما نذهب إليه من خلال اضطلاعنا بأدلّة جمّة تستقطب جملة من الروايات ، وطائفة من الأدلّة الخارجية والداخلية حول الكتاب وضمن الكتاب وعلى هامش الكتاب ، تُثبت دون ريب تكامل الجمع التدويني للقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله . ولا نريد أنْ ندخل في متاهة من هذا الموضوع بقدر ما نريد إثبات الحقيقة والوصول إليها بكلّ الطرق المختصرة .

ففي جملة من الروايات المعتبرة نجد جزءاً لا يُستهان به من هذه الحقيقة :

1 ـ في البخاري : إنّ مَن جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله أربعة ، فعن قتادة : قال سألتُ أنس بن مالك : مَن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ؟ قال : أربعة ، كلّهم من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (7)  .

2 ـ مات النبي صلى الله عليه وآله ولم يَجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (8)  .

3 ـ أورد البيهقي : عن ابن سيرين ، جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة لا يُختلف فيهم : معاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وزيد ، وأبو زيد . واختلفوا في رجلين من ثلاثة : أبو الدرداء ، وعثمان ، وقيل : عثمان وتميم الداري (9)  .

4 ـ عن الشعبي : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة : أبي ، وزيد ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد ، ومجمع بن جارية وقد أخذه إلاّ سورتَين أو ثلاثة . قال : ولم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب محمد غير عثمان (10)  .

5 ـ جُمع على عهد النبي صلى الله عليه وآله : جَمع بعضٌ من الصحابة القرآنَ كلّه ، وبعض منهم جَمَع القرآن ثمّ كمّله بعد النبي صلى الله عليه وآله ، وذكر محمد بن إسحاق في الفهرست :

( إنّ الجمّاع للقرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم : علي بن أبي طالب عليه السلام ، وسعد بن عبيد بن النعمان ، وأبو الدرداء ، وعويمر بن زيد ، ومعاذ بن جبل بن أوس ، وأبو زيد ثابت بن زيد ، وأبي بن كعب ، وعبيد بن معاوية ، وزيد بن ثابت )(11)  .

6 ـ وذكر الحافظ شمس الدين الذهبي : أنّ الأعداد المتقدّمة هم الذين عرضوه على النبي صلى الله عليه وآله واتّصلت بنا أسانيدُهم ، وأمّا مَن جمعه منهم ولم يتّصل بنا فكثير ، وأمّا الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله فسبعة : عثمان بن عفّان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو الدرداء .

وقد أكّد الحافظ الذهبي نفسُه الجمْع في عهد النبي صلى الله عليه وآله ، فقال : وقد جَمع القرآن غيرهم من الصحابة ، كمعاذ بن جبل ، وأبي زيد ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمر ، وعقبة بن عامر (12)  .

7 ـ روى الخوارزمي في مناقبه عن علي بن رياح ، قال : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي بن كعب (13)  .

8 ـ أخرج بن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي ، قال : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسةٌ من الأنصار : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبي بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو أيّوب الأنصاري (14)  .

9 ـ قال الحارث المحاسبي ، فيما أكده الزركشي : ( وأمّا أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل : فبغير شَكٍّ جمعوا القرآن ، والدلائل عليه متظاهرة ) (15)  .

10 ـ أخرج البيهقي ، وأبو داود ، عن الشعبي ، قال : جَمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة : أبي ، وزيد ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد . ومجمع بن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثة (16)  .

11 ـ ذكر بن أبي داود فيمن جمع القرآن : قيس بن أبي صعصعة ، وهو خزرجي يكنّى : أبا زيد (17)  .

12 ـ قال أبو أحمد العسكري : لم يَجمع القرآن من الأوس غيرُ سعد بن عبيد . وقال ابن حبيب في ( المحبر ) : سعد بن عبيد أحد مَن جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (18)  .

13 ـ قال السيوطي : ظفرتُ بامرأةٍ من الصحابيّات جمعتْ القرآن ، ولم يعدّها أحد ممّن تكلّم في ذلك ، فأخرج ابن سعد في الطبقات : أَنْبَأَنَا الفضلُ بن دكين ، قال حدثنا : الوليد بن عبد الله بن جميع ، قال : حدثتني جدّتي أُمّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يزورها ، ويسمّيها الشهيدة ـ وكانت قد جمعت القرآن ... ثمّ ساق الحديث (19) .

وهذه الجملة من الروايات بضمّ بعضها إلى البعض الآخر تبرز لنا طائفةٌ كبيرةٌ من أعلام المهاجرين والأنصار قد جَمعتْ القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وليس من المرجّح أنْ يكون هؤلاء الرواة جميعاً مع اختلاف عصورهم قد تواطئوا على الكذب ، فأَوردوا ذكْر هذه الجمهرة من الصحابة ممّن جمعوا القرآن ، ولا منازِع لهم في ذلك ، بل ولا مناقِش من الأعلام .

وأنت ترى أنّ هذه الروايات تدلّ دلالة قاطعة على الجمْع المتعارف ، وهو التدوين في مجموع ما ، وقد يحلو للبعض أنْ يفسّر الجمْع بالحفظ في الصدور ، ولا دلالة لغويّة عليه ؛ إذ إنّه انتقال باللفظ عن الأصل إلى سواه دون قرينة تُعرَف عن المعنى الأوّل ، ولأنّه معارَض بجمهور الحَفَظَة الذين لا يعدّون في عهد النبي صلى الله عليه وآله كثرةً وتواتراً وشيوعاً ، من النساء والرجال وفيهم الخلفاء الأربعة وأمّهات المؤمنين وذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله ، عدا آلاف المسلمين في طول البلاد وعرضها .

لقد عقّب الماوردي على الرواية القائلة بأنّه لم يُجمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أربعة ، واستقلّ ذلك بل استنكره ، فقال : ( وكيف يمكن الإحاطة بأنّه لم يكمله سوى أربعة ، والصحابة متفرّقون في البلاد ؟ وإنْ لم يكمله سوى أربعة ، فقد حفظ جميع أجزائه مِئُون لا يحصون ) (20)  .

فالماوردي هنا يفرّق بين الجمع والحفظ ، وهو من علماء القرن الخامس الهجري ، ممّن يعرف فحوى الخطاب ، ومنطوق العبارة ، ودلالة الألفاظ .

والفرق بين الجمع ، والقراءة ، والحفظ ، جليّ لا يحتاج معه إلى بيان ، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات القرّاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فعدّ الخلفاء الأربعة ، وطلحة ، وسعداً ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالماً ، وأبا هريرة ، وعبد الله بن السائب ، والعبادلة (21)  ، وعائشة ، وحفصة ، وأُمّ سلمة .

ومن الأنصار : عبادة بن الصامت ، ومعاذ الذي يُكنّى أبا حليمة ، ومجمع بن جارية ، وفضالة بن عبيد ، ومسلم بن مخلد (22)  .

وهذا العدد يقتضي أنْ يكون على سبيل النموذج والمثال ، لا على سبيل الحصر والاستقصاء ، أو أنّ هؤلاء ممّن اشتهر بالحفظ والقراءة أكثر من غيرهم .

وممّا يؤيّد صدق الروايات المتقدّمة في إرادة الجَمْع المتعارف هو تداول جمْع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما روي عن زيد بن ثابت ، فإنّه يقول ( كنّا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع ) (23)  . ودلالة التأليف ، تعني الجمْع والتدوين ، وضمّ شيء إلى شيء ، ليصحّ أنْ يُطلق عليه اسم التأليف .

ولا دليل على ادّعاء الزركشي : بأنّ بعض القرآن جُمع بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (24)  .

فلم لا يكون كل القرآن جُمع في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، علماً بأنّه قد سبقه مَن صرّح بجمع القرآن كلّه لا بعضه في عهد النبي صلى الله عليه وآله بما نصّه : ( أنّه لم يكن يَجمع القرآن كلّه إلاّ نفر يسير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) (25)  .

ولا ريب ـ بعد هذا كلّه ـ أنّ هناك بعض المصاحف المتداولة عند بعض الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والأخبار مُجمِعة على صِحّة وجودها ، وعلى تعدّد مصاحف الصحابة أيضاً ؛ إذْ لو لم يكن هناك جمع بالمعنى المتبادر إليه ، لَمَا كانت تلك المصاحف أصلاً ، إنّ وجودها نفسه هو دليل الجمْع ، إذْ لم يصدر منع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جَمْعه ، بل هناك رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم تقول : ( لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن ، فمَن كتب عنّي غير القرآن فلْيَمْحه ) (26)  .

وجَمْع هؤلاء الصحابة للقرآن هو الجمْع الذي نقول به ، لا الحفظ ، وإلاّ فما معنى تسميتها بالمصاحف ؟ وما معنى اختلاف هذه المصاحف فيما تدّعي الروايات .

لقد أورد ابن أبي داود قائمة طويلة بأسماء مصاحف الصحابة ، وعقّب عليها بما فيها من الاختلاف ، هذا الاختلاف الذي قد يعود في نظرنا إلى التأويل لا إلى التنزيل ، أو إلى عدم الضبط في أسوأ الاحتمالات ، وقد عقد لذلك باباً سمّاه ( باب اختلاف مصاحف الصحابة ) (27)  .

وقد عدّد ابن أبي داود منها : مصحف عمر بن الخطاب ، مصحف علي بن أبي طالب ، مصحف أبيّ بن أبي كعب ، مصحف عبد الله بن مسعود ، مصحف عبد الله بن عباس ، مصحف عبد الله بن الزبير ، مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص ، مصحف عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (28)  .

قال الآمدي ( ت : 617 هـ ) في كتابه ( الأفكار الأبكار ) : ( إنّ المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ومعروضة ) (29)  .

فالآمدي يجيبنا على سؤال دقيق هو : متى كُتبت هذه المصاحف ؟ ومتى جُمعت ؟ وكيف أُقرّت ؟ والجواب أنّها كُتبت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقُرئتْ عليه ، بل هي معروضة عليه للضبط والدقّة والإتقان .

وهناك دليل جوهري ، آخر وهو : أنّ الروايات في قراءة القرآن كلّه ، وختمه في عهد رسول الله تنطق بوجود جمعي له ، إذ كيف يقرأ فيه مَن لم يحصل عليه .

1 ـ ( عن عبد الله بن عمرو ، قال : قلتُ : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ قال : ( اختمه في شهر ، قلتُ : إنّي أُطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشرين ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمس عشرة ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشر . قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمس ) ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك فما رخص لي ) (30)  .

وقد روي في غير هذا الحديث ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أوّل مرّة ، ( اقرأ القرآن في أربعين ) (31)  .

2 ـ وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ( لم يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث ) (32)  . فأيّ قرآن يشير إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنْ لم يكن مجموعاً ، ومتداولاً بما تتيسّر قراءته عند المسلمين .

3 ـ ومن المشهور الذي لا يُجهل أنّ عمر بن الخطاب (رض) أقام من صلى التراويح بالناس في ليالي رمضان ، وأَمَرَه أنْ يقرأ في الركعة الواحدة نحواً من عشرين آية ، فكان يُحْيَى القرآن في الشهر مرّتين .

ومعلوم أنّ ذلك لم يكن من المصحف الذي كتبه زيد ؛ لأنّ المصاحف لم تُنسخ منه (33)  .

وهذا تصريح بوجود المصاحف المغايرة لِمَا استنسخه زيد ، وأنّ سيرة المسلمين عليها إذ لم يعمَّم مصحف زيد .

وصاحب الرأي السابق يذهب صراحة أنّ القرآن كان منظوماً ومجموعاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (34)  .

وقد يقال بأنّ الكتابة كانت محدودة في عصر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وقد يحول هذا دون تدوين القرآن ، فيُقال إنّ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وعصر أبي بكر واحد ، فما يُقال هناك يُقال هنا ، على أنّ موضوع الكتابة لا يخلو من مبالغة ، فهي وإنْ كانت محدودة النطاق ، ومقتصرة على طبقة من الناس ، فإنّنا نشكّك كثيراً في تحديد الأرقام التي أوردها المؤرّخون ، ولنا عليها مؤاخذات ليس هذا موطن بحثها ، ويزداد شكّنا حينما نلمح البلاذري يقول : ( دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتب ) (35)  .

أو ما أورده ابن عبد ربّه الأندلسي : ( لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام ، إلاّ بضعة عشر رجلاً ) (36)  .

لا ريب أنّ العرب كانت أُمّة أُمِّيَّة ، إلاّ أنّ هذه الأرقام لا تتناسب مع ذِكْر القرآن للكتابة وأدواتها ومشتقّاتها بهذه الكثرة ، على أنّ للأُمِّيَّة دلالات أخرى ، لعلّ مِن أفضلها ـ تعليلاً ـ ما رواه ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمّار ، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً ... ) (37)  .

قال الصادق : ( كانوا يكتبون ، ولكن لم يكنْ معهم كتاب مِن عند الله ، ولا بُعث إليهم رسولٌ فَنَسَبَهُم اللهُ إلى الأُمِّيِّين ) (38)  .

ومهما يكن مِن أمرٍ فَأُمِّيَّة مَن أسلم ، وقلّة الكَتَبَة ، وتَضاؤل وسائل الكتابة ، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن .

فلقد اتّخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عدداً من الكُتّاب للقرآن الكريم في كلٍّ مِن مكّة والمدينة ، في طليعتهم الخلفاء الأربعة ، وزيد ، وأبي (39)  .

 

قال القاضي أبو بكر الباقلاني :

( وما على جديد الأرض أجهل ممّن يظنّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه أهمل في القرآن أو ضَيّعه ، مع أنّ له كُتّاباً أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار ، فمِمَّن كتب له مِن قريش من المهاجرين : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن أرقم ، وخالد بن سعيد ، وذكر أهل التفسير أنّه كان يملي على خالد بن سعيد ثمّ يأمره بِطَيّ ما كتب وخَتْمِهِ .. ومنهم الزبير بن العوّام ، وحنظلة ، وخالد بن أسد ، وجهم بن الصلت ، وغير هؤلاء .. ) (40)  .

ولا شك أنّ الكتابة كانت تخضع للإشراف المباشِر من قِبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذات ؛ ليكون النص مطابقاً للوحي ، كما مرّ في حديث خالد بن سعيد ، وكما روى زيد بن ثابت : ( كنتُ أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يملي عليّ ، فإذا فرغتُ ، قال : اقْرَأْهُ ، فأَقْرَأُهُ ، فإنْ كان فيه سِقْط أَقَامَه ، ثمّ أَخْرُج به إلى الناس ) (41)  .

ولقد كان العرب في جاهليّتهم يهتمّون اهتماماً كبيراً في تقييد المأثور الديني ، ففي حديث سويد بن الصامت : أنّه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعلّ الذي معك مثل الذي معي .

فقال : ( وما الذي معك ؟ ) .

قال سويد : مجلّة لقمان .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اعْرِضْهَا عَلَيَّ ، فعرضها عليه ، فقال له : إنّ هذا الكلام حسن ، والذي معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله تعالى ، هو هدى ونور ) (42)  .

وإذا كان اهتمام العرب في الجاهلية بمثل هذا المستوى من الجَمْع والتدوين للموروث الثقافي أو الديني ، فكيف يكون اهتمامها بالقرآن الكريم ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم بين ظهرانيهم يدعوهم إلى حِفْظِهِ ومدارسته والقيام به . لكأنّني بالآية حينما يتلوها الرسول الأعظم تتلاقفها الصدور لتدوّنها في السطور ، ولقد كان مِن سيرته متى ما أسلم أحد من العرب دَفَعَه إلى الذين معه ، فعلّموه القرآن ، وإذا هاجر له أحدٌ من أصحابه أَوْكَلَهُ إلى مَن يعلّمه القرآن : ( فكان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل من الصحابة يعلّمه القرآن ، وكان يُسْمَع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضَجة بتلاوة القرآن ، حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يخفضوا أصواتهم لِئَلاّ يتغالَطوا ) (43)  .

إذن ، كيف كان يتمّ تعليم القرآن ؟ وكيف كانت تلاوته ؟ لا أشكّ أنّ ذلك كان في مِدْوَنٍ ما ، ولا يمنع ذلك من الحفظ في الصدور .

يقول محمد عبد الله دَرَاز : ( إنّ النص المنزَل لم يقتصر على كونه ( قرآناً ) أو مجموعة من الآيات تُتْلَى أو تُقرَأ ، وتُحفَظ في الصدور ، وإنّما كان أيضا ( كتاباً ) مدوّناً بأعداد ، فهاتان الصورتان تتضافران وتصحّح كلّ منهما الأخرى ، ولهذا كان الرسول كلّما جاءه الوحي وتلاه على الحاضرين أملاه مِن فَوْره على كَتَبَةِ الوَحْي ) (44)  .

وممّا يدلّ على تدوينه وكتابته مجموعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مضافاً إلى ما سبق بيانه ـ ما يلي :

1 ـ كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزلت عليه الآية من السورة دعا من يكتب له فيقول : ضعها في موضع كذا وكذا من السورة . وهذا من أوضح الأدلة على أن هذا الترتيب الذي رتبه الله عليه . ولأجله كان صلى الله عليه وآله وسلم يدلهم على موضع السور من القرآن ، والآية من السورة ، ليكتب ويحفظ على نظمه وترتيبه (45)  .

2 ـ لقد ورد لفظ الكتاب في القرآن والسنة النبوية القطعية الصدور ، للدلالة على ماله كيان جمعي محفوظ ، والإشارة بل التصريح في ذلك الكتاب إلى القرآن الكريم ، فقد استعمل لفظ الكتاب في القرآن بهذا الملحظ في أكثر من مائة موضع ، ونضرب لذلك بعض النماذج :

أ ـ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ، سورة البقرة : الآية : 2 .

ب ـ ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... ) ، سورة آل عمران : الآية : 3 .

ج ـ (  هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... ) ، سورة آل عمران : الآية : 7 .

د ـ ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... ) . سورة النساء : الآية : 105 .

هـ ـ ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... ) ، سورة المائدة : الآية : 48 .

و ـ ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ... ) ، سورة الأنعام : الآية : 92 .

ز ـ ( كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... ) ، سورة الأعراف : الآية : 2 .

ح ـ ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) ، سورة يونس : الآية : 1 .

ط ـ ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ... ) ، سورة هود : الآية : 1 .

ي ـ ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ... ) ، سورة إبراهيم : الآية : 1 .

أفلا يدلّ هذا الحشد الهائل إلى أنّ القرآن كان كتاباً مجموعاً يُشار إليه .

وممّا يعضده ما ورد في السنّة الشريفة من التصريح بالكتاب في عدّة مواضع ، أبرزها :

أ ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنّي تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به لنْ تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (46)  .

ب ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنّي مخلّف فيكم الثقلين ما إنْ تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (47)  .

فهل يعني استخلاف الكتاب أنْ يُتْرَك بين عَسَب ورِقاع وأَلْوَاح تارة ، أو بين أَقْتَاب وأَكْتَاف ولِخَاف تارة أخرى ، أَمْ أنّ استخلافه له ينبغي أنْ يكون مجموعاً منظّماً صالِحاً لمعنى الخلافة .

3 ـ ممّا لا شك فيه أنّ الاسم البارز والأمثل لسورة الحمد هو : ( فاتحة الكتاب ) ، ولو لم يكن القرآن مدوّناً من قِبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من جبرئيل عليه السلام : ( لَمَا كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى ، إذْ قد ثبت بالإجماع أنّ هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولاً ، فثبت أنّها فاتحته نَظْمَاً وترتيباً وتكلّماً ) (48)  .

4 ـ قد يُقال بأنّ جمْع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظه في الصدور ، وهذا وإنْ كان دعوى لا دليل عليها ، فإنّ مِن أبسط لوازمها أنّ الحفظ في الصدور ممّا يستدعي توافر النص بين الأيدي وتداوله للمعارضة بين ما يحفظ وبين ما هو مثبت ، ولا دليل أنّهم كانوا يحفظونه مباشرة عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، إذْ هذه الميزة من مميّزات الرسول الأعظم فبمعارضة جبرئيل عليه السلام له يحفظ النص القرآني ويستظهره وبتعهّد من الله له كما دلّ على ذلك قوله تعالى :( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (49)  .

ــــــــــــــــــ

* من كتاب : تَارِيخ القُرآنِ : الدكتور محمّد حسين علي الصغير : ص64 ـ ص92 .

(1) الخوئي : البيان : 240 ـ 246 .

(2) المصدر نفسه : 247 ـ 249 .

(3) المصدر نفسه : 249 ـ 251 .

(4) المصدر نفسه : 252 ـ 256 .

(5) المصدر نفسه : 257 .

(6) المصدر نفسه : 258 .

(7) ،(8) ، (9) ،(10) ظ : الزركشي ، البرهان : 1 ، 241 .

(11) ظ : الزنجاني : تاريخ القرآن : 46 ، وانظر مصدره .

(12) الزركشي : البرهان : 1 ، 242 وما بعدها .

(13) الزنجاني ، تأريخ القرآن : 47 .

(14) السيوطي ، الإتقان : 1 ، 202 .

(15) الزركشي ، البرهان : 1 ، 239 .

(16) السيوطي ، الإتقان : 1 ، 202 .

(17) المصدر نفسه : 1 ، 202 .

(18) المصدر نفسه : 1 ، 203 .

(19) المصدر نفسه : 1 ، 203 .

(20) الزركشي ، البرهان : 1 ، 242 .

(21) العبادلة : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ظ : ابن منظور ، لسان العرب : 4 ، 269 .

(22) السيوطي ، الإتقان : 1 ،202 .

(23) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 44 .

(24) ظ : الزركشي ، البرهان : 1 ، 237 .

(25) مقدّمتان في علوم القرآن : 25 .

(26) الخطيب البغدادي ، تقييد العلم : 29 .

(27) ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : 50 ـ 88 .

(28) المصدر نفسه : والصفحات .

(29) الزنجاني ، تأريخ القرآن : 39 .

(30) ،(31) ،(32) مقدمتان في علوم القرآن : 27 ـ 28 .

(33) ،(34) المصدر نفسه : 31 .

(35) البلاذري ، فتوح البلدان : 477 .

(36) ابن عبد ربّه ، العقد الفريد : 4 ، 242 .

(37) الجمعة : 2 .

(38) ظ : الطباطبائي ، الميزان : وانظر مصدره .

(39) ظ : الجهشياري ، الوزراء والكتاب : 14 .

(40) الباقلاّني ، نكت الانتصار : 100 .

(41) الصولي ، أدب الكتاب : 165 .

(42) ظ : ابن هشام ، السيرة النبوية : 2 ، 68 والزمخشري ، الفائق : 1 ، 206 .

(43) الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 ، 234 .

(44) محمد عبد الله دَرَاز ، مدخل إلى القرآن : الكريم : 34 .

(45) مقدّمتان في علوم القرآن : 41 .

(46) ابن الأثير ، جامع الأصول : 1 ، 187 .

(47) الطوسي ، التبيان : 1 ، 3 .

(48) مقدّمتان في علوم القرآن : 41 ، وما بعدها .

(49) سورة القيامة : الآية : 16 ـ 17 .