وجدان القلب.. وفِقدان القلب

وجدان القلب.. وفِقدان القلب

واعلَموا أنّ اللهَ يَحولُ بينَ المرءِ وقَلبِه (1).
السالكون في طريق الحقيقة فِرقَتان: العالِمون، والعارفون.
العالِمون وَجَدوا قلوبهم؛ لقوله تعالى: إنّ في ذلك لَذِكرى لمن كانَ له قلب (2).
والعارفون فَقَدوا قلوبهم؛ لقوله تعالى: «واعلَموا أنّ اللهَ يَحولُ بينَ المرءِ وقلبِه».
إنّه لَرمزٌ غريب، وإيماءٌ عجيب:
القلب طريق.. والحبيب وطن. فإذا وَصَل إلى الوطن.. ففي أيّ طريق يريد أن يمشي ؟!
في البداية لابدّ من القلب، وفي النهاية يتحوّل القلب إلى حجاب. مَن كان له قلب فهو مريد، ومَن كان بلا قلب فهو مراد.
في البداية لابدّ من القلب.. لأنّه لا يمكن طيّ طريق الشريعة بلا قلب. من هنا قال: «لَذكرى لمن كان له قلب».
والبقاء مع القلب في نهاية المطاف اثنَينيّه، والاثنَينيّة بُعدٌ عن الحق. من هنا قال: «يَحولُ بين المرء وقلبه».
وقيل: أصحاب القلوب أربعة: زاهد أضناه القلب شوقاً، وخائف غَسَله القلب بالدموع، ومريد أقامه القلب للخدمة، ومُحِبّ شدّه القلب إلى الحضرة (الإلهيّة). (36:4 ـ 37)

-------

1 ـ الأنفال، من الآية 24.
2 ـ ق، من الآية 37.

حلاوة خُلف الوعد!

وواعَدْنا موسى ثلاثينَ ليلةً.. وأتمَمْناها بعَشرٍ، فتَمّ ميقاتُ ربّه أربعين ليلة (1).
ما أعزَّ الوعدَ في الحبّ، وما أروع انتظارَ وعد الحبّ! وما أحلى خُلفَ الوعد في شرعة الحبّ!
قال أحد المشايخ في رموز هذه الآية: مواعيد الأحبّة إن أُخلِفَتْ فإنّها تؤنس. ثم قال:

امطليني.. وواعِدي         وعِديني.. ولا تَفي!

إنّ خُلف الموعد وتأخير إنجازه.. غير مَرضيّ إلاّ في شرعة الحب، فانّ عدم الوفاء ـ في الحب ـ هو عين وفاء الحبيب وملاطفته. ألاَ ترى أنّ ربّ العالمين قد تعامَلَ مع موسى الكليم هذا التعامل ؟! واعَدَه ثلاثين ليلة، ولمّا حان وقت الميعاد زاده عشرة أيّام ؟!
واستأنس موسى بهذه الزيادة، فعَدّ الثلاثين يوماً رأس مال، والعشرة ربحاً. قال: على أيّ حال، لقد سمعتُ فعلاً كلام الحقّ وهو يخاطبني ليزيدني عشرة أيّام!
وفي سفر أيّام الانتظار الثلاثين هذه.. لم يخطر ببال موسى طعام ولا شراب، ولم يشعر بالجوع؛ لأنّه كان مجذوب الحقّ في سفر الكرامة، بانتظار المناجاة.
أمّا في سفره الأول حين أُرسِل إلى الخِضر طلباً للعلم.. فانّه لم يتحمّل الجوع غير نصف يوم، فقال: «آتِنا غَداءنا»(2)؛ لأنه كان في سفر تأديب ومشقّة، وكان في بدء أمره متحمِّلاً لا محمولاً. لقد كان يحسّ بالمعاناة والمشقّة ويشعر بالجوع؛ لأنّه كان في طريق الخلق. (730:3)

-----------

1 ـ الأعراف، من الآية 142.
2 ـ الكهف، من الآية 62.