العصمة الفاطميّة بين الإضاءات والاستنارات

الضرورة اللاّزمة

في الفطرة البشريّة لا يطمئنّ الإنسان لأن يتعامل مع شخص في أمرٍ مهمّ حتّى يتوثّق من صدقه وأمانته، ونزاهته من الغش وسوء الأخلاق وفساد السريرة. ويتأكّد هذا الموضوع في أخذه دِينَه عمّن يتلقّاه ليمضيَ به إلى آخرته أخطر مصير! فلابدّ أنّه يشترط في ذلك منتهى النقاء والصفاء، وأسمى مكارم الأخلاق، وأصفى عقيدة وأطهرَ جهة، وبتعبيرٍ آخر لابدّ أن يشترط في ضميره وسريرته العصمة في الجانب المُتحدّث والمبلّغ عن الله تعالى أنّه لا يخطئ ولا يسهو، فضلاً عن أنّه لا يكذب ولا يخدع، بل ولا يقترف أيَّ ذنبٍ وخطيئةٍ وإثم، وإلاّ تزعزت الثقة واضطرب الاطمئنان، ودبّت الريبة والشكّ.
ولعلّ من المناسب أوّلاً أن نتعرّف على معنى العصمة، حيث قيل فيها أنّها الامتناع ـ باختيارٍ ـ عن ارتكاب الذنوب والقبائح، أو هي لطفٌ يحصل من الله تعالى يختصّ به مَن يمتنع عن فعل المعصية وترك الطاعة، مع القدرة عليهما، فتكون مَلَكةً تُنزِّه المعصومَ عن اقتراف ما يسخط اللهَ تعالى، أو الوقوع في العيوب والنقائص.
ولا شكّ أنّها ضرورةٌ لازمةٌ في الأنبياء والمرسَلين، وكذا في الأوصياء الأولياء الصالحين، سَلامُ الله عليهم أجمعين، لأنّهم السفراءُ بين الله تعالى وعباده، فلابدَّ أن يكونوا معصومين ليثقَ الناسُ بما يأتون به من عند الله عزّوجلّ، وليتّخذوا منهم أُسوةً حسنة، وقد قال تعالى في محكم كتابه المجيد:
ـ قَد كانَتْ لكُم أُسْوةٌ حَسَنةٌ في إبراهيمَ والذينَ مَعَه إذْ قالُوا لِقومِهِم إنّا بُرَآءُ مِنكُم وممّا تَعبُدونَ مِن دونِ الله... لَقَد كانَ لكُم فِيهِم أُسْوةٌ حَسَنةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللهَ واليومَ الآخِر.. [ سورة الممتحنة:4 ـ 6 ].
ـ لَقَد كانَ لكُم في رسُولِ اللهِ أُسْوةٌ حَسَنةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللهَ واليومَ الآخِرَ وذَكَرَ اللهَ كثيراً [ سورة الأحزاب:21 ].
والصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها أُسوة أيضاً، بل نِعمتِ الأُسوة، فهي يكفيها أن تكون سيّدةَ نساء العالمين من الأوّلين والآخِرين، فلابدَّ أن تكون إذن معصومة ضرورةً لازمة.
أمّا كيف يتسنّى ذلك للمسلمين، أو لِمَن يرغب في الأدلّة الواضحة، فذلك يُنال عن طُرقٍ عديدة، أهمّها: الأدلّة النقليّة الصريحة، والأدلّة العقليّة الاستنتاجيّة الواضحة، وهذه بعضها.

 

إضاءات

• عن ابن عبّاس قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان جالساً ذاتَ يومٍ وعنده عليٌّ وفاطمةُ والحسن والحسين، فقال: « اَللهمَّ إنّك تعلم أنّ هؤلاءِ أهلُ بيتي وأكرمُ الناس عَلَيّ، فأحبِبْ مَن أحبّهم، وأبغِضْ مَن أبغَضَهم، ووالِ مَن والاهُم، وعادِ مَن عاداهم، وأعِنْ مَن أعانهم، واجعَلْهم مطهَّرين مِن كلِّ رِجْس، معصومين مِن كلِّ ذَنْب، وأيِّدْهُم بِرُوح القُدس منك.. » ( أمالي الصدوق 574 ـ عنه: بحار الأنوار 24:43 / ح 20، بشارة المصطفى لشيعة المرتضى لأبي جعفر محمّد بن أبي القاسم الطبري الإمامي:218 ـ عنه: بحار الأنوار 84:37 / ح 52 ).
• وعن زيد بن عليٍّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « مِنّا خمسةٌ معصومون »، قيل: يا رسول الله، مَن هُم ؟ قال: « أنا وعليٌّ وفاطمةُ والحسن والحسين » ( مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام 153:2 / ح 628 ).
• وقال النباطي في بحث المعصوم: قد روى مسلم في الجزء الرابع من صحيحه بعدّة طرق: « فاطمةُ بضعةٌ منّي، يُريبني ما رابَها، ويُؤذيني ما آذاها » ثمّ قال النباطيّ رحمه الله معلِّقاً: وبعضُ المعصوم معصوم. ( الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 170:1 ).

 

استنارات

• قال السيّد المرتضى علم الهدى في عصمة فاطمة عليها السلام: قال الشيخ ( لعلّه يقصد الشيخ المفيد ): قد دّل على عصمتها قوله تعالى: إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ ويُطَهِّرَكُم تَطهيراً [ سورة الأحزاب:33 ]، ولا خلافَ بين نَقَلة الآثار أنّ فاطمة عليها السلام كانت من أهل هذه الآية. وقد بيّنّا فيما سَلَف أنّ ذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم السلام ـ الذين عُنُوا بالخطاب ـ يُوجِب عصمتَهم، ولإجماع الأمّة أيضاً على قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: « مَن آذى فاطمةَ فَقَد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى اللهَ عزّوجلّ ». ( الفصول المختارة:88 ).
• وقال الطبرسي في ذِكر ما يُوجب الدلالة على عصمتها عليها السلام: مِن أوكد الدلائل على عصمتها قولُه تعالى: إِنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكُمُ الرِّجْسَ أَهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُم تطهيراً . ووجه الدلالة أنّ الأمّة اتّفقت أنّ المراد بأهل البيت في الآية هم أهلُ بيت رسول الله عليهم السلام، ووردت الرواية من طريق الخاصّ والعامّ أنّها مختصّةٌ بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله جَلّلهم بعباءةٍ خيبريّة ثمّ قال: « اَللهمَّ إنّ هؤلاء أهلُ بيتي، فأذهِبْ عنهمُ الرجسَ وطهّرْهم تطهيراً »، فقالت أُمّ سلمة: وأنا يا رسول الله مِن أهل بيتِك ؟ فقال لها: « إنّكِ على خير »... واجتمعت الأمّةُ على أنّ الآية فيها تفضيلٌ لأهل البيت عليهم السلام، وهي آيةٌ لهم عمّن سواهم. وفي ثبوت ذلك اقتضاءُ عصمةِ مَن عُنِي بالآية. ( إعلام الورى بأعلام الهدى:148 ).
• وفي ( الذكرى ص 4 ) كتب الشهيد الأوّل في ظلّ آية التطهير السالفة: وفيها من المؤكِّدات واللطائف ما يُعلَم مِن عِلمَي المعاني والبيان، وذهاب الرجس ووقوع التطهير يستلزم عدمَ العصيانِ والمخالفةِ لأوامر الله ونواهيه، وموردُها في: النبيّ صلّى الله عليه وآله وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
• وفي منظومته في أحوال المعصومين عليهم السلام قال الشيخ الحرّ العامليّ في باب الزهراء عليها السلام:

معصومةٌ نَأَتْ عنِ الذنوبِ         بريئةٌ عن جُملـةِ العيـوبِ
وشاركَتْ يومَ الكِساءِ والعَبا         في المجدِ بعلاً وبنيـنَ وأبا

• وكتب الشيخ المجلسي: لا شكّ في عصمة فاطمة عليها السلام، أمّا عندنا فللإجماع القطعيّ المتواتر، والأخبار المتواترة الآتية في أبواب مناقبها عليها السلام. ( بحار الأنوار 19:43 ).
وقال أيضاً: وأمّا الحُجّة على المخالفين على عصمتها فبآية التطهير. ( بحار الأنوار 206:35 ).
وفي شرح الحديث الشريف: « إنّ فاطمة صدّيقةٌ شهيدة » قال الشيخ المجلسيّ في ( مرآة العقول 315:5 ) : الصِّدّيقة فِعِّيلة، للمبالغة في الصدق والتصديق، أي كانت كثيرةَ التصديق لِما جاء به أبوها صلّى الله عليه وآله، وكانت صادقةً في جميع أقوالها، مُصدِّقةً أقوالَها بأفعالها، وهذا هو معنى العصمة. ولا ريبَ في عصمتها عليها السلام؛ لدخولها في الذين نزلت فيهم آية التطهير بإجماع الخاصّة والعامّة، والروايات المتواترة مِن الجانبين.
• وكتب المامقاني في ( تنقيح المقال 81:3 ـ فصل النساء ) في ذكر فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله: وأُمّها خديجة، ومن ضروريّات مذهبنا كونُها معصومة، وكونُ قولها حُجّة، وهي سيّدةُ نساء العالمين باتّفاق الفريقين، وأخبارُهم في ذلك متواترة..
• وقال السيّد محسن الأمين في ( أعيان الشيعة 135:3 ) في أدلّة الإمامة: الدليل السادس ـ آية التطهير: إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهبَ عنكمُ الرِّجْسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُم تَطهيراً ، وقد دلّت الأخبار الكثيرة على أنّ المراد بأهل البيت عليٌّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام، فتَدلّ هذه الآية الشريفة على عصمتهم؛ لأنّ الذَّنب رِجْس، وقد أذهَبَ اللهُ عنهمُ الرجسَ وطهّرهم تطهيراً مِن كلِّ رِجسٍ وذَنب..
• وقال النمازي الخوئي في ( حدائق الإشارات في أحوال بضعة فخر الكائنات ـ مخطوط ) في إثبات عصمة فاطمة عليها السلام من الإجماع: لا شُبهةَ في إطباق علمائنا الإماميّة على عصمتها، بل هي مِن أوضح ضروريّات مذهبنا، بل وافَقَنا عليها المخالفون من حيث لا يشعرون!
• وكتب محمّد مهران في ( الإشارات الإلهيّة في المباحث الأصولية ) في ذكر عصمة أهل البيت عليهم السلام نقلاً عن المقريزي، نقلاً عن نجم الدين سليمان بن عبدالقوي المعروف بابن عبّاس الطوفي: إنّ الشيعة قد احتجّت بقول الله تعالى: إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيتِ ويُطهِّرَكُم تَطهيراً على أنّ أهل البيت معصومون، ثمّ على أنّ إجماعهم حُجّة, وأمّا أنّهم معصومون فلأنّهم طُهِّروا وأذهَبَ اللهُ عنهم الرجس، والرجسُ آسمٌ جامعٌ لكلِّ شَرٍّ ونقصٍ وخطأ، وعدمُ العصمة بالجملة شرٌّ ونقص، فيكون ذلك مندرجاً تحت عموم الرجس الذاهب عنهم، فتكون الإصابة في القول والفعل والاعتقاد، والعصمة بالجملة، ثابتةً لهم.
هذا، فضلاً عن أنّ الله طهّرهم وأكّد تطهيرَهم بالمصدر، حيث قال: « ويُطهِّرَكُم تَطْهيراً » أي ويُطهّركم مِن الرِّجس وغيرهِ تطهيراً؛ إذِ العصمةُ تقتضي عمومَ تطهيرهم مِن كلِّ ما ينبغي التطهّر عنه: عُرفاً أو عقلاً أو شرعاً، والخطأ وعدم العصمة داخلٌ تحت ذلك، فيكونون مطهَّرين منه، ويلزم من ذلك عمومُ إصابتهم وعصمتهم.
• وفي رسالته في شرح خطبةٍ شريفةٍ تتضمّن آية النور:ص 81، قال الكرماني في قوله تعالى: المِشْكاةُ في زُجاجةٍ [ سورة النور:35 ] بعد كلامٍ طويل: إنّ المشكاة هي فاطمةُ عليها السلام، العصمةُ الكليّة ومحلُّ النبوّة والإمامة، وهي عليها السلام موقعُ جميع الصفات، ومحلُّ جميع الخيرات، وحبيبةُ خالق البريّات؛ ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « فاطمةُ بَضعةٌ منّي »، فإنّها نبوّةٌ وولايةٌ وعصمة، ولكلّ واحدةٍ منها مقامٌ في الخاتميّة، لابدّ للخاتم مِن أن يجمعها. وقد ظهرت العصمة فيها فصارت عليها السلام بضعةً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، ولذا قال تعالى في شأنها: إِنَّها لإحْدى الكُبَر [ سورة المدّثّر:35 ].
وبالجملة، إنّ فاطمة عليها السلام هي المشكاة، وفيها مصباحُ النبوّة، كما ورد في تفسير أهل البيت عليهم السلام.