آية المباهلة

آية المباهلة

علي الحسيني الميلاني *

قوله تعالى:

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ

عَلَى الْكَاذِبِينَ )(1) .

هذه الآية تُسمّى بـ " آية المباهلة ".

المباهلة في اللغة

المباهلة: من البَهْل ، والبَهْل في اللغة بمعنى تخلية الشيء وتركه غير مراعى ، هذه عبارة الراغب في كتاب "المفردات"(2) . وعندما تراجعون القاموس وتاج العروس وغيرهما من الكتب اللغوية ، ترونهم يقولون في معنى البَهْل إنّه: اللَّعن(3) .

لكنّي رأيت عبارة الراغب أدق ، فالبَهْل هو ترك الشيء غير مراعى ، كأنْ تترك الحيوان مثلاً من غير أن تشدّه ، من غير أن تربطه بمكان ، تتركه غير مراعى ، تخلّيه وحاله وطبعه . وهذا المعنى موجود في رواياتنا بعبارة: ( أوكله الله إلى نفسه ) ، فمَن فعل كذا أوكله الله إلى نفسه . وهذا المعنى دقيق جدّاً .

تتذكّرون في أدعيتكم تقولون: ( ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ أبداً ) . وإنّه لمعنى جليل وعميق جدّاً ، لو أنّ الانسان تُرك من قبل الله سبحانه وتعالى لحظةً ، وانقطع ارتباطه بالله سبحانه وتعالى ، وانقطع فيض الباري بالنسبة إليه آناً من الأنات ؛ لانعدم هذا الانسان ، لهلك هذا الانسان . ولو أردنا تشبيه هذا المعنى بأمر مادّي خارجي ، فانظروا إلى هذا الضياء ، هذا المصباح ، إنّه متّصل بالمركز المولِّد ، فلو انقطع الاتصال آناً ما ، لم تجد هناك ضياءً ولا نوراً من هذا المصباح.

هذا معنى إيكال الانسان إلى نفسه ، تقول: ( ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ أبداً ) .

هناك كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة ، أُحبُّ أن أقرأ عليكم هذه الكلمة . لاحظوا ، أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ( إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وَكَلَه الله إلى نفسه ، فهو جائرٌ عن قصد السبيل ، مشغوفٌ بكلامِ بدعة ودعاءِ ضلالة ، فهو فتنة لمَن افتتن به ، ضالٌّ عن هَدْي مَن كان قبله ، مضلٌّ لمَن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمّالٌ لخطايا غيره ، رهنٌ بخطيئته )(4) .

وجدتُ عبارة الراغب أدق . معنى البَهْل ، معنى المباهلة : أن يدعو الإنسان ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يترك شخصاً بحاله ، وأنْ يوكله إلى نفسه . وعلى ضوء كلام أمير المؤمنين: أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الشخص أبغض الخلائق إليه ، وأيّ لعن فوق هذا ، وأيّ دعاء على أحد أكثر من هذا ؟

لذا عندما نرجع إلى معنى كلمة "اللعن" في اللغة ، نراها بمعنى الطرد ، الطرد بسخط ، والحرمان من الرحمة . فعندما تلعن شخصاً ـ أي تطلب من الله سبحانه وتعالى أن لا يرحمه ـ تطلب من الله أن يكون أبغض الخلائق إليه ، فالمعنى في "القاموس" و"شرحه" أيضاً صحيح ، إلاّ أنّ المعنى في "مفردات" الراغب أدق ، فهذا معنى المباهلة .

إذن، عرفنا لماذا أُمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالمباهلة ، ثمّ عرفنا ـ في هذا المقدار من الكلام ـ أنّه لماذا عَدَل القوم عن المباهلة ، لماذا تراجعوا ، مع أنّهم قرّروا ووافقوا على المباهلة ، وحضروا من أجلها ، إلاّ أنّهم لمّا رأوا رسول الله ووجوه أبنائه وأهله معه ، قال أُسقفهم: ( إنّي لأرى وجوهاً لو طلبوا من الله سبحانه وتعالى أن يزيل جبلاً من مكانه ، لأزاله )(5) .

فلماذا جاء رسول الله بمَن جاء ؟ لا نريد الآن أن نُعيّن مَن جاء مع رسول الله ، لكن يبقى هذا السؤال: لماذا جاء رسول الله بمَن جاء دون غيرهم ؟ فهذا معنى المباهلة إلى هنا.

تعيين من خرج مع الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في المباهلة

إنّه ـ كما أشرنا من قبل ـ ليس في الآية المباركة اسم لأحد . لا نجد اسم علي ولا نجد اسم غير علي في هذه الآية المباركة . إذن ، لابدّ أن نرجع إلى السُّـنَّة كما ذكرنا . وإلى أيّ سُنّة نرجع ؟ نرجع إلى السُّـنَّة المقبولة عند الطرفين ، نرجع إلى السنّة المتّفق عليها عند الفريقين.

ومن حسن الحظ ، قضيّة المباهلة موجودة في الصحاح ، قضيّة المباهلة موجودة في المسانيد ، قضيّة المباهلة موجودة في التفاسير المعتبرة . إذن ، أيّ مخاصم ومناظر وباحث يمكنه التخلّي عن هذا المطلب وإنكار الحقيقة ؟!

وتوضيح ذلك: إنّا إذا رجعنا إلى السُّـنَّة ، فلابدّ وأن نتمّ البحث دائماً بالبحث عن جهتين ، وإلاّ لا يتمّ الاستدلال بأيّ رواية من الروايات:

الجهة الأُولى: جهة السند . لابدّ وأن تكون الرواية معتبرة ، لابدّ وأن تكون مقبولة عند الطرفين ، لابدّ وأن يكون الطرفان ملزمَين بقبول تلك الرواية .

 هذا ما يتعلّق بالسند.

الجهة الثانية: جهة الدلالة . فلابدّ وأن تكون الرواية واضحة الدلالة على المدَّعى.

وإلى الآن فهمنا أنّ الآية المباركة وردت في المباهلة مع النصارى ، نصارى نجران . ونجران منطقة بين مكّة واليمن ، على ما في بالي في بعض الكتب اللغوية ، أو بعض المعاجم المختصَّة بالبلدان .

وإذا رجعنا إلى السنّة في تفسير هذه الآية المباركة ، وفي شأن مَن نزلت ومَن خرج مع رسول الله ، نرى مسلماً والترمذي والنسائي وغيرهم من أرباب الصحاح(6) ، يروون الخبر بأسانيد معتبرة ، فمضافاً إلى كونها في الصحاح ، هي أسانيد معتبرة أيضاً ، يعني حتّى لو لم تكن في الصحاح بهذه الأسانيد ، هي معتبرة قطعاً:

خرج رسول الله ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين ، وليس معه أحد غير هؤلاء .

فالسند معتبر ، والخبر موجود في "الصحاح" ، وفي "مسند أحمد" ، وفي "التفاسير" ، إلى ما شاء الله ، من الطبري وغير الطبري . ولا أعتقد أنّ أحداً يناقش في سند هذا الحديث بعد وجوده في مثل هذه الكتب .

نعم ، وجدتُ حديثاً في "السيرة الحلبيّة" ، بلا سند ، يُضيف عمر بن الخطّاب وعائشة وحفصة ، وأنّهما خرجتا مع رسول الله للمباهلة(7) . ووجدتُ في كتاب "تاريخ المدينة المنوّرة" لابن شبّة(8) ، أنّه كان مع هؤلاء ناسٌ من الصحابة ، ولا يقول أكثر من هذا . ووجدتُ رواية في ترجمة عثمان بن عفّان من "تاريخ ابن عساكر"(9) أنّ رسول الله خرج ومعه علي وفاطمة ، والحسنان ، وأبو بكر وولده ، وعمر وولده ، وعثمان وولده.

فهذه روايات في مقابل ما ورد في "الصحاح" و"مسند أحمد" ، وغيرها من الكتب المشهورة المعتبرة ، لكن هذه الروايات في الحقيقة:

أوّلاً: روايات آحاد.

ثانياً: روايات متضاربة فيما بينها.

ثالثاً: روايات انفرد رواتها بها ، وليست من الروايات المتَّفق عليها.

رابعاً: روايات تعارضها روايات الصحاح.

خامساً: روايات ليس لها أسانيد ، أو أنّ أسانيدها ضعيفة ، على ما حقّقتُ في بحثي عن هذا الموضوع.

إذن ، تبقى القضيّة على ما في "صحيح مسلم"، وفي غيره من الصحاح ، وفي "مسند أحمد" ، وغير مسند أحمد من المسانيد ، وفي "تفسير الطبري" و"الزمخشري" و"الرازي" ، وفي "تفسير ابن كثير" ، وغيرها من التفاسير ... إلى ما شاء الله ، وليس مع رسول الله إلاّ علي وفاطمة والحسنان.

دلالة آية المباهلة على إمامة عليّ (عليه السلام)

أمّا وجه الدلالة في هذه الآية المباركة ، بعد بيان شأن نزولها ، وتعيين مَن كان مع النبي في تلك الواقعة ، دلالة هذه الآية على إمامة علي مِن أين ؟ وكيف تستدلّون أيّها الإمامية بهذه الآية المباركة على إمامة علي ؟

فيما يتعلّق بإمامة أمير المؤمنين في هذه الآية ، وفي الروايات الواردة في تفسيرها ، يستدلّ علماؤنا بكلمة: (وَأَنْفُسَنَا) ، تبعاً لائمّتنا (عليهم السلام).

ولعلّ أوّل مَن استدلّ بهذه الآية المباركة هو أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه ، عندما احتجّ في الشورى على الحاضرين بجملة من فضائله ومناقبه ، فكان من ذلك احتجاجه بآية المباهلة ، وهذه القصّة ، وكلّهم أقرّوا بما قال أمير المؤمنين ، وصدّقوه في ما قال . وهذا الاحتجاج في الشورى مروي أيضاً من طرق السنّة أنفسهم(10) .

وأيضاً هناك في رواياتنا(11) أنّ المأمون العباسي سأل الإمام الرضا (عليه السلام) ، قال: هل لك من دليل من القرآن الكريم على إمامة علي ، أو أفضليّة علي ؟ السائل هو المأمون والمجيب هو الإمام الرضا (عليه السلام) .

المأمون كما يذكرون في ترجمته ـ كما في "تاريخ الخلفاء" للسيوطي وغيره(12) ـ أنّه كان من فضلاء الخلفاء ، أو من علماء بني العباس من الخلفاء ، طلب المأمون من الإمام أن يُقيم له دليلاً من القرآن ـ كأنّ السنّة قد يكون فيها بحثٌ ؛ بحثٌ في السند أو غير ذلك ، لكن لا بحث سندي فيما يتعلّق بالقرآن الكريم ، وبآيات القرآن المجيد ـ فذكر له الإمام (عليه السلام) آية المباهلة ، واستدلّ بكلمة: (وَأَنْفُسَنَا) ؛ لانّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما أُمر أنْ يُخرِج معه نساءه ، فأخرج فاطمة فقط ، وأبناءه ، فأخرج الحسن والحسين فقط ، وأُمر بأن يُخرِج معه نفسه ، ولم يُخرِج إلاّ عليَّاً ، وعليٌ نفس رسول الله بحسب الروايات الواردة بتفسير الآية ، كما أشرنا إلى مصادر تلك الروايات .

ولم يخرج رسول الله إلاّ عليّاً ، فكان عليٌ نفس رسول الله ، إلاّ أن كون علي نفس رسول الله بالمعنى الحقيقي غير ممكن ، فيكون المعنى المجازي هو المراد ، وأقرب المجازات إلى الحقيقة يُؤخذ في مثل هذه الموارد كما تقرّر في كتبنا العلمية . فأقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي في مثل هذا المورد هو أن يكون علي مساوياً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، إلاّ أنّ المساواة مع رسول الله في جميع الجهات ، وفي جميع النواحي حتّى النبوّة ؟ لا.

فتخرج النبوّة بالإجماع على أنّه لا نبيَّ بعد رسول الله ، وتبقى بقيّة مزايا رسول الله ، وخصوصيات رسول الله ، وكمالات رسول الله ، موجودةً في علي بمقتضى هذه الآية المباركة.

من خصوصيّات رسول الله: العصمة ، فآية المباهلة تدلّ على عصمة علي بن أبي طالب قطعاً.

من خصوصيّات رسول الله: أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فعلي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كرسول الله قطعاً.

من خصوصيّات رسول الله: أنّه أفضل جميع الخلائق ، أفضل البشر والبشريّة ، منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى العالم وخَلَق الخلائق كلّها ، فكان أشرفهم رسول الله محمّد بن عبدالله ، وعلي كذلك.

وسنبحث ـ إن شاء الله ـ في ليلة من الليالي عن مسألة تفضيل الأئمة على الأنبياء ، وسترون أنّ هذه الآية المباركة ـ وهناك أدلّة أُخرى أيضاً ـ تدلُّ على أنّ عليّاً أفضل من جميع الأنبياء سوى نبيّنا (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) . فحينئذٍ حصل عندنا تفسير الآية المباركة على ضوء الأحاديث المعتبرة ، حصل عندنا صغرى الحكم العقلي بـ: قبح تقدُّم المفضول على الفاضل ، بحكم هذه الأحاديث المعتبرة . وناهيك بقضيّة الأولوية : رسول الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وعلي أولى بالمؤمنين من أنفسهم .

وفي جميع بحوثنا هذه ، وإلى آخر ليلة ، سترون أنّ الأحاديث كلّها ، وإنْ اختلفت ألفاظها ، اختلفت أسانيدها ، اختلفت مداليلها ، لكنّ كلّها تصبّ في مصبٍ واحدٍ ، وهو أولويّة علي ، وهو إمامة علي ، وهو خلافة علي بعد رسول الله بلا فصل .

لابدّ وأنّكم تتذكّرون حديث الغدير: ( ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ ) ، قالوا: بلى ، قال: ( فمَن كنت مولاه فهذا علي مولاه ) . نفس المعنى الذي قاله في حديث الغدير ، هو نفس المفهوم الذي تجدونه في آية المباهلة . وبالنظر إلى ما ذكرنا من المقدّمات والممهّدات ، التي كلّ واحد منها أمر قطعي أساسي ، لا يمكن الخدشة في شيء ممّا ذكرت.

مع ابن تيمية في آية المباهلة

ولو أنّ مدّعياً يدّعي ، أو متعصّباً أو جاهلاً يقول كما قال ابن تيميّة في "منهاج السنّة"(13): بأنّ رسول الله إنّما أخرج هؤلاء معه ، ولم يخرج غيرهم . يعترف بعدم خروج أحد مع رسول الله غير هؤلاء ، يعترف ابن تيميّة ، واعتراف ابن تيميّة في هذه الأيام ، وفي أوساطنا العلميّة ، وفي مباحثنا العلميّة ، له أثر كبير ؛ لانّ كثيراً من الخصوم يرون ابن تيميّة "شيخ الإسلام" ، إلاّ أنّ بعض كبارهم قال: مَن قال بأنّ ابن تيميّة "شيخ الإسلام" ، فهو كافر !!

المهم ، فابن تيميّة أيضاً يعترف بعدم خروج أحد مع رسول الله في قضية المباهلة غير هؤلاء الأربعة ، يعترف بهذا ، وراجعوا كتابه "منهاج السنّة" ، موجود ، إلاّ أنّه يقول: بأنّ عادة العرب في المباهلة أنّهم كانوا يخرجون أقرب الناس إليهم ، كانوا يخرجون معهم إلى المباهلة مَن يكون أقرب الناس

إليهم ، كانت عادتهم أن يخرجوا الأقرب نسباً ، وإنْ لم يكن ذا فضيلة ، وإن لم يكن ذا تقوى ، وإنْ لم يكن ذا منزلة خاصة أو مرتبة عند الله سبحانه وتعالى ، يقول هكذا.

لكنّه يعترض على نفسه ويقول: إنْ كان كذلك ، فلِمَ لم يُخرِج العبَّاس عمّه معه ؟ والعبَّاس في كلمات بعضهم ـ ولربّما نتعرّض إلى بعض تلك الكلمات في حديث الغدير ـ أقرب إلى رسول الله من علي ، فحينئذٍ لِمَ لمْ يَخرُج معه ؟

يقول في الجواب: صحيحٌ ، لكنْ لم يكن للعباس تلك الصلاحية والقابليّة واللياقة لأن يحضر مثل هذه القضية ، هذا بتعبيري أنا ، لكن راجعوا نصّ عبارته ، هذا النقل كان بالمعنى ، يقول بأنّ العباس لم يكن في تلك المرتبة لأن يحضر مثل هذه القضيّة . يقول ابن تيميّة: فلذا يكون لعلي في هذه القضية نوع فضيلة .

بهذا المقدار يعترف ، ونغتنم من مثل ابن تيميّة أن يعترف بفضيلة لعلي في هذه القضيّة .

ولو أنّك راجعت الفضل ابن روزبهان الخنجي ، ذلك الذي ردّ كتاب العلاّمة الحلّي ( رحمه الله ) بكتاب أسماه "إبطال الباطل" ، لرأيته في هذا الموضع أيضاً يعترف بثبوت فضيلة لعلي لا يشاركها فيها  أحد(14) .

نعم ، يقول ابن تيميّة: لم تكن الفضيلة هذه لعلي فقط ، وإنّما كانت لفاطمة والحسنين أيضاً . إذن ، لم تختصّ هذه الفضيلة بعلي .

وهذا كلام مضحك جدّاً ، وهل الحسنان وفاطمة يدّعون التقدُّم على علي ؟! وهل كان البحث في تفضيل علي على فاطمة والحسنين ، أو كان البحث في تفضيل علي على أبي بكر ؟! أو كان البحث في قبح تقدُّم المفضول على الفاضل بحكم العقل ؟

والعجب أنّ ابن تيميّة يعترف في أكثر من موضع من كتابه "منهاج السنّة" بقبح تقدّم المفضول على الفاضل ، يعترف بهذا المعنى ويلتزم ، ولذلك يناقش في فضائل أمير المؤمنين ؛ لئلاّ تثبت أفضليّته من الغير.

ثمّ مضافاً إلى كلّ هذا ، ترون في قضيّة المباهلة أنّ رسول الله يقول لعلي وفاطمة والحسنين: (إذا أنا دعوتُ ، فأمّنوا ) (15) ، أي فقولوا: آمين . وأيّ تأثير لقول هؤلاء: آمين . أن يقولوا لله سبحانه وتعالى ، بعد دعاء رسول الله على النصارى ، أن يقولوا: آمين . أيّ تأثير لقول هؤلاء ؟ ألم يكفِ دعاء رسول الله على النصارى حتّى يقول رسول الله لفاطمة والحسنين ـ وهما صغيران ـ أن يقول لهم: قولوا: آمين .

خاتمة المطاف

إذن ، كان لعلي ولفاطمة وللحسنين سهم في تقدّم الإسلام ، كان علي شريكاً لرسول الله في رسالته ، وهذا معنى: (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي)(16) ، فهارون كان ردءاً يصدّق موسى في رسالته ، وهارون كان شريكاً لموسى في رسالته . وهذا معنى: ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ) .

وقد قلت من قبل: إنّ الأحاديث هذه كلّها تصب في مصبّ واحد ، ترى بعضها يُصدّق بعضاً . ترى الآية تُصدّق الحديث ، وترى الحديث يصدّق القرآن الكريم . وهكذا الأمر فيما يتعلّق بأهل البيت: رسول الله يجمع أهله تحت الكساء ، فتنزل الآية المباركة آية التطهير ، وفي يوم الغدير ينصُب عليّاً ويعلن عن إمامته في ذلك الملا ، فتنزل الآية المباركة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (17) .

 وأيُّ ارتباطٍ هذا بين أفعال رسول الله والآيات القرآنيّة النازلة في تلك المواقف ، ترون الارتباط الوثيق ، يقول الله سبحانه وتعالى: ( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) ويَخرج رسول الله بعلي وفاطمة والحسن والحسين فقط ، وهذا هو الارتباط بين الوحي وبين أفعال رسول الله وأقواله.

إذن ، فالاية المباركة غايةُ ما دلّت عليه هو الأمر بالمباهلة ، وقد عرفنا معنى المباهلة ، لكن الحديث دلّ على خروج علي وفاطمة والحسن والحسين مع رسول الله .

الاية المباركة ليس فيها إلاّ كلمة: ( وَأَنْفُسَنَا ) ، لكن الحديث فسّر تفسيراً عملياً هذه الكلمة من الآية المباركة ، وأصبح علي نفس رسول الله . ليس نفس رسول الله بالمعنى الحقيقي ، فكان كرسول الله ، كنفس رسول الله ، فكان مساوياً لرسول الله . ولهذا أيضاً شواهدٌ أُخرى ، شواهدٌ أُخرى من الحديث في مواضع كثيرة .

يقول رسول الله مهدّداً إحدى القبائل: ( لتنتهنّ أو لأرسل إليكم رجلاً كنفسي ) .

 وكذا ترون في قضيّة إبلاغ سورة البراءة ، إنّه بعد عودة أبي بكر يقول: بأنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إليه: بأنّه لا يبلّغ السورة إلاّ هو أو رجل منه ، ويقول في قضيّة: (علي منّي وأنا من علي ، وهو وليّكم من بعدي) ، وهو حديث آخر ، وهكذا أحاديث أُخرى يُصدّق بعضها بعضاً .

إلى هنا ينتهي البحث عن دلالة آية المباهلة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإنْ شئتم المزيد ، فهناك كتب أصحابنا من "الشافي" للسيد المرتضى ، و"تلخيص الشافي" ، وكتاب "الصراط المستقيم" للبيّاضي ، وكتب العلاّمة الحلّي ( رحمة الله عليه ) ، وأيضاً كتب أُخرى مؤلّفة في هذا الموضوع .

ولي ـ والحمد لله ـ رسالة في هذا الموضوع أيضاً ، وتلك الرسالة مطبوعة ، ومَن شاء التفصيل فليراجع.

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* بحث مُستل من كتيِّب : "آية المباهلة" ، السيد علي الحسيني الميلاني ، سلسلة الندوات العقائدية ( 6 ) ، مركز الأبحاث العقائدية ، قم ، ط1 ، سنة 1421 هـ .

(1) سورة آل عمران: 61.

(2) المفردات في غريب القرآن: "بهل".

(3) تاج العروس: "بهل".

(4) نهج البلاغة: 51 ، الخطبة رقم: 17.

(5) راجع: الكشَّاف: 1 / 369 ، تفسير الخازن: 1 / 242 ، السراج المنير في تفسير القرآن: 1 / 222 ، تفسير المراغي: 13 / 175 ، وغيرها.

(6) راجع: صحيح مسلم: 7 / 120 ، مسند أحمد: 1 / 185 ، صحيح الترمذي: 5 / 596 ، خصائص أمير المؤمنين: 48 ـ 49 ، المستدرك على الصحيحين: 3 / 150 ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 7 / 60 ، المرقاة في شرح المشكاة: 5 / 589 ، أحكام القرآن للجصاص: 2 / 16 ، تفسير الطبري: 3 / 212 ، تفسير ابن كثير: 1/ 319 ، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور: 2 / 38 ، الكامل في التاريخ: 2 / 293 ، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 26 ، وغيرها من كتب التفسير والحديث والتاريخ.

(7) إنسان العيون: 3 / 236.

(8) تاريخ المدينة المنورة: 1 / 581.

(9) ترجمة عثمان من تاريخ دمشق: 168.

(10) ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق: 3 / 90 / ح 1131.

(11) الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 38.

(12) تاريخ الخلفاء: 306.

(13) منهاج السنة: 7 / 122 ـ 130.

(14) أنظر: إحقاق الحق: 3 / 62.

(15) الكشَّاف: 1 / 368 ، الخازن: 1 / 243 ، وغيرهما.

(16) سورة القصص: 34.

(17) سورة المائدة: 3.