الفتوّة وغاية الكرم

وجاءَ إخوَةُ يوسُف، فَدَخلوا عليه، فعَرَفَهم وهم له مُنكِرون (1).
إخوة يوسف اضطرّتهم الحاجة وألجأهم العُسر.. فجاؤوا إلى مصر. نظر إليهم يوسف، فعرف بفراسته وتوسّمه أنهم إخوته.. وكانوا مهمومين قد أضرّ بهم العوز. وأراد يوسف أن يختبرهم، فنطق فمه العقيقي بالسؤال:
ـ مِن أين جئتم أيّها الشبّان ؟
سألهم هذا السؤال، وهو يعلم مَن هم ومِن أين جاؤوا.. لكنه أراد أن يسمع منم ذِكر أرض كنعان(2) ووَصْفَ حال يعقوب، وليجدِّد عهداً بما هناك؛ فإنّ سماع حديث الحبيب، وذِكر ديار المعشوق ووطنه غذاء لروح العاشق وبلسم لمتاعبه.
قال الإخوة:
ـ يا شمس الصالحين، قد جئنا من حدود أرض كنعان.
قال:
ـ ولِمَ جئتم ؟
أجابوا ـ وهم يَشْكونَ تبدّل الزمان المرّ الذي لا وفاء له.
ـ يا أيّها العزيز، مَسَّنا وأهلَنا الضُّرّ (3). أيّها العزيز، نحن أناس قد تمرّغنا بذلّ الغربة، وألجأنا الاضطرار إلى بلدك، وقد سَلَبَتنا نوائب الدهر صَونَ التجمُّل والتصبُّر، فجئنا ببضاعة يسيرة لا تليق بمحضرك.. فمُنَّ علينا بكرمك وغُضَّ الطَّرف عن بضاعتنا وأرجِعنا مسرورين؛ فإن لنا أباً شيخاً كبيراً نريد أن نعود إليه.
ما أن سمع يوسف اسم أبيه حتّى هيمن عليه البكاء. بكى كثيراً.. لكنه كان مُلثَّماً، فلم يفطنوا لبكائه. ثمّ إنّه أمر غلمانه قائلاً:
ـ لا تفتحوا بضاعتهم إلاّ بمحضري، ولا تقع عين أحد عليها قبلي.
عجِبوا كلّهم من هذه الحالة الغريبة، وما عساه سيحدث مِن بَعد. ما أكثر البضائع النفيسة التي جيء بها إليه من أنحاء العالم: جواهر ثمينة، وذهب وفضّة بلا عَدّ، وألوان من فاخر الثياب.. فما أمر مرةً أن تُفتَح أمامه! وهذه البضاعة القليلة المُزجاة: حمل دابّة قوامه صوف نعجة، وشعر ماعز، ونعال عتيقة.. يقول عنها: افتحوها أمام عرشي!
لابدّ أنّ في هذا سرّاً، وسرّه.. هو: أنّ كلّ شعرة من هذا الصوف حمّالة لعشق، حمّالة لحزن من أحزان يعقوب. وإنْ لم تكن حمّالةً لحزن يعقوب وعشقه.. فما شأن يوسف بصوف خروف، ولماذا يتفحّصه بنفسه ؟!

إنّي لأبحث عنك ما دام الداء خبيئاً   فإنّك أنت الذي تعلم ما دوائي

       

أيّها الفتى(4)، إنّ ربّ العزّة لم يُبالِ بسبعمئة ألف سنة من تسبيح إبليس فجعله هباءً منثوراً، لكنّه يأخذ إلى محضر عزّته ذل النَّفَس المتأوّه المحزون من أنفاس عبد بائس: (أنين المذنبين أحبُّ إليَّ مِن زَجَل المسبِّحين).
أمر يوسف أن يُعطى كلّ واحد مِن إخوته، وألاّ يؤخذ من بضاعتهم شيء، وقال لهم:
ـ إئتوني بأخٍ لكم مِن أبيكُم (5).. عليكم أن ترجعوا وتأتوني بأخيكم «بنيامين».
يعقوب كان يجد في بنيامين عطر يوسف، فاستدعاه يوسف ليكون سلوةً له، وليكون عنده هوى يعقوب.

تَسَلّى بأُخرى غيرَها.. فإذا التي   تَسَلّى بها تُغري بليلى ولا تُسْلي

        

ولمّا فَتَحوا مَتاعَهُم وَجَدوا بِضاعتَهُم رُدَّت إليهم (6).
لمّا فتحوا حِملهم ووجدوا بضاعتهم بين الحمل قال لهم يعقوب:
ـ إني لأرى في عزيز مصر فتوّةً كاملة وكرماً عظيماً. لقد أرجعَ إليكم بضاعتكم شفقةً بكم، ثمّ وضع لكم هذا الطعام خُفيةً ليصرف عنكم المذلّة؛ فإنّه إنْ أعطاكم الطعام جَهرةً فإنّ عطاءه يكون صدقة، وهو لا يرضى لكم صَغار الصدقة. وهذا كرمٌ لائح، وفضلٌ واضح. إنه نفى المذلّة عن الآخِذ، ودفع الخجل عن المعطى.
وفي هذا المعنى حكايات كثيرة:
قيل: إنّ الحسين بن عليّ عليه السّلام جاءه فقير، فسأله الحسين عليه السّلام:
ـ ما اسمُك واسم أبيك ؟
قال الفقير:
ـ أنا فلان بن فلان.
فقال الحسين عليه السّلام:
ـ حسناً ما صنعتَ في مجيئك إليّ، فأنا أبحث عنك منذ زمان؛ فقد وجدتُ في دفتر أبي أن لأبيك دراهم عنده، وأريد الآن أن أبرئ ذمّة أبي.
وبهذه الذريعة.. أعطى الفقيرَ مالاً دون أن يُشعره بالمنّة ( 104:5 ـ 106 ).

--------

1 ـ يوسف: 58.
2 ـ أرض كنعان: فلسطين.
3 ـ يوسف، من الآية 88.
4 ـ الفتى: من الفتوّة، وهي كمال المروءة والأريحيّة والهمّة والشجاعة.
5 ـ يوسف، من الآية 59.
6 ـ يوسف، من الآية 65.