نداء الإكرام

يا أيّها الذينَ آمَنوا... (1)
روي عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّ في هذا الكلام أربع خصال أكرم ربُّ العالمين بها الأمة وأحسن بها إليها. الأولى: النداء، والثانية: الكناية، والثالثة: الإشارة، والرابعة: الشهادة. «يا أيُّ» نداء، و «ها» كناية، و «الذين» إشارة، و «آمنوا» شهادة.
النداء إكرام، والكناية من الرحمة، والإشارة إلى المحبة، والشهادة بالمعرفة. ناداهم قبلَ أنْ بَدَأهم، وسمّاهم قبلَ أن رآهم. كانوا في كَتْم العدم.. ثمّ أكرمهم بالنداء. وقبل أن يجيئوا إلى دائرة الوجود سمّاهم بجميل الاسم سَمّاكُمُ المُسلِمينَ مِن قَبلُ (2).
والإنسان: يَرى العيب فيرتضي العيب، ويُبصر الجُرم فيشتري الجُرم، ويشاهد أطهارَ العالَم العُلوي فيختار مُلوَّثي العالم السُّفلي.. والله تعالى يقول: أنينُ المذنبين أحبُّ إليّ من زَجَل المُسبِّحين.
مَثَل الإنسان في مقابل محضر الاستغناء الإلهي ـ وهذا من اللطف الأزلي ـ مَثَل طفل خاطَت له أمّه ثوباً جديداً، وقالت له:
ـ انتَبِه يا ولد، لا تُلوِّث هذا الثوب.
خرج الطفل من البيت، وراح يلعب مع الأطفال، فاتّسخ الثوب، وعاد إلى البيت بالثوب المتّسخ. انزوى الطفل في ناحية من البيت لا يدري ماذا يفعل. والأمّ تعلم أنّ الطفل يخاف أن تعاركه أمّه، فقالت له:
ـ ولدي العزيز، تعالَ إليّ، فأنا حين أرسلتك خارج البيت كنتُ أدري ماذا سوف ترتكب، فهيّأت الماء والصابون.
إنّ حالة الإنسان هي كذلك؛ فإنّ أوّل الخليقة وصَفيّ المملكة (أي آدم أبا البشر) لمّا خرج مِن كَتْم العدم إلى الوجود.. ارتفعت أصوات أرواح أهل الطهر والقداسة، ووجّهوا سهام الإنكار إلى عالَم «الجَعْل» (3)، قائلين: أتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها (4) ؟!
إنّك لَتخلقُ مخلوقاتٍ تلوّث ـ بدخان المعصية وغبار الشرك ـ ثوبَ اليومَ أكملتُ لكم دِينَكُم (5)،
وتهتك ستارة الحرمة عن جمال طلعة الإيمان! فجاء الخطاب: إنّ ما جعلناه في هذا الصَّدَف إنّما هو أسرارنا كرَّمْنا بني آدم (6)، وأعززناه بألطاف العزّة. ولمّا أرسلناه ـ بثوب العظمة وطَيلَسان الأمانة ـ إلى عالم التلوّث (أي: الدنيا) جعلنا في يديه ماء المغفرة وصابون الرحمة.
يا أيُّها الذينَ آمَنوا... (7).
يخاطب العبيدَ بنداء الإكرام، وعندها أمرهم بقوله: «أوفُوا بالعُقود». عبدي، عليك عَقدان، أحدهما: إجابة ربوبيّتنا، والآخر: تَحمُّل أمانتنا.. فلا تَعصوا في إجابة الربوبية، ولا تَخونوا في تحمّل الأمانة.
أمَا وقد أقررتَ بألوهيّتنا فلا تعمل لغيرنا، وفي الحلال والحرام لا تَتَّبعْ غير الشريعة (21:3 ـ 22).

-----------

1 ـ المائدة، أوّل الآية 1.
2 ـ الحجّ، من الآية 78.
3 ـ إشارة إلى قوله تعالى: «إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة»، البقرة، من الآية 30.
4 ـ البقرة، من الآية 30.
5 ـ المائدة، من الآية 3.
6 ـ الإسراء، من الآية 70.
7 ـ المائدة، أول الآية 1.