تسلية للنبيّ الكريم

تسلية للنبيّ الكريم

قد نَعلَمُ أنّه لَيَحزُنُكَ الذي يقولون (1).
في هذه الآية تشريف وتكريم ـ من مقام الربوبية ـ للمصطفى صلّى الله عليه وآله، عن طريق الإشارة.. ذلك أنه لا أعلى منه صلّى الله عليه وآله ولا أرفع. وما من أحد أُعطي هذه المنزلة ومُنح هذه المرتبة، منذ عصر آدم إلى نهاية العالم.. بحيث يقول له ربّ العزّة يسلّي فؤاده: يا محمّد، نحن نعلم ماذا يصيب قلبَك من أولئك الذين لا حرمة لهم، وما أكثر ما يحزنك من كلامهم العابث! يا محمّد، لا تَخَلْ أنّا لا نرى ما يجري عليك، ولا نعدّ زفراتك التي تُطلقها ممزوجةً بالألم، ولا هذه الجرعات المرّة التي تتجرّعها كلّ ساعة ابتغاءَ مرضاتي. يا محمّد، إنّ ما يصنعونه بك.. إنّما يصنعونه بي؛ لانهم يصنعونه بسبب حديثي معك (القرآن).
انظُرْ.. كيف كانوا يعاملونك قبل أن نمنّ عليك بالنبوّة، وقبل أن نضع في يدك راية الرسالة. كلّهم كانوا يحبّونك: القريب والغريب، وبنو جِلدتك.. كلّهم ينادونك: محمّد الأمين؛ يأتمنونه على أماناتهم، ويُجلِسونه في صدر مجالسهم ونواديهم.. حتّى إذا نزلت عليه رسالةُ السماء وتجلّت في قوله وعمله عزّة الإسلام.. انقلب الحال وتغيّر المقال: تحوّل الأصدقاء أعداء. يقول عنه أحدهم: إنّه ساحر وكاهن! ويقول آخر: إنّه كاذب وشاعر! ويقول غيره: إنّه مجنون مختلط!

أشاعوا لنا في الحيِّ أشنَعَ قصّةٍ         وكانوا لنا سِلماً.. فصاروا لنا حَربا

لقد قالوا هذا كلّه.. لكنّ السيّد صلّى الله عليه وآله كان راسخاً في ثباته، بحيث استوى لديه إقبالُهم عليه ونُفورهم منه، وتوحّدت في نظره السلامة والملامة. وهو يرى أنّ الحالتين تستمدّان من منبع واحد: إنّ ربّ العالمين قد وضع تاج الرسالة على رأس محمّد العربي، فغدا عند الله سِرَّ قبول الخلق وردِّهم، فأُصيب أولئك بالإحباط وجرّدوا له ألسنةً حِداداً. قال أحدهم: إنّه يتيم بائس، فقال ربّ العزّة: إنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم. وقال غيره: إنّه أجير وفقير، فقال ربّ العزّة: إنّه نذير وبشير. وقال آخر: إنّه ضالّ وغبي، فقال ربّ العزّة: إنّه رسول ونبي.

هذا.. وإنْ أصبَحَ في أطمارِ         وكان في فقرٍ من اليَسارِ
آثَرُ عندي من أخي وجاري

وجاء الخطاب: يا محمّد «قد نعلم...» نحن نعلم أن خصومك يَعُدّونك شاعراً ومجنوناً.. لكنّك لستَ بشاعر ولا مجنون. أنت زَين العالم، أنت سيّد ولد آدم، أنت رسول الكونَين، وصاحبُ «قاب قوسَين». ما أنت بمجنون.. أنت صفاء الإسلام، أنت بقاء الشريعة.. أنت رسول الله. ويكفيك عزّاً أنّنا منك، وأنت منّا. (344:3 ـ 346)

-------

1 ـ سورة الأنعام، من الآية 33.