شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

سيرة الإمام محمد بن على الجواد عليه السلام

1 المشاركات 05.0 / 5

 

 مقدمة

لا ريب في انّ اغرب قصّة في جميع أرجاء الوجود هي قصّة خلافة الإنسان في الأرض، ولو تعمّقنا في الرّؤية لوجدنا انّ تكريم الإنسان على سائر المخلوقات هو بسبب هذه الميزة وهي التّمتّع بموهبة عظيمة وهي كونه «خليفة الله».

إنّ مجموعة أنبياء الله وأوصيائه من آدم وحتّى النّبيّ الخاتم، ومن النبيّ الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) وحتّى الإمام القائم(عليه السلام) في تاريخ معرفة الله ومعنويّة الإنسان تشبه الجبال الشاهقة الّتي تضمّ في باطنها معادن العلم والحكمة والولاية، وهي تشكّل الواسطة بين الله تعالى وسائر المخلوقات، وهي الحافظة للأمانة الالهيّة (الخلافة) في الأرض.

وهذه السّلسلة من جبال المعنويّات تعتبر أفضل المخلوقات وأقربها الى الله وهي الأُسوة والقدوة للآخرين، وحياة كلّ واحد من هؤلاء لم تكن حياة عاديّة في عصره بسبب ما يتمتّع به من علوم تتعلّق بما وراء هذا العالم وبسبب افعاله وأقواله الإلهيّة، فكانت تتضمن عجائب وغرائب كثيرة في المناسبات المختلفة، فنوح(عليه السلام) عمّر ما يناهز ألف عام وكان خلالها نبيّاً، وأخيراً ارسل الله تعالى على أعدائه طوفاناً أغرقهم به، وأنزل من السّماء العذاب على مخالفي هود وصالح(عليهما السلام) ومنكري نبوّتهما، وسقط إبراهيم الخليل(عليه السلام) في النّار كالفراشة لكنّها اصبحت له باذن الله برداً وسلاماً، وتحوّلت العصا في يد موسى (عليه السلام) بإذن الله الى ثعبان يلقف إفك الفراعنة، وتحكّم سليمان (عليه السلام) في مسير الرّيح وكلّم الطّير، وأحيا عيسى بإذن الله الأموات، وأمّا نبيّ الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد رافقته عدّة عجائب، فبولادته تحطّمت الأصنام وإنهدم أربعة عشر إيواناً من قصر كسرى، وانطفأت نار فارس و... وخلال نبوّته تغيّر العالم وبدأت البشريّة عصراً جديداً.

أجل انّ اغرب القصص في تاريخ العالم هي قصّة خلافة الإنسان للّه في الأرض. وأينما تجلّت هذه الموهبة الغريبة وفي أي نموذج ظهرت فقد رافقتها عجائب وغرائب عديدة.

ومن جملة تلك العجائب انّ الأنبياء والأئمّة لم يدرسوا عند أحد ولم يكتسبوا علومهم من استاذ بشريّ، وإنّما اخذوا تلك العلوم من الذّات الإلهيّة الفيّاضة.

وقد أدّت هذه الخاصّة (وهي عدم الحاجة الى التعلّم) الى أن لا يكون للعمر دور في الرسالة الإلهية للقادة السّماويين، وانّما يُختار الشّخص في أي عمر كان بإرادة الله وتأييده للنبوّة وهداية النّاس، ومن هنا فقد اختير البعض في اواسط عمرهم والبعض في سنين أعلى والبعض في شبابهم والبعض في طفولتهم لهذا المنصب الرّفيع (خليفة الله) الّذي لا يمكن الظّفر به إلاّ بارادة الله تعالى ومشيئته، وعندما تتعلّق ارادة الله بشيء فانّه لا دور هناك للعمر ومقدار السّنين...

وهكذا كان حيث نلاحظ بتصريح من القرآن الكريم انّ « يحيى » قد ظفر بالنبوّة وهو صبيّ، وان «عيسى» قد نال النبوّة وهو في المهد. يقول عزّ وجلّ:

( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوِّة وَآتيناهُ الْحُكْمَ صَبيّاً )(1).

 

يقول سبحانه:

 (قالُوا كَيْفَ نُكِلَّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْد صَبِيّاً، قال إنّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجعَلَني نَبيّا)(2).

وبناء على هذا فمن السّذاجة والجهل ان يُشكل بعض المعاندين على إمامة بعض أئمّتنا الطّاهرين الّذين نالوا منصب الإمامة في سنين الطّفولة. اذن من يعترض على إمامة الإمام الجواد (عليه السلام) قائلاً كيف يصل الى الإمامة وهو في سنّ الثّامنة أو التّاسعة، فقد دلّ على جهله وخالف امراً ينصّ القرآن الكريم على امكانه.

فالإمام أبو جعفر محمّد بن علي الجواد (عليهما السلام) تولّى الإمامة وخلافة الله في الأرض بعد استشهاد والده الكريم، وذلك بتصريح الأئمّة السّابقين. وبتعيين مسبق من قبل الإمام الثّامن صلوات الله عليه، وبسبب صغر سنّه فقد تعرّض كثيراً للاختيار والامتحان من قبل الأعداء والجهلاء، إلاّ انّ تجلّي العلوم الالهيّة على يد هذا الإمام الكريم كان بشكل باهر ورائع بحيث ينبغي ان تؤخذ إمامة هذا الإمام الجليل شاهداً ومؤيّداً لنبوّة يحيى وعيسى، لا أن تؤخذ نبوّة هذين النبيّين الكريمين شاهداً على إمامة هذا الإمام الجليل.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) ـ سورة مريم، الآية: 12.

(2) ـ سورة مريم، الآية: 29 ـ 30.

 

ولادة الإمام:

كان قد مرّ من عمر الإمام الثّامن عليّ بن موسى الرّضا (عليه السلام) اكثر من اربعين عاماً لكنّه لم يُرزق بولد، فكان هذا الامر محزنا ومقلقاً للشّيعة ، حيث كانوا يعتقدون (حسب الرّوايات الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)) بأنّ الإمام التّاسع سيكون ابن الإمام الثّامن، ولهذا كانوا ينتظرون بفارغ الصّبر ان يمّن الله تعالى على الإمام الرّضا (عليه السلام) بولد، حتّى انّهم في بعض الاحيان كانوا يذهبون الى الإمام (عليه السلام)ويطلبون منه ان يدعوا الله سبحانه بان يرزقه ولداً، والإمام (عليه السلام) يسلّيهم في الجواب ويقول لهم:

« انّ الله سوف يرزقني ولداً يكون الوارث لي والإمام من بعدي »(1).

واخيراً ولد الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) في اليوم العاشر من شهر رجب عام «195» هجريّة قمريّة(2).

وقد سُمّي بـ«محمّد»، وكنيته «أبو جعفر»، وأشهر ألقابه « التقيّ » و« الجواد ».

وأشاعت ولادته الفرح والسّرور في المجتمع الشّيعيّ، وأدّت الى تقوية الايمان والاعتقاد، وذلك لانّ التّرديد الّذي كان من الممكن ان يطرأ على قلوب بعض الشّيعة بسبب تأخّر ولادة هذا الإمام الكريم قد زال تماماً.

أمّا والدة الإمام الجواد فاسمها «سبيكة»، وقد سمّاها الإمام الرّضا (عليه السلام) بـ «خيزران».

وتنحدر هذه السّيّدة الكريمة من أسرة «مارية القبطية»(3) زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعدّ من أفضل نساء عصرها في الفضائل الأخلاقيّة ، وفي احدى الرّوايات انّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد سمّاها بـ«خيرة الاُماء»(4)، وقد بيّن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) قبل ان تدخل هذه السيّيّدة الى بيت الإمام الرّضا (عليه السلام) بعدّة سنوات بعض خصائصها وميزاتها، وأرسل اليها سلاماً بواسطة احد أصحابه وهو «يزيد بن سليط»(5).

تقول «حكيمة» أخت الإمام الرّضا (عليه السلام): عند ولادة الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) طلب منّي اخي أن أكون الى جانب «خيزران»، وفي اليوم الثّالث من ولادة هذا الطّفل فقد فتح عينيه ونظر الى السّماء ثمّ التفت يميناً وشمالاً وقال:

«اشهد ان لا اله اِلا الله وأشهد ان محمّداً رسول الله»، ولمّا لا حظت هذا الامر العجيب نهضتُ خائفة مضطربة وذهبت الى اخي ونقلت له ما شاهدته، فقال الإمام: إنّ ما سوف ترونه منه بعد ذلك اكثر مما رأيتموه لحدّ الان(6).

 

يقول «ابو يحيى الصّنعاني»:

كنت عند الإمام الرّضا (عليه السلام) فجاءوا اليه بالإمام الجواد وكان طفلاً صغيراً، فقال:

«إن هذا المولود لم يولد للشّيعة مولود اكثر بركة منه»(7).

ولعلّ قول الإمام هذا كان بسبب ما اشرنا اليه آنفاً، وذلك لانّ ولادة الإمام الجواد قد ازالت القلق من قلوب الشّيعية حيث كان يحزنهم ان لا يكون للإمام الرّضا (عليه السلام) خليفة، وانتشلت ايمانهم من ان يتلوّث بالشّك والتّرديد.

يقول (النّوفليّ): عند ما سافر الإمام الرّضا (عليه السلام) الى خراسان قلت له: أتأمرني بشيء؟

قال: عليك ان تتبّع من بعدي ولدي «محمّداً»، فأنا ذاهب الى سفر لا اعود منه(8).

يقول «محمّد بن أبي عباد» وهو كاتب الإمام الرّضا (عليه السلام): كان الإمام (عليه السلام) يذكر ابنه محمّداً بكنيته([9])، واذا وصلته رسالة من الإمام الجواد (عليه السلام) قال (عليه السلام): «كتب اليّ أبو جعفر...»، واذا كتبتُ رسالة لابي جعفر (بأمر من الإمام الرّضا (عليه السلام)) فانّه كان يخاطبه با كبار واحترام. والرّسائل الّتي تأتي من الإمام الجواد (عليه السلام) كانت في غاية البلاغة والجمال.

ويقول«محمّد بن أبي عباد» أيضاً: سمعت الإمام الرّضا (عليه السلام) يقول: أبو جعفر وصيّي من بعدي وخليفتي من أهل بيتي(10).

يقول «معمر بن خلاد»: كان الإمام الرّضا (عليه السلام) قد ذكر موضوعاً فقال: ما الدّاعي لان تسمعوا مني هذا الموضوع؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته في محلّي وجعلته في مكاني (فأيّ سؤال او مشكلة تواجهكم فهو يجيبكم عليها)، فنحن أهل بيت يرث فيه الأبناء ما لدى الآباء (من حقائق ومعارف وعلوم) بصورة تامّة(11). (والمقصود هو انّ جميع علوم الإمامة ومقاماتها تصل الى الإمام اللاحق من الإمام السّابق، وهذا مختصّ بالائمة(عليهم السلام) ولا يشمل سائر أولادهم).

ينقل «الخيراني» عن ابيه أنّه قال: كنت عند الإمام الرضّا (عليه السلام) في خراسان فسأله شخص: لو حدث لك أمر فلمن نرجع؟

قال: ارجعوا لولدي أبي جعفر.

وكأنّ السائل لم يكن يرى عمر الإمام الجواد كافيا (وهو يفكّر كيف يمكن ان يتولّى الإمامة طفل صغير) فقال الإمام الرضا (عليه السلام): « لقد بعث الله تعالى عيسى بالنبوّة والرسالة بينما كان عمره أقلّ من العمر الحاليّ لابي جعفر »(12).

يقول «عبد الله بن جعفر»: ذهبت مع «صفوان بن يحيى» الى الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان الإمام الجواد حاضراً وعمره ثلاث سنين ، فسألنا الإمام: لو جرى لك حادث فمن هو خليفتك؟

فأشار الإمام الى أبي جعفر وقال: ولدي هذا.

قلنا: وهو بهذا العمر؟

قال: اجل بهذا العمر وهذا السنّ، والله تعالى جعل عيسى (عليه السلام) حجّته بينما لم يصل حتّى الى ثلاث سنين(13).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) ـ البحار ج 50 ص 15، عيون المعجزات ص 107.

(2) ـ وبناءً على قول آخر كانت ولادته في شهر رمضان المبارك.

(3) ـ مارية القبطية أمّة تزوّجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي امّ ابراهيم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(4) ـ الكافي: ج 1 ص 323.

(5) ـ الكافي: ج 1 ص 315.

(6) ـ المناقب: ج 4 ص 394.

(7) ـ الانوار الهية ص 125، الكافي: ج 1 ص 321، الارشاد للمفيد ص 299.

(8) ـ عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 216.

(9) ـ من المعروف انه اذا اريد احترام شخص فهم يذكرونه بكنيته.

(10) ـ عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 240.

(11) ـ الكافي: ج 1 ص 321، الارشاد للمفيد: ص 298.

(12) ـ الكافي: ج 1 ص 322، الارشاد للمفيد: ص 299.

(13) ـ كفاية الأثر ص 324، البحار: ج 50، ص 35 (وقد نقلنا هذه الرواية بمعناها لا بنصّها  ) .

 

إمامة هذا الإمام الكريم:

انّ الإمامة كالنبوّة موهبة الهيّة يمنحها الله تعالى لمن هو أهل لها من عباده المصطفين، ولا دخل للعمر في هذه الموهبة النّادرة. ولعلّ من يستبعد نبوّة وإمامة الطّفل الصّغير او يتصوّرها مستحيلة قد خلط بين الأمور الإلهيّة السّماويّة والشّؤون العاديّة، وتصوّرها بشكل واحد، بينما الواقع ليس كذلك، فالإمامة والنبوّة مرتبطة بإرادة الله تعالى، وهو يمنحها للعباد الّذين يعلم (بعلمه اللا محدود  ) بناءً على مصالح معيّنة ـ لطفل صغير السنّ فيبعثه نبيّاً أو يندبه للإمامة وهو في مرحلة الطّفولة.

وقد وصل الى مقام الإمامة الشّامخ الإمام الجواد (عليه السلام) وهو في سنّ الثّامنة أو التّاسعة.

 

يقول «معلّى بن محمّد»:

بعد استشهاد الإمام الرضّا (عليه السلام) رأيت الإمام الجواد فنظرت الى قدّه لاصف قامته لأصحابنا فقعد ثمّ قال يا معلّى انّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النّبوّة فقال: «وآتيناه الحكم صبيّاً»(1).

 

يقول محمّد بن الحسن بن عمّار:

كنت عند علي بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين اكتب عنه ما يسمع من اخيه (يعني ابا  الحسن (عليه السلام)) اذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن علي الرّضا (عليه السلام) المسجد (مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)) فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): يا عمّ اجلس رحمك الله فقال: يا سيّدي كيف اجلس وانت قائم، فلّما رجع عليّ بن جعفر الى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال اسكتوا اذا كان الله عزّ وجلّ (وقبض على لحيته) لم يؤهّل هذه الشّيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أُنكر فضله ؟! نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا له عبد(2) .

يقول عمر بن فرج: قلت للإمام الجواد (عليه السلام): إنّ شيعتك تدّعي انّك تعلم كلّ ماء في دجلة ووزنه؟ وكنّا على شاطىء دجلة، فقال (عليه السلام): يقدر الله تعالى ان يفوّض علم ذلك الى بعوضة من خلقه ام لا؟ قلت: نعم يقدر، فقال: أنا اكرم على الله تعالى من بعوضة ومن اكثر خلقه(3).

 

ويقول عليّ بن حسان الواسطي:

حملت معي اليه (للإمام الجواد حيث كان صغير السنّ) من الالة الّتي للصّبيان بعضاً من فضّة، وقلت اتحف مولاي أبا جعفر (عليه السلام) بها فلّما تفرّق النّاس عنه عن جواب لجميعهم قام فمضى الى صريا واتبعته فلقيت موفّقاً فقلت: استأذن لي على أبي جعفر (عليه السلام) فدخلت وسلمت فردّ عليّ السّلام وفي وجهه الكراهة ولم يأمرني بالجلوس فدنوت منه وفرّغت ما كان في كمّي بين يديه فنظر اليّ نظر مغضب ثمّ رمى يميناً وشمالاً ثمّ قال: ما لهذا خلقني الله، ما أنا واللّعب؟ فاستعفيته فعفى عنّي فخرجت(4).

1 ـ جانب من اخباره العيبيّة ومعجزاته: بعد استشهاد الإمام الرّضا (عليه السلام) سافر الى مكّة لاداء مراسم الحجّ ثمانون شخصاً من علماء وفقهاء بغداد والمدن الاخرى، وفي أثناء الطّريق عرّجوا على المدينة للقاء الإمام الجواد (عليه السلام) أيضاً، فنزلوا في بيت الإمام الصّادق (عليه السلام) حيث كان خاليا آنذاك، وكان الإمام (عليه السلام) طفلاً فدخل الى مجلسهم وعرّفه للحاضرين شخص يسمّى «موفق» فنهضوا جميعاً احتراما له وسلّموا عليه. وعندئذ طرحوا أسئلتهم وكان الإمام يجيب عليها بشكل رائع ففرح الجميع (حيث شاهدوا فيه سيماء الإمامة واطمأنّوا بإمامته اكثر) وأثنوا عليه ودعوا له...

 

يقول أحد هؤلاء وهو اسحاق بن اسماعيل:

في السّنة التي خرجت الجماعة الى أبي جعفر (عليه السلام) أعددت له في رقعة عشرة مسائل لاسأله عنها وكان لي حمل فقلت: اذا أجابني عن مسائلي سألته ان يدعو الله لي ان يجعله ذكراً، فلّما سألته النّاس قمت والرّقعة معي لاسأله عن مسائلي فلّما نظر اليّ قال لي: يا ابا يعقوب سمّه احمد، فولد لي ذكر فسمّيته احمد، فقلت: شكراً لله، لا شكّ انّ هذا هو حجّة الله(5).

2 ـ يقول عمران بن محمّد الاشعرّي: دخلت على الإمام الجواد (عليه السلام) وقضيت حوائجي وقلت له: انّ ام الحسن تقرئك السّلام وتسألك ثوباً من ثيابك تجعله كفناً لها، قال: قد استغنت عن ذلك. فخرجت ولست ادري ما معنى ذلك، فأتاني الخبر بأنها قد ماتت قبل ذلك بثلاثة عشر يوماً أو أربعة عشر يوماً(6).

3ـ عن أحمد بن حديد قال: خردت مع جماعة حجّاجاً فقطع بعض الطريق فأتيته الى المنزل فاخبرته بالّذي اصابنا فأمر لي بكسوة واعطاني دنانير، وقال: فرقّها على اصحابك، على قدر ما ذهب، فقسّمتها بينهم، فإذا هي على قدر ما ذهب منهم لا أقل ولا أكثر(7).

4ـ عن محمّد بن سهل القمّي انّه قال: كنت مجاوراً بمكّة فصرت الى المدينة فدخلت على الإمام الجواد (عليه السلام) واردت أن أسأله عن كسوة يكسونيها فلم يتّفق أن أسأله حتى ودّعته وأردت الخروج فقلت اكتب اليه وأسأل. قال: فكتبت اليه الكتاب فصرت الى المسجد على أن اصلّي ركعتين واستخير الله مائة مرّة، فان وقع في قلبي ان ابعث اليه بالكتاب بعثت، وإلاّ خرقته، ففعلت فوقع في قلبي ان لا ابعث فخرقت الكتاب، وخرجت من المدينة، فبينما أنا كذلك اذ رأيت رسولاً ومعه ثياب في منديل يتخلّل القطار ويسأل عن محمّد بن سهل القمي حتّى انتهى اليّ، فقال: مولاك بعث اليك بهذا واذا ملاءتان...(8).

 

وأثمرت الشّجرة:

استقدم المأمون الإمام الجواد (عليه السلام) الى بغداد وزوّجه ابنته، اِلاّ انّ الإمام (عليه السلام) لم يبق في بغداد بل عاد مع زوجته الى المدينة.

وعند العودة شيّع جماعة من النّاس الإمام الى خارج بغداد للوداع والتّجليل، فوصلوا الى مسجد قديم عند حلول وقت صلاة المغرب فدخل الإمام الى ذلك المسجد ليقيم صلاة المغرب، وكانت في ساحة المسجد سدرة يابسة ليس عليها ورق، فدعا الإمام بماء وتهيّأ تحت السّدرة فعاشت السّدرة وأورقت وحملت من عامها(9).

ونقل عن المرحوم الشّيخ المفيد انّه بعد سنين عديدة شاهد بنفسه هذه الشّجرة وأكل من ثمرها.

6 ـ الاخبار باستشهاد الإمام الرّضا (عليه السلام): عن اميّة بن عليّ قال : كنت بالمدينة وكنت اختلف الى الإمام الجواد (عليه السلام)، والإمام الرّضا بخراسان، وكان أهل بيته وعمومة من ابيه يأتونه ويسلّمون عليه، فدعا يوماً الجارية فقال: قولي لهم يتهيّؤون للمأتم، فلّما تفرّقوا قالوا : ألا سألناه مأتم من؟ فلّما كان من الغد فعل مثل ذلك، قالوا: مأتم من ؟ قال: مأتم خير من على ظهرها، فأتانا خبر الإمام الرّضا (عليه السلام) بعد ذلك بأيّام فاذا هو قدمات في ذلك اليوم(10).

7 ـ عن محمّد بن أبي العلاء قال: سمعت يحيى بن اكثم (قاضي سامراء) (وهو من اعداء أهل بيت النّبوّة والإمامة) بعد ما جهدت به وناظرته وحاورته وواصلته وسألته عن علوم آل محمّد فقال: بينا أنا ذات يوم دخلت اطوف بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأيت محمّد بن علي الرّضا (عليهما السلام) يطوف به، فناظرته في مسائل عندي فأخرجها اليّ، فقلت له: والله اني اريد ان اسألك مسألة واني والله لاستحيي من ذلك، فقال لي: أنا اخبرك قبل ان تسألني، تسألني عن الإمام، فقلت : هو والله هذا ، فقال: انا هو، فقلت: علامة؟ فكان في يده عصا فنطقت وقالت: انّ مولاي إمام هذا الزّمان وهوالحجّة(11).

8 ـ انقاذ الجار: روي عن علي بن جرير انّه قال: كنت عند الإمام الجواد (عليه السلام) جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم اليه ويقولون: انتم سرقتم الشّاة، فقال الإمام (عليه السلام): ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم، الشاة في دار فلان فاذهبوا فأخرجوها من داره، فخرجوا فوجدوها في داره، وأخذوا الرّجل وضربوه وخرقوا ثيابه، وهو يحلف انّه لم يسرق هذه الشّاة، الى ان صاروا إلى الإمام الجواد (عليه السلام) فقال: ويحكم ظلمتم الرّجل فانّ الشّاة دخلت داره وهو لا يعلم بها، فدعاه فوهب له شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه(12).

9 ـ اطلاق سراح السّجين: عن علي ابن خالد قال: كنت بالعسكر (سامّراء) فبلغني ان هناك رجلاً محبوساً أتي به من ناحية الشّام مكبولاً وقالوا: انّه تنبّأ، قال: فأتيت الباب وداريت البوّابين حتّى وصلت اليه فاذا رجل له فهم وعقل فقلت له: ما قصّتك؟ فقال : انّي كنت بالشّام اعبد الله في الموضع الّذي يقال انه نصب فيه رأس الحسين (عليه السلام) فبينا انا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب اذكر الله تعالى اذ رأيت شخصاً بين يدي فنظرت اليه فقال : قم، فقمت فمشى بي قليلاً فاذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: أتعرف هذا المقام؟ قلت: نعم هذا مسجد الكوفة، قال فصلّى وصلّيت معه، ثمّ انصرف فانصرفت فمشى بي قليلاً فاذا نحن في مسجد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم على الرّسول وصلّى وصلّيت معه، ثمّ خرج وخرجت معه فمشى قليلاً فاذا أنا بمكّة فطاف بالبيت وطفت معه، ثمّ خرج ومشيت معه قليلاً فاذا أنا بموضعي الّذي كنت اعبد الله بالشّام وغاب الشّخص عن عيني، فبقيت معجباً حولاً ممّا رأيت.

فلّما كان في العام المقبل رأيت ذلك الشّخص فاستبشرت به ودعاني فأجبته ففعل كما فعل في العام الماضي، فلّما اراد مفارقتي بالشّام قلت له: سألتك بحقّ الّذّي اقدرك على ما رأيت منك اِلاّ أخبرتني من أنت؟ قال: انا محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)، فحدثت من كان يصير اليّ بخبره، فتراقى ذلك الى محمّد بن عبد الملك الزيّات فبعث اليّ من أخذني وكبّلني في الحديد وحملني الى العراق وحبست كما ترى وادّعي عليّ المحال، فقلت له: ارفع عنك القصّة الى محمّد بن عبد الملك؟ قال افعل فكتبت عنه قصّة شرحت فيها حاله فرفعتها الى محمّد بن عبد الملك، فوقّع في ظهرها: قل له: الّذي أخرجك من الشّام في ليلة الى الكوفة ومن الكوفة الى المدينة ومن المدينة الى مكّة وردّك من مكّة الى الشّام ان يخرجك من حبسك هذا.

قال عليّ بن خالد: فغمّني ذلك من امره، فانصرفت محزوناً عليه ، فلّما كان من الغد باكرت الى الحبس لاعلمه الحال وآمره بالصّبر والعزاء فوجدت الجند وأصحاب الحرس وخلقاً عظيماً يهرعون، فسألت عن حالهم فقيل لي: المتنبّىء المحمول من الشّام افتقد البارحة من الحبس، فلا يدرى أخسفت به الأرض أو اختطفه الطّير، وكان عليّ بن خالد هذا زيديّاً فقال بالإمامة لمّا رأى ذلك وحسن اعتقاده(13).

10 ـ يقول ابو الصّلت الهروي: وهو من اقرب اصحاب الإمام الرضّا (عليه السلام) اليه وقد اودع السّجن بأمر من المأمون بعد استشهاد الإمام الرّضا (عليه السلام):

فحبست سنة فضاق عليّ الحبس، وسهرت اللّيلة ودعوت الله تعالى بدعاء ذكرت فيه محمّداً وآله صلوات الله عليهم وسألت الله تعالى بحقّهم ان يفرّج عنّي.

فلم استتمّ الدّعاء حتّى دخل عليّ الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) فقال: يا ابا الصّلت ضاق صدرك؟ فقلت: أي والله، قال قم فأخرجني ثمّ ضرب يده الى القيود التّي كانت ففكّها وأخذ بيدي وأخرجني من الدّار والحراسة والغلمة يرونني، فلم يستطيعوا ان يكلّموني وخرجت من باب الدّار ثمّ قال لي: امض في ودائع الله فانّك لن تصل اليه ولا يصل اليك ابداً، فقال أبو الصّلت: فلم التق مع المأمون الى هذا الوقت(14).

11 ـ في مجلس المعتصم العبّاسيّ: يقول زرقان، وكان صديقاً حميماً لابن أبي دُواد: رجع ابن أبي دواد (وهو من قضاة بغداد في عهد المأمون والمعتصم والواثق والمتوكّل) ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال وددت اليوم انيّ قد مُتّ منذ عشرين سنة، قال قلت له:

ولم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الاسود ابي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له: وكيف كان ذلك؟ قال:انّ سارقاً اقرّ على نفسه بالسّرقة، وسأل الخليفة تطهيره باقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمّد بن عليّ، فسألنا عن القطع في أي موضع يجب ان يقطع؟ قال: فقلت: من الكرسوع (اي طرف الزند الّذي يلي الخنصر الناتىء عند الرّسغ ).

قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: قلت لان اليد هي الاصابع والكف الى الكرسوع، لقول الله في التيّمم:

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُم وايديكُمْ)(15).

 

واتفق معي في ذلك قوم.

وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق. قال: وما الدّليل على ذلك ؟ قالوا: لانّ الله لمّا قال:

(فَاغْسِلُوا وُجُوهِكُمْ واَيديَكم اِلى المَرافِقِ)(16).

في الوضوء دلّ ذلك على انّ حدّ اليد هو المرفق.

قال: فالتفت الى محمّد بن عليّ (عليه السلام) فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين.قال: دعني ممّا تكلّموا به ! أىّ شيء عندك؟ قال اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله لما اخبرت بما عندك فيه.

فقال: أما اذا أقسمت عليّ بالله اني اقول انّهم اخطأوا فيه السنّة ، فان القطع يجب ان يكون من مفصل اصول الاصباع فيترك الكف (والمقصود هو قطع الاصباع الاربعة دون الابهام). قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السّجود على سعة أعضاء: الوجه واليدين والرّكبتين والرّجلين، فاذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى:

(وَاَنِّ الْمَساجِدَ للهِِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ اَحَداً)(17).

يعني به هذه الاعضاء السّبعة الّتي يسجد عليها، وما كان لله لم يقطع(18).

قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السّارق من مفصل الاصابع دون الكفّ.

قال ابن دواد: قامت قيامتي وتمنّيت انيّ لم أك حيّاً...(19).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) ـ الارشاد للمفيد ص 306.

(2) ـ الكافي: ج 1 ص 322.

(3) ـ البحار: ج 50 ص 100، عيون المعجزات ص 113.

(4) ـ دلائل الإمامة 212، البحار: ج 50 ص 59.

(5) ـ عيون المعجزات: ص 109، ملخصاً.

(6) ـ البحار: ح 50 ص 43، خرائج الراوندي: ص 237.

(7) ـ البحار: ح 50 ص 44، خرائج الراوندي: ص 237.

(8) ـ خرائج الرواندي: ص 237، البحار: ج 50 ص 44.

(9) ـ ليرجع من احبّ التّفصيل الى نور الأبصار للشبلنجي ص 179، واحقاق الحق: ج 12 ص 424، وارشاد المفيد: ص 304، والمناقب: ج 4 ص 390.

(10) ـ اعلام الورى: ص 350.

(11) ـ الكافي: ج 1 ص 353، البحار: ج 50 ص 68.

(12) ـ البحار: ج 50 ص 47، نقلاً عن خرائج الراوندي.

(13) ـ ارشائ المفيد: ص 304، اعلام الورى: ص 347، احقاق الحق: ج 12 ص 427، الفصول المهمّة: ص 289.

(14) ـ منتهى الامال، قسم حياة الإمام الرّضا (عليه السلام): ص 67، عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 247 ، البحار: ج 49 ص 303.

(15) ـ سورة المائدة، الاية: 5.

(16) ـ سورة المائدة، الاية: 5.

(17) ـ سورة الجنّ، الاية: 18.

(18) ـ المسجد ( بكسر الجيم أو بفتحها ، وجمعه مساجد ) بمعنى محل السّجدة ، وكما انّ بيوت الله والامكنة التي توضع عليها الجبهة هي محّال للّسجود فكذا نفس الجبهة والاعضاء السّتة الاخرى التي نسجد بها فهي تعتبر محالّ للسّجود أيضاً ، ومن هنا فقد فُسّرت « المساجد » في هذه الرّواية بمعنى الاعضاء السّبعة التي نسجد بها . وفي رواية اخرى عن الإمام الصّادق (عليه السلام) واردة في كتاب الكافي ورواية في تفسير عليّ بن ابراهيم القمي فُسّرت « المساجد » فيهما بالاعضاء السّبعة أيضاً . وقد فسّر الشّيخ الصّدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه « المساجد » بأعضاء السّجود السّبعة أيضاً . وقد نقل هذا المعنى عن « سعيد بن جبير » و« الزّجاج » و« الفرّاء » كذلك .

ولا بدّ من الالتفات الى أن تفسير « المساجد » بالاعضاء السّبعة لو لم يكن صحيحاً لاعترض الفقهاء الذين كانوا حاضرين في مجلس المعتصم على كلام الإمام . ولمّا كان المعتصم نفسه عربيّاً ويفهم معنى « المساجد » ، فلو كان في المعنى الّذي ذكره الإمام لها اشكال لاعترض عليه المعتصم . لكنّه لمّا لم يكن اعتراض لا من جانب الفقهاء الحاضرين في المجلس ولا من جانب المعتصم ايضاً على تفسير الإمام ، وقد اذعن له المعتصم وعمل بمضمونه فانّه يُعرف انّ المساجد كانت تعني عندهم اعضاء السّجود السّبعة او على اقلّ تقدير يعتبر هذا احد معانيها .

( ليرجع من شاء التّفصيل الى تفسير الصّافي: ج 2 ص 752 ، وتفسير نور الثّقلين: ج 5 ص 440 ، وتفسير مجمع البيان: ج 10 ص 372 ) .

(19) ـ تفسير العيّاشي: ج 1 ص 319، البحار: ج 50 ص 5.

 

مؤامرة الزّواج:

ذكرنا أثناء استعرضانا لحياة الإمام الرضّا (عليه السلام) انّ المأمون حاول ان يظهر نفسه بمظهر المحبّ لأهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لاحباط الاضطرابات الموجودة في المجتمع ولتهدئة ثورة العلويين وجلب حبّ الشّيعة والايرانيّين، ففرض ولاية العهد على الإمام الرّضا (عليه السلام)، لتنفيذ هذا الهدف من ناحية وجعل الإمام تحت الرقابة المباشرة من ناحية اخرى.

ومن جهة اخرى فقد كان بنو العبّاس غاضبين من أسلوب المأمون هذا وخائفين من احتمال انتقال الخلافة من بني العبّاس الى العلوييّن، ولهذا فقد نهضوا لمخالفته، ولمّا دُسّ السّمّ للإمام بواسطة المأمون واستشهد فقد اطمأنّوا وفرحوا واقبلوا على المأمون .

وقد حاول المأمون التّخفّي بقضيّة دسّ السّمّ للإمام وقام بذلك في سرّية تامّة وبذل كلّ جهده لئلا يطلّع المجتمع على هذه الجريمة النّكراء، ولكي يخفي جريمته تظاهر بالحزن والعزاء وأقام ثلاثة ايّام على قبر الإمام وآكل الخبز والملح، وعدّ نفسه المعزّى في هذه المصيبة، ولكنّه مع كلّ هذا التّخفيّ والرّياء فقد انكشف اخيراً للعلوييّن انّ قاتل الإمام لم يكن سوى المأمون، ولهذا تألّموا كثيراً وحقدا عليه. ومرة أخرى رأى المأمون الخظر يهدّد حكومته، وللوقاية والحماية فقد دبّر مؤامرة اخرى، واظهر للإمام الجواد (عليه السلام) حنانه وحبّه، ولكي يثبت هذا الامر عمليّاً وفي واقع الحياة فقد زوّجه من ابنته، وحاول ان يستفيد من هذه الصّلة ما كان يطلبه من فرض ولاية العهد على الإمام الرّضا (عليه السلام).

وهكذا فقد نقل الإمام الجواد (عليه السلام) عام 204 هجريّة (أي بعد عام واحد من استشهاد الإمام الرضا (عليه السلام)) من المدينة الى بغداد وزوّجه ابنته «امّ الفضل».

يقول الريّان بن شبيب: لمّا اراد المأمون ان يزوّج ابنته امّ الفضل أبا جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام) بلغ ذلك العبّاسيّين فغلظ عليهم، واستنكروه منه، وخافوا انّ ينتهي الامر معه الى ما انتهى مع الرّضا (عليه السلام) فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الادنون منه، فقالوا ننشدك الله ان تقيم على هذا الامر الّذي عزمت عليه من تزويج ابن الرّضا فانّا نخاف ان يخرج به عنّا أمرقد ملّكناه الله عزّ وجلّ وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الرّاشدون قبلك، من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرّضا (عليه السلام) ما عملت فكفانا الله المهمّ من ذلك فالله الله أن تردّنا الى غم قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرّضا واعدل الى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل ابي طالب فأنتم السّبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرّحم، واعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرّضا (عليه السلام) ولقد سألته ان يقوم بالامر (أي الخلافة) وانزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

وأمّا أبو جعفر محمّد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنّه، والاعجوبة فيه ذلك، وأنا أرجو ان يظهر الناس ما قد عرفته منه، فيعلمون انّ الرّأي ما رأيت فيه .

فقالوا له: انّ هذا الفتى وان راقك من هديه فانّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدب ثمّ اصنع ماتراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم انيّ أعرف بهذا الفتى منكم وانّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه والهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدّين والادب عن الرّعايا الناّقصة عن حدّ الكمال، فان شئتم فأمتحنوا ابا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت لكم من حاله.

وقالوا: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولانفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشّريعة، فان اصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصّة والعامّة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب فى معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى اردتم.

فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي الزّمان على ان يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا الى المأمون وسألوه ان يختار لهم يوماً للاجتماع فأجابهم الى ذلك.

فاجتمعوا في اليوم الذي اتفّقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون ان يفرش لابي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس فى دست متصّل بدست أبي جعفر عليه الصّلاة والسّلام.

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي أن أسأل ابا جعفر عن مسألة ؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): سل ان شئت.

قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): قتله في حلّ أو حرم، عالماً كان المحرم او جاهلاً قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطّير كان الصّيد أم من غيرها، من صغار الصّيد أم من كبارها، مصرّاً على ما فعل أونادماً، في اللّيل كان قتله للصيّد أم في النّهار، محرماً كان بالعمرة اذ قتله أو بالحجّ كان محرما ؟

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره. فقال المأمون: الحمد لله على هذه النّعمة والتّوفيق لي في الرّأي ثمّ نظر الى أهل بيته فقال لهم : أعترفتم الان ما كنتم تنكرونه؟ ثمّ أقبل على أبي جعفر (عليه السلام)فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ فقال: نعم. فقال له المأمون: اخطب لنفسك جعلت فداك قد رضيتك لنفسي وأنا مزّوجك أمّ الفضل ابنتي وان رغم قوم لذلك .

فقال أبو جعفر (عليه السلام): الحمد لله إقراراً بنعمته، ولا اله اِلا الله اخلاصاً لوحدانيّته وصلّى الله على محمّد سيّد بريّته، والاصفياء من عترته.

أمّا بعد فقد كان من فضل الله على الانام ان اغناهم بالحلال عن الحرام، وقال سبحانه: {وَاَنْكِحُوا الاَيامى مِنْكُمْ والصّالِحينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَاِمائِكُمْ اِنْ يَكُونُوا فُقراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه وَاللهُ واسعٌ عليمٌ }.

ثمّ انّ محمّد بن عليّ بن موسى يخطب امّ الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصّداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد عليها السّلام وهو خمس مائة درهم جياداً فهل زوّجته بها على هذا الصدّاق المذكور؟

فقال المأمون: نعم قد زوّجتك يا أبا جعفر امّ الفضل ابنتي على الصّداق المذكور، فهل قبلت النّكاح؟

قال أبو جعفر (عليه السلام): قد قبلت ذلك ورضيت به. فأمر المأمون ان يقعد النّاس على مراتبهم في الخاصّة والعامّة...

ثمّ امر المأمون... ووضعت الموائد فأكل النّاس وخرجت الجوائز الى كلّ قوم على قدرهم.

فلّما تفرّق النّاس وبقي من الخاصّة من بقي، قال المأمون لابي جعفر (عليه السلام) أن رأيت جعلت فداك ان تذكر الفقه الّذي فصّلته من وجوه من قتل المحرم لنعلمه ونستفيده.

فوافق الإمام على ذلك وشرح الموضوع بالتّفصيل...(1).

فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر احسن الله اليك فان رأيت ان تسأل يحيى عن مسألة كما سألك فقال أبو جعفر (عليه السلام): ليحيى: أسألك ؟ قال: ذلك اليك جعلت فداك فان عرفت جواب ما تسألني واِلاّ استفدته منك.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن رجل نظر الى امرأة في اوّل النّهار فكان نظره اليها حراماً عليه، فلّما ارتفع النّهار حلّت له، فلّما زالت الشّمس حرمت عليه، فلّما كان وقت العصر حلّت له، فلّما غربت الشّمس حرمت عليه، فلّما دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلّما كان وقت انتصاف اللّيل حرمت عليه، فلّما طلع الفرج حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟

فقال له يحيى بن اكثم: والله لا اهتدي الى جواب هذا السّؤال ولا اعرف الوجه فيه، فان رأيت ان تفيدناه.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذه أمة لرجل من النّاس، نظر اليها أجنبي في أوّل النّهار فكان نظره اليها حراماً، فلّما ارتفع النّهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلّما كان عند الظّهر اعتقها فحرمت عليه، فلّما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلّما كان وقت المغرب ظاهر منها(2)فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الاخرة كفّر عن الظّهار فحلّت له، فلّما كان نصف اللّيل طلّقها واحدة، فحرمت عليه، فلّما كان عند الفجر راجعها فحلّت له.

قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدّم من السّؤال؟ قالوا: لا والله…، فقال: و يحكم انّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وانّ صغر السّن فيهم لا يمنعهم من الكمال...(3)

ولابدّ من الانتباه الى انّ المأمون مع كلّ تظاهره بالحبّ وريائه الكاذب بالصّداقة لم يكن له ايّ هدف من هذا التّزوج سوى اهدافه السيّاسيّة، ويمكننا ان نحدّد عدّة اهداف معينّة كان يقصدها:

1 ـ بارساله ابنته الى بيت الإمام (عليه السلام) قد جعله دائماً تحت مراقبة شديدة وأصبح مطلعاً على نشاطاته (والحقيقة ان ابنة المأمون قد قامت بمهمّة التّجسّس ونقل الاخبار للمأمون كما يشهد التّاريخ بذلك).

2 ـ كان يهدف من هذا الزّواج ان يجر الإمام الى بلاطه المرفّه المنحطّ بحيث يتعلّم منه اللّهو واللعب والفسق والفجور، فتتحطم بذلك عظمة الإمام ويسقط فى انظار النّاس عن مقام العصمة والإمامة ويخّف وزنه.

 

يقول محمّد بن الرّيان:

احتال المأمون على أبي جعفر (عليه السلام) بكّل حيلة فلم يمكنه فيه شيء فلما أراد ان يبني عليه ابنته دفع اليّ مائة وصيفة من أجمل ما يكنّ الى كل واحدة منهم جاماً فيه جوهر يستقبلون ابا جعفر (عليه السلام) اذا قعد في موضع الاختان فلم يلتفت اليهن.

وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللّحية، فدعاه المأمون فقال: للمأمون ان كان في شيء من امر الدّنيا فأنا اكفيك امره فقعد بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) فشهق مخارق شهقة اجتمع اليه أهل الدّار، وجعل يضرب بعوده ويغنيّ، فلّما فعل ساعة واذا أبو جعفر (عليه السلام) لا يلتفت اليه ولا يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع راسه اليه وقال: اتقّ الله يا ذا العُثنون ! قال: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيده الى ان مات(4).

3 ـ كما اشرنا من قبل فالمأمون يهدف من هذا الزّواج ان يكفّ العلويّين من الثّورة ضدّه والاعتراض عليه، ويظهر نفسه بمظهر المحّب والصديق لهم.

4 ـ ومن جملة أهدافه هو خداع العامّة، فقد كان يصرّح احياناً : انني أقدمت على هذا التّزويج حتى يكون لابي جعفر (عليه السلام) من ابنتي طفل فأصبح جدّ طفل من نسل النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ بن أبي  طالب (عليه السلام)(5) !

ومن حسن الحظّ ان لعبة المأمون هذه لم تنجح، وذلك لان ابنته لم تلد ايّ مولود، وجميع أبناء الإمام الجواد (عليه السلام) (الإمام العاشر علي الهادي (عليه السلام) وموسى المبرقع والحسين وعمران وفاطمة وخديجة وام كلثوم وحكيمة) قد ولدوا من زوجة اخرى للإمام وهي امّة حسنة السّيرة جليلة القدر تُسّمى «سمانة المغربيّة»(6).

وعلى كلّ حال فالمأمون الّذي كان يصرّ كثيراً على هذا الزّواج لم يكن يهدف منه الى شيء سوى اهدافه السّياسيّة، ومع انّ هذا الزّواج ملازم للحياة المرّفهة الرّغيدة لكنّه لم تكن له قيمة عند الإمام الجواد (عليه السلام) لانّه مثل آبائه الكرام لم يكن مهتمّاً بالدّنيا ولا يجذبه رزقها وبرقها، بل الحياة مع المأمون اساساً كانت مفروضة عليه وتحمل له الالام والغصص.

 

يقول الحسين المكاري:

دخلت على أبي جعفر ببغداد وهوعلى ما كان من امره، فقلت في نفسي: هذا الرّجل لا يرجع الى موطنه ابداً وما عرف مطعمه؟ قال: فأطرق رأسه ثمّ رفعه وقد اصفّر لونه فقال: يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم رسول الله احبّ اليّ ممّا تراني فيها(7) .

ولهذا السّبب لم يبق الإمام في بغداد وانّما عاد مع زوجته «امّ الفضل » الى المدينة، واستمّر على وضعه في المدينة حتى عام 220 هجريّ.

ومات المأمون في عام 218 هجريّ وحلّ محلّه في الحكم أخوه «المعتصم»، وفي عام 220 هجريّ جاء المعتصم بالإمام الى بغداد ليكون مراقباً له عن كثب، وكما ذكرنا من قبل فانّه اشركه في المجلس الّذي شُكّل لتعيين مقدار القطع من يد السّارق، وانتهى بفضيحة لقاضي بغداد (ابن أبي دواد) وللاخرين.

وبعد هذه القضيّة بعدّة أيام جاء «ابن أبي دُواد» للمعتصم وهو ممتلىء حسداً وغيظاً وقال:

انّي لاحب الخير لك وانصحك بانّ ما حدث قبل ايّام لم يكن في صالح حكومتك، لانّك في حضور جميع العلماء وأصحاب المناصب العالية في الدّولة رجحت فتوى ابي جعفر (الإمام الجواد) وهو الّذي يعتقد نصف المسلمين بانّه الخليفة وانّك غاصب لحقّه على فتاوى الاخرين، وقد شاع هذا الخبر بين النّاس وغدا برهاناً للشّيعة.

وهيّج كلامُ ابن أبي دواد هذا المعتصم الّذي كان مستعدّاً في ذاته لاي لون من ألوان العداء للإمام (عليه السلام) فوقع في نفسه ان ينشط لقتل الإمام، واخيراً فقد نفّذ رغبته المنحطة ودسّ السّمّ للإمام (عليه السلام)في آخر شهر ذي القعدة عام 220 هجري واستشهد الإمام نتيجةً لذلك.

ودفن الجثمان الطّاهر للإمام الجواد الى جانب قبر جدّه الكريم الإمام موسى بن جعفر في مقبرة قريش في بغداد(8)، صلّى الله عليه وعلى آبائه الطّاهرين.

ومزار هذين الإمامين الجليلين مشهور حاليّاً بـ «الكاظمين» ويحجّ اليه المسلمون من ارجاء العالم الإسلامي من قديم الأزمان.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) ـ انّ جواب الإمام مذكور بالتّفصيل في كتب الحديث.

(2) ـ كان الظهار يعدّ طلاقاً قبل الإسلام وفي العصر الجاهلي ومؤدّياً للحرمة الأدبية ، وقد تغيّر حكمه في الاسلام وأصبح موجباً للحرمة والكفّارة فحسب . والظّهار هو ان يقول المرء لزوجته : انت عليّ كظهر امّي أو كظهر اختي أو كظهر ابنتي . وعندئذ يتعيّن عليه اداء الكفّارة حتّى تحلّ له زوجته من جديد . ومن احبّ التّفصيل فليرجع الى الرّسائل العمليّة .

(3) ـ الارشاد المفيد ص: 299، تفسير القمي: ص 169، الاحتجاج للطبري: ص 245، البحار: ج 50 ص 74 ـ 78، وقد نقلناه ملخصّاً.

(4) ـ الكافي: ج 1 ص 494، البحار: ج 50 ص 61.

(5) ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 454.

(6) ـ منتهى الامال: ج 2 ص 235، نقلاً من تحفة الازهار.

(يقول المحدّث القمي في نفس هذا الكتاب ونفس هذه الصفحة: يظهر من تاريخ قم انّه من جملة بنات الإمام الجواد (عليه السلام) زينب وام محمّد وميمونة ايضاً، وقدعّد الشيخ المفيد من جملة بنات الإمام (عليه السلام) بنتا اسمها إمامة).

(7) ـ خرائج الراوندي: ص 208، البحار: ج 50 ص 48.

(8) ـ ليرجع من شاء الى كتاب الارشاد للمفيد ص 307، واعلام الورى ص 338، والبحار: ج 50 ص 6.

(وهناك اقوال اخرى في عام وشهر ويوم استشهاد الإمام الجواد (عليه السلام) قد غضضنا النّظر عن التعرّض لها).

 

تلامذة مدرسة الإمام الجواد (عليه السلام):

جرى أئمتّنا الطّاهرون على سنّة النّبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في بذل اقصى الجهد لتربية وتعليم النّاس، وينبغي الالتفات الى انّ علمهم هذا لا يمكن مقارنته بعمل المؤسّسات التّعليميّة، وذلك لانّ للمؤسّسات التّعليميّة وقتاً محدّداً للتّدريس والتعليم، وتكون معطّلة لا تقوم بأيّ خدمة خارج ذلك الوقت، بينما أئمّتنا المعصومون(عليهم السلام) مقيّدون بتعليم النّاس وهدايتهم في جميع الأوقات، وهم يعلّمون من يتّصل بهم بأقوالهم وافعالهم و أسلوب معاشرتهم وبكلّ ابعاد حياتهم اليوميّة، فكلّ من كان يحظى بمجالستهم وفي ايّ وقت فانّه يستيطيع التّمتّع بأخلاقهم وعلومهم، واذا كان لديه سؤال فهو يستطيع ان يطرحه، ويسمع الجواب عليه، ولم تكن الاسئلة محصورة بمجال معيّن، فأيّة مشكلة يواجهونها كانوا يستطيعون السّؤال عنها وسماع الجواب عليها.

ومن الواضح انّ مثل هذه المدرسة لم تتيسّر اطلاقاً في ايّ مكان سوى عند الانبياء والأئمّة (عليه السلام)، ومن الطّبيعي ان تكون ثمار هذه المدرسة رائعة ومباركة، ومن هنا حاول الخلفاء الامويّون والعبّاسيّون (الذين كانوا يعلمون انّ النّاس لو التفتوا الى هذه الخصائص والميزات لا نجذبوا نحو أئمّة الحقّ والقادة الالهيّين وعندئذ يهدّد الخير حكومة هؤلاء الغاصبين) بكلّ ما يستطيعون ان يحولوا دون اتصال النّاس بقادة الإسلام الواقعيّين بصورة حرّة، ونستثني من ذلك سنوات قليلة من عهد الإمام الباقر (عليه السلام) بسبب السّلوك الإنسانيّ الّذي اتّبعته حكومة «عمر بن عبد العزيز»، وفي زمان الإمام الصادق (عليه السلام) ايضاً بسبب ضعف الحكومة العباسية الّتي كانت حديثة العهد، فقد استطاع النّاس خلال هذه الفترة ان يستفيدوا من هذين الإمامين الكريمين بصورة اكثر تحرّراً، ومن هنا نلاحظ انّ عدد طلاّب الإمام الصادق (عليه السلام) والرّواة منه يناهز عددهم اربعة آلاف رجل(1)، بينما نلاحظ في المراحل التّاريخيّة الاخرى انَ عدد طلاّب الائمّة (عليه السلام) والرواة منهم قليل جدّاً، وكمثال على ذلك فانّ أصحاب وطلاّب الإمام الجواد (عليه السلام) والرواة منه قد يقارب عددهم مائة وعشرة اشخاص(2)، ويدلّ هذا على مدى صعوبة الاتصّال بهذا الإمام الكريم في ذلك الزّمان.

ومع كلّ هذا فانّ بين هؤلاء الافراد المعدودين توجد شخصيّات لا معة نشير الى بعضهم كنموذج فحسب:

1 ـ عليّ بن مهزيار:

وهو من جملة الاصحاب المقرّبين للإمام الجواد (عليه السلام) ومن وكلائه، ويعتبر ايضاً من أصحاب الإمام الرّضا والإمام الهادي (عليهما السلام).

كان كثير العبادة، ونتيجةً لسجوده الطّويل فقد بدت آثار السّجود في جبهتة. فقد كان يسجد من طلوع الشّمس ولا يرفع رأسه من ذلك السّجود حتّى يدعو لألف شخص من المؤمنين ويطلب من الله تعالى لهم ما يطلبه لنفسه.

وكان عليّ بن مهزيار يعيش في الاهواز وقد ألفّ ما يزيد على ثلاثين كتابا(3)، وقد وصل في مراتب الايمان والعمل الصّالح الى درجة راقية بحيث كتب اليه في احدى المرات الإمام الجواد (عليه السلام) رسالة تقدير وتكريم نتبرّك هنا بذكرها:

«بسم الله الرّحمن الرّحيم، يا عليَ أحسن الله جزاك، واسكنك جنّته ، ومنعك من الخزي في الدّنيا والاخرة وحشرك الله معنا. يا عليّ قد بلوتك وخبرتك في النصيحة والطّاعة والخدمة والتّوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت: انيّ لم أر مثلك، لرجوت ان اكون صادقاً، فجزاك الله جنّات الفردوس نزلاً، فما خفي عليّ مقامك ولا خدمتك في الحرّ والبرد، في اللّيل والنهار، فأسأال الله اذا جمع الخلائق للقيامة ان يحبوك برحمة تغتبط بها انّه سميع الدّعاء»(4).

2 ـ احمد بن محمّد بن ابي نصر البزنطي:

وهو من اهل الكوفة ومن جملة خواصّ أصحاب الإمام الرّضا والإمام الجواد (عليهما السلام)، وكان رفيع المنزلة جدّاً عند هذين الإمامين المعصومين، وقد ألفّ عدّة كتب، من جملتها كتاب «الجامع»، ويعترف بفقاهته جميع علماء الشّيعة ويطمئنّون بوثاقته(5).

وقد رافق هذا الرّجل ثلاثة اشخاص آخرين في زيارة للإمام الرّضا (عليه السلام)، وقد اظهر لهم الإمام (عليه السلام) حبّاً خاصّاً واحتراماً فائقاً(6).

3 ـ زكريّا بن آدم:

وهو من أهل قم، ومزاره اليوم في مدينة قم معروف ومشهور ، ويعد من الاصحاب المقرّبين للإمام الرّضا والإمام الجواد (عليهما السلام)، وقد دعا له الإمام الجواد (عليه السلام) وعدّه من جملة أصحابه المقرّبين(7).

وفي احدى المرّات زار الإمام الرّضا (عليه السلام) فاستبقاه الإمام (عليه السلام)واخذ يتبادل معه الحديث من أوّل اللّيل وحتى الصّباح منفردين(8) .

 

وسأل الإمام الرضا (عليه السلام) شخص قال:

شقّتي بعيدة ولست اصل اليك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني ؟ قال (عليه السلام): من زكريّا بن آدم القمّي المأمون على الدّين والدّنيا(9).

4 ـ محمّد بن إسماعيل بن بزيع:

وهو من أصحاب الإمام الكاظم والإمام الرّضا والإمام الجواد (عليهم السلام) ، ويعدّ من جملة الموّثقين عند الشّيعة.

وكان رجلاً صالحاً حسن السّيرة ومن أهل العبادة وقد ألّف كتباً، وهو في نفس الوقت يعمل في بلاط العبّاسيّين(10)، وقد قال له الإمام الرضّا (عليه السلام) فيما يتعلّق بهذا الامر: «انّ للهِ تعالى بأبواب الظّالمين من نوّر الله له البرهان، ومكنّ له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه، ويصلح الله بهم أمور المسلمين، اليهم ملجأ المؤمن من الضّر، واليهم يفزع ذو الحاجة من شعيتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظّلمة، اولئك المؤمنون حقّاً، اولئك أمناء الله في أرضه اولئك نور في رعيّتهم يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السّماوات كما تزهر الكواكب الدّرية لأهل الأرض، اولئك من نورهم يوم القيامة تضىء منهم القيامة، خلقوا والله للجنّة وخلقت الجنّة لهم، فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه».

 

قال محمّد بن إسماعيل: قلت بماذا جعلني الله فداك؟

قال (عليه السلام): «يكون معهم، فيسرّنا بادخال السّرور على المؤمنين من شيعتنا (بمعنى أنّه يحتلّ منصباً وهدفه من ذلك رفع الظّلم عن المؤمنين)، فكن منهم يا محمّد»(11).

يقول الحسين بن خالد الصيرفي:

كنّا عند الرضا (عليه السلام)، ونحن جماعة، فذكر محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، فقال (عليه السلام): «وددت انّ فيكم مثله»(12).

 

يقول محمّد بن أحمد بن يحيى:

كنت بفَيْد([13]) فقال لي محمّد بن علي بن بلال: مرّبنا الى قبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع لنزره: فلّما أتيناه، جلس عند رأسه مستقبل القبلة إمامه، ثمّ قال: أخبرني صاحب هذا القبر، يعني محمّد بن اسماعيل، انّه سمع ابا جعفر (عليه السلام) يقول: «من زار قبر أخيه ، ووضع يده على قبره، وقرأ «انّا أنزلناه في ليلة القدر» سبع مراّت أمن من الفزع الاكبر»(14).

 

ويقول محمّد بن اسماعيل بن بزيع:

سألت أبا جعفر (الإمام الجواد) (عليه السلام) ان يأمر لي بقميص من قمصه أعدّه لكفني، فبعث به اليّ فقلت له كيف أصنع به جعلت فداك؟ قال: انزع ازراره(15).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) ـ رجال الشيخ الطوسي: ص 142 ـ 342.

(2) ـ رجال الشيخ الطوسي: ص 397 ـ 409.

(3) ـ الكنى والالقاب: ج 1 ص 424.

(4) ـ غيبة الشّيخ الطّوسي: ص 225، البحار: ج 50 ص 105.

(5) ـ معجم رجال الحديث: ج 2 ص 237، رجال الكشّي: ص 558.

(6) ـ ليرجع من شاء التّفصيل الى كرّاسة «الإمام الثّامن الرّضا (عليه السلام)» من منشورات مؤسّسة في طريق الحق.

(7) ـ رجال الكشي: ص 503.

(8) ـ منتهى الامال: حياة الإمام الرّضا (عليه السلام): ص 85.

(9) ـ رجال الكشي: ص 595.

(10) ـ رجال النجاشي: ص 254.

(11) ـ رجال النجاشي: ص 255.

(12) ـ رجال النجاشي: ص 255.

(13) ـ وهي مكان في طريق مكّة (ليرجع من شاء الى تحفة الاحباب للمحدّث القمّي: ص 317).

(14) ـ رجال الكشي: ص 564.

(15) ـ رجال الكشي: ص 245 و264.

 

نماذج من الكلمات الثّريّة للإمام (عليه السلام):

انّ كلام الائمّة المعصومين: (وهو شعاع من شمس علومهم) يعدّ ارشاداً واضحاً ومأموناً لعباد الله، وذلك لانّ هؤلاء الكرام مبّرءون من كلّ لون من ألوان الخطأ والانحراف واعوجاج السّليقة. وارشاد اتهم ليست مقصورة على بُعد واحد وإنّما هي ناظرة الى جميع الابعاد الوجوديّة للإنسان، وليست مختصّة بطبقة معيّنة، وإنّما هي تسوق جميع الطّبقات الى الكمال الإنسانيّ، وهي توقظ الفطرة وتبعثها في جميع المراتب.

وننقل هنا نماذج من كلام الإمام التّاسع أبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد (عليهما السلام)، وهي مقتبسة من كتب الاخوة أهل السنّة، آملين ان ينتفع بها القرّاء ويهتدوا بمضامينها:

1 ـ «من استغنى بالله افتقر النّاس اليه، ومن اتّقى الله أحبّه النّاس »(1).

2 ـ «الكمال في العقل»(2).

3 ـ «حسب المرء من كمال المرّوة ان لا يلقى احداً بمايكره»(3) .

4 ـ «لا تعالجوا الامر قبل بلوغه فتندموا ولا يطولنّ عليكم الامل فتقسوا قلوبكم وارحموا ضعفاء كم واطلبوا من الله الرّحمة بالرّحمة فيهم»(4).

5 ـ «من استحسن قبيحا كان شريكاً فيه»(5).

6 ـ «العالم بالظّلم والمعين عليه والرّاضي شركاء»(6).

7 ـ «من وعظ اخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه»(7).

8 ـ القصد الى الله بالقلوب ابلغ من اثبات الجوارح بالاعمال»(8).

9 ـ «يوم العدل على الظّالم أشدّ من يوم الجور على المظلوم»(9).

10 ـ «عنوان صحيفة المسلم حسن خلقه»(10).

11 ـ «ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله تعالى: كثرة الاستغفار ولين الجانب وكثرة الصّدقة، وثلاث من كنّ فيه لم يندم: ترك العجلة والمشورة والتوكّل على الله عند العزم»(11).

12 ـ «من أمل فاجراً كان أدنى عقوبته الحرمان»(12).

13 ـ «من انقطع الى غير الله وكله الله ومن عمل على غير علم أفسد اكثر مّما يصلح»(13).

14 ـ «أهل المعروف الى اصطناعه أحوج من أهل المدينة إليه لانّ لهم أجرهم وفخره وذكره فمهما اصطنع الرجل من معروف فانّما يبتدء فيه بنفسه»(14).

15 ـ «العفاف زينة الفقر، والشّكر زينة الغنى، والصّبر زينة البلاء، والتّواضع زينة الحسب، والفصاحة زينة الكلام، والحفظ زينة الرّواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الادب زينة العقل وبسط الوجه زينة الكرم، وترك المنّ زينة المعروف، والخشوع زينة الصّلاة، وترك ما لا يعني زينة الورع»(15).

16 ـ «من وثق بالله وتوكّل على الله نجّاه الله من كلّ سوء وحرزه من كلّ عدّو»(16).

17 ـ «الدّين عزّ، والعلم كنز، والصمّت نور، ولا هدم للدين مثل البدع ولا أفسد للرّجال من الطّمع، وبالرّاعي تصلح الرعيّة وبالدّعاء تصرف البليّة»(17).

18 ـ «الصّبر على المصيبة مصبية للشّامت»(18).

19 ـ «كيف يصيع من اللهُ كافلُه، وكيف ينجو مَن اللهُ طالبُه  »(19) .

20 ـ «قال (عليه السلام) في جواب رجل قال له أوصني بوصيّة جامعة مختصرة: صُن نفسك عن عار العاجلة ونار الاجلة»(20).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) ـ نور الابصار: ص 180.

(2) ـ الفصول المهمّة: 290.

(3) ـ نور الابصار: ص 180.

(4) ـ الفصول المهمّة: ص 292.

(5) ـ نور الابصار: ص 180.

(6) ـ الفصول المهمّة: ص 291.

(7) ـ نور الابصار: ص 180.

(8) ـ الفصول المهمّة: ص 289.

(9) ـ الفصول المهمّة : ص 291.

(10) ـ نور الابصار ص 180.

(11) ـ الفصول المهمّة: ص 291.

(12) ـ نور الابصار: ص 181.

(13) ـ الفصول المهمّة: ص 289.

(14) ـ نور الابصار: ص 180.

(15) ـ الفصول المهمّة: ص 291.

(16) ـ نور الابصار: ص 181.

(17) ـ الفصول المهمّة: ص 290.

(18) ـ نور الابصار: ص 180.

(19) ـ الفصول المهمّة: ص 289.

(20) ـ احقاق الحق: ج 12 ص: 439، نقلاً من «وسيلة المآل». وجميع هذه الرويات المنقولة في هذا الفصل عن كتاب «الفصول المهمّة» وكتاب «نور الابصار» موجودة في كتاب احقاق الحق: ج 12 ص 428 ـ 439 نقلاً من هذين الكتابين.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية