مولد راهب آل محمّد (صلوات الله عليه)

لِـطُورِكَ  الشمسُ أهْوَت وانحنى القَمَرُ      وبـاسمِكَ  الـحُورُ غَنَّت واسمُكَ الوَتَرُ
ونـحوكَ  الـسُفْنُ صَـلَّت أنت معبَدُها      يـسوقُها الـشوقُ لا ( لَـوحٌ ولا دُسُرُ)
وتـعزِفُ  الـرِيحُ مـن أشواقِها سُوَراً      كـم رَنَّـمَ الرِيحَ (ما جاءت به السُوَرُ)
ألـواحُـها  أضْـلُعٌ والـعِشْقُ أثـقَلَها      فـقَوَّسَتْ عُـودَها كـي يُـجْتَنى الثَمَرُ
بـحورُها  الـحُبُ سَـيَّالٌ عـلى لُجَجٍ      وصـفوها الآلُ لا مـن صـفوُهُم كَدَرُ
حِـبـالُها  الـوَلَـهُ الـمُمتَدُّ مـن أزَلٍ      مـن عـالَمِ الـذَرِّ حـتى يُبعَثَ البَشَرُ
شِـراعُها الـنبضُ قَـفَّاءٌ عـلى أَثَـرٍ      كـم تَـيَّمَ الـنبضَ في رَملِ الهوى أَثَرُ
رُبَّـانُها  الـعِشقُ في الأحشاءِ مُضطَرِمٌ      ومَـجْمَرُ  الـعِشْقِ لا يُـبْقِي ولا يَـذَرُ
يـا  دَوحَـةُ الـشِعْرِ بـاعِد بينَنَا سَفَراً      مـا  عـادَ في الرَوعِ شِبْرٌ ما بِهِ صُوَرُ
كـم  يـرْقَبُ الـليلُ فَجراً أنتَ مبْسَمُهُ      وتـرتَـجي دِفـأَكَ الـسُمَّارُ والـسَحَرُ
وكــم تـهـيمُ إلـى مـثواكَ ألـوِيَةٌ      مـن عـالَمِ الـنورِ زُمْـرَاً تِلْوَها زُمَرُ
كـم قـارَبَ الـنَفَسُ الـولهانُ خُطوَتَهُ      وسـابَقَ الـطيرَ فـوَّاحُ الـوَلا العَطِرُ
كـم  أطـبَقَ الـجَفْنُ أستاراً على مُقَلٍ      إلَـيْكَ  يـحدو بـها الـتِرْحالُ والسَفَرُ
حـتى  بَـدَت قُـبَّةٌ لـلشمسِ سـامِقَةٌ      مـن عَـسْجَدِ الـخُلدِ لُفَّتْ حولَها الأُزُرُ
فـهَـوَّمَتْ حـولَـها الأرواحُ مُـنشدَةً      وصـوتُها فـي عُـلا الأفـلاكِ يفتَخِرُ
فَـدَتْـكِ يــا طـوسُ أرواحٌ وأفـئدةٌ      أنـتِ  الـمعينُ ومِـنْكِ الوِرْدُ والصَدَرُ
فـي لـيلةٍ بَـزَّتِ الـدُنيا وما انبَلَجت      إلاّ عـلى صُـبْحِكَ الـوَضَّاءِ يـزدَهِرُ
شَـعَّت بـها (نـجمةٌ) بالنورِ قد حمَلَت      فـنُورُها  أخـجَلَ الـجوزاءَ بل عُشُرُ
في طورِ (موسى) استَوَت ناراً على عَلَمٍ      ودونَـهـا جَـذْوَةُ الـفِردَوسِ تَـنْسَتِرُ
جـاءت  بـه قَـمَراً تَـمَّاً وهل ولَدَت      بِـنْتُ الأُرُومـةِ إلاّ مـا زكـى الجُذُرُ
فـأشرقَ الـحُسْنُ من عِطْفَي أبي حَسَنٍ      سُـلالَةُ الـشمسِ يـرنو نحوَها البَصَرُ
وأفـرغَت صُـحْفَها الأمـجادُ وامْتلأت      مـن جـودِ ألـطافِهِ الألـطافُ والمِيَرُ
وصَـوَّتَ الـروحُ والأمـلاكُ قـاطِبَةً      مـن  وَحـيِ هَدْيِ الرِضا فلتُمْلأِ الزُبُرُ
بـالنورِ أَخْـمَدْتَ نـاراً سـيدي فمتى      نـارُ الـحشا تنطَفِي مُذْ ينقَضي الوَطَرُ
يـا بـاعث الأُسـدِ من جُدرانِ ظالِمِها      عَـرِيـنُنا خـامِـدٌ يـشـتاقُهُ الـظَفَرُ
يـا رافِـعَ السِتْرِ ما الريحُ التي عبَرَت      إلا زفـيـرُ مُـحِـبٍ عـاقَـهُ الـقَدَرُ
يـا كـاشِفَ الـكَربِ عن زوَّارِ مرقَدِهِ      سَـلامُـنا الـمُبتَدا إذ جُـودُكَ الـخَبَرُ
يـا  عـالِمَ الآلِ فاِضْرِب بالعَصَا لُجَجَاً      مِـنَ  الـمعارِفِ حـتى يُـقرَأَ السَطَرُ
هـنا (الرِضا) نُفِخَت في الصُورِ مِدْحَتُهُ      مـا  عـاقَ أصـداءَها بـاغٍ ولا أشِرُ
ثُـمَ (اتـرُكِ البَحرَ رَهواً ) (يتَّبِع سبباً)      لا  يـقتَفِي حَـدَّهُ الـقِطرانُ والـحَجَرُ
يـا مـنبَعَ الـدينِ يـا مَـدَّاً لـدعوَتِهِ      مَــدٌّ بِـحَجْمِكَ لا يُـطوى ويَـنحَسِرُ
يـا  ضـامِنَ الـخُلْدِِ تهفو نحوَها مُهَجٌ      تـرومُ  رؤيـاكَ... لاحُـورٌ ولا حَوَرُ
يـا بَـضْعَةَ المصطَفى خُذ من جوانَ حِنا      جَـمْرَ  الـمدائِحِ يـستَشري ويَـستَعرُ
هـذي  مـحافِلُنا بـالسعدِ قـد مُـلِئَت      مُـذْ تُشرِقُ الشمسُ تسمو نحوَها الزَهَرُ
هـذي  مـشارِبُنا عـن غيرِكُم فُطِمَت      عـن  غـيِّ شـانِئِكُم فـي سمْعِنا وَقَرُ
هـذي  عـواتِقُنا بـالذنبِ قـد ثَـقُلَت      أنَّـى  وأنـتَ بـنا تـدنو لـنا سَـقَرُ
هـذي حـوائِجُنا فـي سُـوْحِكُمْ هَتَفَت      قـبل  الـخريفِ سـتؤتي تمرَها هَجَرُ
إن أجـدَبَت أرضُـنا أو مُـزنُنا مَنَعت      مِـنْكَ الـنميرُ فـأنت الـمُزنُ والمَطَرُ

 

إنّ حياة المعصومين الأربعة عشر (صلوات الله عليهم) كانت زاهرة بالحبِّ والمعرفة , والصبر والبصائر , والمآثر والمناقب , وما بلَغنا من فضائلهم إنما هو غيض من فيض . وصاحب هذه الذكرى ـ الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) ـ هو من اُولئك الذين تسنّت لنا فرصة الاهتداء إلى المزيد من فضائلهم ؛ ولأنّهم عند الله نور واحد فليس علينا إلاّ الاستضاءة بسيرته (عليه السّلام) لمعرفة سيرة آبائه (عليهم جميعاً سلام الله) .

نعيش هذه الأيام في رحاب ذكرى ولادة هذا الإمام المعصوم (عليه السّلام) والذي عُرف بغريب طوس ؛ حيث ممّا تعنيه الغربة لديه (عليه السّلام) أنها غربة النفس عن آبائه الأطهار (عليهم السّلام) . لقد فُرضت عليه هذه الغربة والابتعاد عن خيرة الخلق جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، لكن تألّق نجم آل البيت (عليهم السّلام) بعطائه (عليه السّلام) وتضحياته الجسام , وعُرف أيضاً بـ (الرضا) , حيث منحه أبوه الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) هذا الشرف منذ نعومة أظفاره كما أعطاه كنية (أبو الحسن) .

كان تأثير الإمام (عليه السّلام) في الواقع الإنساني العام والإسلامي مما لا ريب فيه ؛ فقد ملأ الكون بعلمه وخُلقه , وحكمته البالغة , ومواقفه الرسالية الجليلة ضد الطغيان والاستبداد , والفساد السياسي والأخلاقي , ورفع أركان الإسلام من جديد بعد أن حاول بنو العباس القضاء على نور الإمامة , وأراد الله أن يُتمّ نوره بإشعاع نور الإمام الرضا (عليه السّلام) , فكانت حياته (عليه السّلام) فاتحة مرحلة جديدة من حياة الشيعة ؛ حيث خرجت بصائرهم وأفكارهم من مرحلة الكتمان إلى الظهور والإعلان ، ولم يعد الشيعة من بعد ذلك العهد طائفة معارضة في مناطق خاصة ، بل أصبحوا ظاهرين في كل بلاد .

الإمام الرضا (عليه السّلام) كان بمثابة قرآن ناطق ؛ فخُلقه من القرآن ، وعلمه ومكرماته من القرآن ، وكان (عليه السّلام) يمثّل هذا النور بكلِّ وجوده ، وكان قلبه يستضيء بنور الله ، وهكذا أطاع الله بكل جوانب حياته ؛ فأحبه الله ونوّر قلبه بضياء المعرفة , وألهمه من العلوم ما ألهمه ، وجعله حجة بالغة على خلقه .

لقد زهد الإمام (عليه السّلام) في الدنيا واستصغر شأنها ، ورفض مغرياتها ؛ فرفع الله الحجاب بينه وبين الحقائق ؛ لأنّ حبَّ الدنيا رأس كلِّ خطيئة ، وهو حجاب سميك بين الإنسان وبين حقائق الخلق .
وأعظم الزهد زهده في الخلافة بالطريقة التي عرضها عليه المأمون العباسي ؛ فإنّ من الناس من يزهد في الدنيا طلباً لمّا هو أعظم من متاعها .

كان (عليه السّلام) في قمة التواضع وحسن المعاشرة مع الناس ، وقد فاضت من هذه النفس الكريمة تلك الأخلاق الحسنة ، وكان عظيم الحلم والعفو ، وسيرته تشهد بذلك , وكتب التاريخ غنية بالكثير مما ذكرنا .

كان الإمام (عليه السّلام) قد إكتسب علوم أجداده الأطهار عليهم الصلاة والسّلام منذ ولادته المباركة ؛ بحيث استطاع أن يرتّب بمواقفه بنود وحقائق الإمامة رغم كل الإضطهاد والتعسف الذي عاشهما ؛ فقد عاش أزمنة أجداده كلِّها حتى انتهت إليه ولاية العهد على الرغم من أنّ هذه الولاية كانت لهم منذ عالم الذر ؛ فهم آل البيت (عليهم السّلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً , وهم حججه البالغة والمرشدة للدار الآخرة .

إنّ ذكرى مولد مولانا الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) هي رحمة زمانية كما الحال بالنسبة لكلِّ الذكريات المباركة لأئمة أهل البيت (عليهم السّلام) ، يبعثها الله لنا لننهض من كبوتنا ونرتقي لواجبنا الرسالي , ولندرس واقعنا وفق ما يضمن المستقبل الإسلامي واللقاء بصاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف على أفضل حال ؛ حيث نلمس إنسانية رسالة الإسلام في أخلاق الإمام الرضا (عليه السّلام) .

ومن نافلة القول نحاول أن ننقل طائفةً من قبسات نور الإمام الرضا (عليه السّلام) , حيث قال (عليه السّلام) : (( صديقُ كل إمرئ عقله , وعدوّه جهله )) ، وعن الريان بن الصلت قال : قلت للإمام الرضا (عليه السّلام) : ما تقول في القرآن ؟ فقال (عليه السّلام) : (( كلامُ الله لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا )) .

فالسلام عليك يا بضعة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) يوم ولدت ، ويوم استشهدت , ويوم تُبعث حيّاً .

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين