الحجّ في موكب التأريخ
الحجّ في موكب التأريخ
أحمد الواسطي
الحجّ عند البشر جميعاً :
هو زيارة جماعيّة لمكان مقدّس ، في وقت معلوم ، بقصد الشعور باقترابٍ خاصٍّ من المعبود الذي يؤمِن به القـوم ، ويربطون هذه الزيارة بذكريات معيّنة موغِلة في القِدم ، تتّصل بالمكان الذي يَفِدون إليه .
هكذا كان الحجّ ولا يزال ، فقد قدّس الناس : الأشجار ، والغابات ، والجبال ، والأنهار ، والآبار ، وجعلوا منها أماكن يزورونها جماعات ، فيشعرون بالقوّة التي يبعثها في نفوسهم العددُ الكثير ، وبالطمأنينة ؛ لوجودهم معاً في موقف عبادة ذات شعائر خاصّة ، ونظام دقيق .
ومِن المؤكّد أنّ الإنسان في العصور السحيقة قبل التاريخ كان يرتاد بقاعاً من الأرض يجد لها رهبة ، أو راحة نفسـيّة ، أو شفافيّة روحانيّة ، يحلّق بها في آفاق أسمى من المطالب المادِّيَّة التي تحاصره ، ثمّ تبلور هذا الشعور في العصور التاريخيّة القديمة :
* فالمصريّون القدماء كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم الفرعونيّة تجتمع في معبد ( أوزيريس ) بمدينـة ( أبيدوس ) في عيد هذا المعبود ، فكانوا يحجّون إليه بهذه المناسبة .
* وكان الهنود يحجّون إلى المعابد الضخمة بجبال الهملايا ، أو علـى ضفـاف نهــر الكنج ، في ( جُمن ) ، أو ( برندابان ) أو في مدينة ( بَنارِس ) الجليلة القدر عندهم .
* وفي الصين كانت الجبال المقدّسة التي يَؤمّونها للحج كثيرة ، خاصّة جبال ( تاي ـ تِشان ) .
* وفي اليابان حيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذيّة ، في تَعايُش سلمي منسجم ، تقوم معابد ( الشِنْتو ) ـ أي تقديس الأسلاف ـ مستقلّة عند المعبد البوذي ومجاورة له : الأُولى : تُسمّى في لغتهم ( جِنْج ) ، والثانية : ( أوتير ) ، وأماكن حجّهم على الجبال العالية ، ولا سيّما جبل ( فُوجي يام ) ، كما يؤمّون المعابد البوذيّة في مدينة ( نار ) ، حيث أقسم أسلافهم القدماء على تحرير وطنهم من التبعيّة لامبراطور الصين ، فأصبح معبدها البوذي مكاناً للحجّ .
* وفـي العـراق القـديم كانـت كـلّ إمارة سومريّة أو أَكَدِيَّة في ( الألف الرابع قبل الميلاد ) تَتّخذ لها عاصمة : تل العُبيد ( الوَرْكاء ) ، أُور ( إريدُو ) ، تل خَلَف ( نينوى ) ، بابل ( خفاجي ) ، أرْبِل ( كِرْكوك ) ... الخ ، وكان تخطيط العاصمة يبدأ بمعبد مركزي ، يمنح المدينة قُدسيّتها، إذْ يصبح حَرَماً ومكاناً للحج . وكان هذا المعبد :
ـ إمّا مربّعاً ؛ إشارة إلى أنّ الله هو المهيمن على الجهات الأربع للعالم : الشرق والغرب والشمال والجنوب .
ـ وإما بيضويّاً ؛ يذكّر بأنّ الله خالق للحياة ، بإرادته تخرج الدجاجة ، لتبيض بدورها بمشيئته ، فتستمرّ الحياة .
وفي كلّ معبد برج شامخ يسمّونه ( زِقُّورة ) : شكله مربّع في المعابد المربّعة ، ومستدير في المعابد البيضويّة ، ينتهي من أعلى بشرفةٍ يَرْصُد منها الكهنةُ النجومَ ، وكانوا يعبدونها ، ويعلنون بدايات الطقوس الدينيّة للحجّاج .
* وهكذا كان الحجّ في إيران القديمة وبلاد الحيثيّين في آسيا الصغرى ، وغيرها من بلدان العالم القديم .
وإذا كان إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) قد رفع القواعد من بيت الله في مكّة المكرّمة ، فإنّه لم يَرِد عنه ـ حتّى في المرويّات اليهوديّة ـ أنّه بنى لله تعالى بيتاً آخر في فلسطين ، بل يقولون : إنّه مرّ ببلدة ( سالم ) ـ وهو الاسم الفلسطيني القديم للقدس ـ فنزل ومَن معه ضيوفاً على ملكيصادق ( ملك الفلسطينيّين ) وقدّم ملكيصادق ـ ملك ( سالم ) ـ خبزاً ونبيذاً ; لأنّه كان كاهناً لله العليّ ، ثمّ باركه وقال :
( مبارك أبرام من الله العليّ مالك السموات والأرض ، وتبارك الله العليّ الذي دفع أعداءك إلى يديك ) (1) .
* أمّا الساميّون ، فقد كانوا على اختلاف عشائرهم يحجّون إلى أماكن معيّنة في أوقات معلومة ، وكان أهمّ هذه البقاع المباركة عندهم : الجبال ، والأشجار ، والآبار ، وعيون الماء ، فنقرأ ـ مثلاً ـ في التوراة :
( وهذه هي الرسوم والأحكام التي أعطاك الربّ إله آبائك ، لتملكها كلّ الأيّام ، التي تَحيَونها على الأرض ، تقوّضون جميع المواضع التي كانت الأُمم التي ترثونها تعبد فيها آلهتها : على الجبال الشامخة ، والتلال ، وتحت كلّ شجرة وارفة ، وتُهدّمون مذابحهم ، وتكسّرون أنصابهم ، وتحرّقون غاباتهم بالنار ، وتحطّمون زخارفهم لآلهتهم ، وتمحون أسماءهم من ذلك الموضع حتّى لا تصنعوا هكذا نحو الربّ إلهكم . بل الموضع الذي يختاره الربّ إلهكم من جميع أسباطكم ، ليحلّ فيه اسمه ويسكن فيه ، فتؤمونه ، وإلى هناك تسيرون، حاملين إليه محرقاتكم وذبائحكم وأعشاركم وتقدمات أيديكم ونذوركم ونوافلكم وبكور بَقَرِكم وغَنَمِكم . وتأكلون هناك أمام الربّ إلهكم ، وتفرحون بجميع ما تمتدّ إليه أيديكم أنتم وبيوتكم ، ممّا بارككم فيه الربّ إلهكم ) (2) .
ولم ينصّ الربّ ـ لا هنا ولا في أيّ نصّ من كتابهم ـ على هذا الموضع ! أمّا ( أورشليم ) فلم يكن اسمها قد أُطلق عليها بعد ، بل كانت تحمل اسم ( سالم ) الفلسطيني ، ثمّ سُمِّيتْ ( يبوس ) باسم العشيرة الفلسطينيّة التي كانت تسكنها ، أمّا ( أُورشليم ) فقد بدأ بناءَها داودُ ، وأتمّها سليمان ، كلّ ذلك بعد موسى بخمسمئة سنة ، وهما عند اليهود من الملوك وليسا من الأنبياء ، ولا الكهنة !
وكان اليهود ـ أو بنو إسرائيل ـ يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجّون إليها ويتبرّكون بها ، ويبنون عندها معابدهم (3) .
ولا يفوتنا أنْ نذكر ( بئر الحيّ الرائي ) بالقرب من الخليل ، وقبالة سنديانة قمراً ، وكثير من اليهود يحجّون إليها حتّى اليوم ؛ لِمَا جاء في التوراة :
( وكان بعد موت إبراهيم أنّ الله بارك إسحق ابنه ، وأقام إسحق عند بئر الحيّ الرائي ... ) (4) .
كما سبق ذكر التبرّك بهذه البئر ، إذْ تزوّج عندها إسحق من رفقة ، قبل موت أبوَيه إبراهيم وسارة (5) .
أمّا معبد ( بيت إيل ) الذي أقامه يعقوب في أرض كنعان بالقرب من نابلس ، فقد كان المكان الأوّل الذي يحجّ إليه بنو إسرائيل ، حتّى بعد أنْ شيّد سليمان الهيكل في القدس ، ولم يفقد منزلته هذه إلاّ بعد انشطار مملكة سليمان نصفين بعد وفاته :
ـ السامرة شمالاً ، وكانت مملكة معادية لأُسرة داود وسليمان في الجنوب ، وتسمّي نفسها إسرائيل ! واستمرّت في الحجّ إلى ( بيت إيل ) .
ـ أمّا أُسرة يهوذا المنحدرة من داود وسليمان فكانت تحجّ إلى ( الهيكل ) في أُورشليم ، وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ سليمان .
الحجّ قبل الإسلام وبعده :
تُعدُّ أيّام الحج وما بعدها أعياداً تُقام بها الأفراح ؛ لإدخال السرور إلى قلب الأرباب . ويكون الحجّ بـ ( الدعاء وبمخاطبة الآلهة ) ، غير أنّ بعض الجاهليّين كان يحجّ صامتاً أي من دون كلام .
وقد تميّز الشهر الذي يقع فيه الحجّ عن الأشهر الأُخرى بتسميته بـ ( شهر ذي الحجّة ) وبـ ( شهر الحجّ ) ، وهذه التسمية ـ المعروفة حتّى الآن في التقويم الهجري ـ هي تسمية قديمة ، كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام (6) .
وكان هناك عدد من الآلهة يحجّ الناس إليها في الجاهليّة ; لذلك تعدّدت بيوت الأرباب . ومعنى هذا أنّ حجّ أهل الجاهليّة لم يكن إلى مكّة وحدها ، بل كان إلى محجّات عديدة أُخرى ، بحيث حجّ كلّ قوم إلى البيت الذي قدّسوه ، والصنم الذي عبدوه وطافوا حوله وتقرّبوا إليه ولبّوا له .
* وكانت ( قريش ) تتعبّد لأصنامها في الكعبة ، ولكنّها كانت تزور ( العزّى ) وتهـدي لهـا وتتقـرّب لها بالذبائح .
* كما كانت ( قُضاعة ) و ( لَخْم ) و ( جَذام ) و ( أهل الشام ) يحجّون إلى ( الأُقيصر ) ويَحْلقون رؤوسهم عنده .
* وكانت ( مُذْحِج ) تحجّ إلى ( يَغوث ) ، كما كانت ( طَي ) تعبد ( الغَلَس ) وتهدي إليه ، وكانت ( ثقيف ) تعبد ( اللاّت ) في الطائف .
* وحجَّ الجاهليّـون إلـى بيـوت أُخـرى مثل : ( بيت نجران ) و ( بيت ذي الخِلْصة ) و ( بيت مناة ) و ( بيت جَهار ) و ( سُواع شمس ) و ( مَحرِق ) و( مَرحَب ) و ( ذُريح ) (7) .
ولم تكن طقوس الحجّ إلى مكّة واحدة عند كلّ القبائل ، بل كانوا يختلفون ، ويصنّفهم المؤرّخون في صنفين عامّين هما : ( الحُمْس ) أو (الأحماس ) و ( الحُلّة ) ، ويضيف البعض صنفاً ثالثاً هم : ( الطُلْس ) أو ( الأطلاس ) .
ـ و ( الحُمْس ) : من العرب ، وهم قريش كلّها ، و ( خُزاعة ) ؛ لنزولها مكّة ، وكلّ مَن ولدت قريش من العرب ، وكلّ مَن نزل مكّة من قبائل العرب .
ـ أمّا ( الطُلْس ) : فهم سائر أهل ( اليمن ) ، وأهل ( حضرموت ) ، و ( عك أياد ) .
ـ أمّا ( الحُلّة ) : فالمفروض أنّهم بقيّة القبائل .
والأخباريّون يذكرون أنّ الطائفين بالبيت كان صِنْفٌ منهم يطوف عرياناً ، وصِنْف يطوف في ثيابه ، ويُعرف مَن يطوف بالبيت عرياناً بـ : ( الحَلّة ) ، أمّا الذين يطوفون بثيابهم فيعرفون بـ : ( الحُمْس ) ، وكان ( الطُلْس ) لا يتعرَّون حول الكعبة ولا يستعيرون ثياباً ، ويدخلون البيوت من أبوابها ولا يئدون بناتهم .
وكان ( الحَلّة ) يقصدون من نزع الثياب طرح ذنوبهم معها ويقولون : إنّهم لا يطوفون في الثياب التي فارقوا فيها الذنوب ، ولا يعبدون الله في ثياب أذنبوا بها ، وذُكر أنّ ( الحُلّة ) إذا أتمّوا طوافهم تركوا ملابسهم عند الباب ولبسوا ملابس جديدة (8) .
وقد منع الإسلام طواف العُرِي في أيّ وقت ، وحتّم على جميع قريش وغيرهم لبس الإحرام ، والإحرام قديم عُرف عند غير العرب أيضاً ، ويظهر أنّ أهل مكّة وقريشاً كانوا يلبسون الإحرام أو يعيرونه لغيرهم من العرب إنْ كانوا من حلفائهم .
ومن المحتمل أنّ ( المَعينيّين ) و ( السَبيئيّين ) و ( القَتْبانيّين ) و ( الحَضْرميّين ) كانوا يطوفون حول معابدهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز ; لأنّ الطواف حول بيوت الأصنام من السنن الشائعة بين العرب وعند بني ( أرم ) و ( النبط ) ، وكان الطواف حول البيت الحرام بمكّة سبعة أشواط (9) .
ومن مناسك الحجّ :
* التلبية :
وهي إجابة الملبّي ربّه وقولهم : لبّيك اللّهمّ لبّيك معناه : إجابتي لك يا رب.
وكان الجاهليّون يلبّون تلبيات مختلفة :
ـ فتلبية قريش كانت : ( لبّيك اللّهمّ لبّيك . لبّيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك ) .
ـ وتلبية مَن نَسك للعزّى كانت : ( لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبيك وسعديك ما أحبّنا إليك ) .
ـ وتلبية مَن عبد اللاّت كانت : ( لبّيك اللّهمّ لبّيك ، كفى ببيتنا بنية ليس بمهجور ولا بليّة ، لكنّه مِن تربة زكيّة أربابه من صالحي البريّة ) .
ـ وكانت تلبية من عبد ( هبل ) : ( لبّيك اللّهمّ لبّيك ، إنّنا لقاح حرمتنا على أسنّة الرماح يحسدنا الناس على النجاح ) .
والتلبية هي من الشعائر الدينيّة التي أبقاها الإسلام ولكنّه غيّر صيغها القديمة بما يتّفق مع عقيدة التوحيد ، فصارت على هذا النحو: ( لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبّيك ) .
كما جعلها جزءاً من حجّ مكّة بعد أنْ كانت تتمّ خارج مكّة ؛ إذْ كانت كلّ قبيلة تقف عند صنمها وتصلّي عنده ثمّ تلبّي قبل أنْ تأتي إلى مكّة ، وذلك بالنسبة لِمَن كان يحجّ مكّة ، فأبطل ذلك الإسلام (10) .
* ومن مناسك الحجّ السعي بين الصفا والمروة :
وكان بهما صنمان هما لـ ( أساف ) و ( نائلة ) ، وطواف الحجّاج بهما قدْر طوافهم بالكعبة ، أي سبعة أشواط ، وكانت قريش تقوم بذلك ، أمّا غيرهم فلم يطوفوا بهما.
وبين ( الصفا ) و ( المروة ) يكون المسعى ، وكان ( أساف ) بالصفا و ( نائلة ) بالمروة ، وكان أهل مكّة يطوفون بـ ( أساف ) أوّلاً ويلمسونه كلّ شوط ثمّ ينتهون بـ ( نائلة ) ويلبّون لها ، وذُكر أنّ قوماً من المسلمين قالوا : يا رسولَ الله ! لا نطوف بين ( الصفا ) و ( المروة ) ، فإنّه شرك كنّا نصنعه في الجاهليّة ، ولمّا جاء الإسلام وكُسِرَتْ الأصنام كَرِهَ المسلمون الطواف بينهما ؛ لأجل الصنمين ، فأنزل الله فـي كتابه الكريم : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ... ) (11) .
ويتّضح من الأخبار أنّ الذين كانوا يطوفون بالصنمَين ويسعون بينهما هم قريش خاصّة ; لأنّها كانت تعبد الصنمَين ، وليس كلّ مَن كان يحجّ من العرب ، وقد استبدل الإسلام الطواف بالسعي بين الموضعين ، وذُكر أنّ السعي بين ( الصفا ) و ( المروة ) شعارٌ قديم من عهد هاجر أُمِّ إسماعيل (12) .
* ومن مناسك حجّ أهل الجاهليّة الوقوف بـ ( عرفة ) :
ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجّة ، ويسمّـى ذلك اليـوم ( يوم عرفة ) ، ومـن ( عرفة ) تكون الإفاضة إلى ( المزدلفة ) ، ومـن ( المزدلفة ) إلى ( منى ) .
وكان الجاهليّون من غير قريش يفيضون في ( عرفة ) عند غروب الشمس ، وفي ( المزدلفة ) عند شروقها ، ولم يكن ( الحَمس ) يحضرون ( عرفة ) وإنّما كانوا يقفون ( بالمزدلفة ) ، وقد بدّلَ الإسلام ذلك وأخضع الجميع للوقوف بـ ( عرفة ) ، قال تعالى : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (13) ، يعني من ( عرفة ) .
و ( عرفة ) :
موضع على مسافة غير بعيدة عن ( مكّة ) . ولابدّ من أنّه كان من المواضع التي قدّسها الجاهليّون ، وربّما كان له ارتباط بصنم مـن الأصنام ، ويقف الحجّاج المسلمون موقف ( عرفة ) من الظهر إلى وقت الغروب ، وقد يكون وقوف الجاهليّين في ( عرفة ) وقت الغروب له علاقة بعبادة الشمس ، فإذا غربت الشمس اتّجه الناس إلى :
* ( المزدلفة ) :
وهي على منتصف الطريق بين ( عرفة ) و ( منى ) ، وفيها يبيت الحجّاج ليلة العاشر من ذي الحجّة ، وقد وُصفتْ في القرآن الكريم بالمشعر الحرام ، وكانت الإفاضة منها عند شروق الشمس إلى ( منى ) ، ومن المحتمل أنّ ( المزدلفة ) كانت من مواضع الجاهليّة المقدّسة التي لها صلة بالأصنام (14) .
وذُكر جبل بـ ( المزدلفة ) اسمه ( قُزَح ) ، وهناك صنم يُقال له : ( قُزَح ) ، وقد تكون له صلة بهذا الموضع ، ويُذكر أنّه كانت على قُزَح اسطوانة من حجارة مدوّرة محيطها (24) ذراعاً ، وارتفاعها (12) ذراعاً ، كانت توقد عليها النيران منذ زمن قصيّ ليلة الجمعة ، وعند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجّة كان الحجّاج في الجاهليّة يفيضون من ( المزدلفة ) إلى منى ؛ لرمي الجمرات ولنحر العتائر (15) ، وإفاضة الجاهليّين عند طلوع الشمس له دلالة على عبادة الشمس عندهم .
* ورمْي الجمرات بمِنى من مناسك الحجّ :
وهو من شعائر الحجّ المعروفة في المحجّات الأُخرى في جزيرة العرب ، وكان معروفاً عند غير العرب أيضاً .
ويُرجِع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى ( عمرو بن لحي ) ، وتُرمَى الجمرات على مكان عُرِف بموضع الجمار بِمِنَى ، تتجمّع وتتكوّم عنده الحصى ، وهي جمرات ثلاث : الجمرة الأولى ، والجمرة الوسطى ، وجمرة العقبة ، ويرمي المسلمون كلاًّ منها بسبع حصي (16) .
ومن الشعائر المتعلّقة بمنى نحر الذبائح وهي ( العتائر ) في الجاهليّة ، والأضاحي أو الهدْي في الإسلام ؛ ولذلك عُرِف هذا العيد بعيد الأضحى .
وكان الجاهليّون يقلّدون ( عتائرهم ) بقلادة أو بنعلَين يعلّقان على رقبة الحيوان ؛ إشعاراً للناس بأنّه للذبح .
ولا يحلّ للحجاج في الجاهليّة حلق شعرهم أو تقصيره طيلة حجّهم وإلاّ بطل حجّهم ، ويلاحظ أنّ غير العرب من ( الجزيريّين ) كانوا يفعلون ذلك في المناسبات الدينيّة ، وكانت القبائل لا تحلق شعرها إلاّ عند أصنامها وذلك بعد النحر مباشرة ، ولا يجوز أنْ يتمّ قبله ، ولا يُقتصر ذلك على الحجّ إلى مكّة ، بل يمتدّ إلى بقيّة الآلهة :
ـ فكان الأوس يحلقون شعرهم عند مناة .
ـ وكانت ( قضاعة ) و ( لخم ) و ( جذام ) تقصّ شعرها عند ( الأُقيصر ) .
ويجوز للحجّاج مغادرة ( منى ) في اليوم العاشر من ذي الحجّة ، أي في اليوم الأوّل من العيد ، ففي هذا اليوم يُكْمِل الحجّاج حجّهم ، ولكن فيهم مَن يبقى في هذا المكان حتّى اليوم الثالث عشر ؛ وذلك ابتهاجاً بأيّام العيد (17) .
والجدير بالذكر أنّ الإسلام خَطَا بالضمير الإنساني شوطاً بعيداً في جميع هذه المناسك والعبادات ، فالمسلم لا يحجّ إلى الكعبة ليعزّز فيها سلطان الكهّان أو ليقدّم إليهم القرابين والإتاوات، وإنّما هي فريضة ( عباديّة ـ سياسيّة ) للأُمّة وفي مصلحة الأُمّة ، وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأُمّة ، وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعيّة تُعلِن فيها الأُمم الإسلاميّة وحدتها ، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله . وليس المقصود بالضحيّة في الإسلام أنّها طعام للكهّان ، أو طعام للإله ، ولكنّها سخاء من النفس في سبيل العبادة ، يُشير بها الإنسان إلى واجب التضحية بشيء من الدنيا في سبيل الدين ، متجشّماً لذلك مشقّة الرحلة وتكاليفها جهد المستطيع .
ويمتاز الحجّ في الإسلام بدلالته الروحيّة التي تناسب مقصدها الأسمى من تحقيق الرابطة بين الأُمم ، التي تدين بعقيدة واحدة في أرجاء الكرة الأرضيّة على تباعد مواقعها واختلاف أجوائها وفصولها ، فهو رابطة من روابط السماء تؤمن بها أُمم وحّدتها العقيدةُ السماويّة ، وإنْ فرّقتْ بينها شتّى المطارح والبقاع .
والحجّ الإسلامي في عصرنا هذا هو الفريضة الوحيدة الباقية من قبيلها في جميع الأديان الكتابيّة ، فهيكل بيت المقدس قد تهدّم منذ القرن الأوّل للميلاد ، ولم يرد في الأناجيل المسيحيّة نصّ على مكان مقدّس مفروض على المسيحيّين أنْ يحجّوا إليه ، وكلّ ما عُرف بعد القرون الأُولى فإنّما اتّبع فيه الخَلْق سُنّة الملكة ( هيلانة ) أُمّ الامبراطور قسطنطين ، التي قيل : إنّها وجدتْ الصليب الأصيل في فلسطين عندما توجّهت إليها لزيارة آثار السيّد المسيح ، وهي قصّة يكفي للدلالة على قيمتها التاريخيّة أنّ رواتها جميعاً نقلوها بعد عصر الملكة ( هيلانة ) ، وأنّ مؤرّخ العصر الأكبر يوسيبيوس Eusebius لم يشر إليها بكثير أو قليل على شدّة اهتمامه باستقصاء الأخبار التي لا تُذْكَر بالقياس إلى هذا الخبر العظيم .
ثمّ تتابعت القرون والدول ـ المنتسبة إلى المسيحيّة ـ وهي تتذرّع بالأماكن المقدّسة لترويج مطامعها السياسيّة ، فروسيا القيصريّة تدّعي حمايتها على مذهب الكنيسة الشرقيّة ، وملوك فرنسا يدّعون حمايتها على مذهب الكنيسة الغربيّة ، ولمّا ذهب هؤلاء الملوك وتبعتهم دولة الجمهوريّة ( اللاتينيّة ) كانت الغيرة على الحجّ في عهدها على أشدّها وأقواها ، ونشأتْ في أيّامها صحيفة الحاج Pelerin التي بلغ المطبوع من أعدادها مئات الأُلوف ، وامتلأت صفحاتها بأنباء المعجزات والكرامات التي تشاهد في أرض الميلاد ، وتظافرت الدولة والكنيسة على ترويجها خدمة لمطامع الاستعمار .
ثمّ تقلّبت الأيّام حتّى رأينا دعاة الاستعمار يسلّمون الأماكن المقدّسة إلى أيدي الصهيونيّين !
أمّا فريضة الحجّ الإسلامي فقد بقيت لها رسالتها التي لا عبث فيها ولا موضع للمكر والدسيسة من ورائها ، وإنّ رسالتها اليوم في العالم الإسلامي لأَعْظَم وأَلْزَم من رسالاتها في جميع الأزمنة ; لأنّها العهد المجدّد في كلّ عام بين شعوب الإسلام إلى الوفاق والوئام .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) التوراة ، سفر التكوين 14 : 18 ـ 20 .
(2) سفر التثنية 12 : 1 ـ 7 .
(3) سفر التكوين 18 : 1 ـ 14 .
(4) التكوين 25 : 11 .
(5) التكوين 24 : 62 .
(6) د. جواد علي ، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 6 : 190 .
(7) المصدر نفسه ، ودراسة مستقلّة حول أصنام العرب .
(8) المصدر نفسه 6 : 198 .
(9) المصدر نفسه .
(10) د. جواد علي ، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 6 : 201 .
(11) البقرة : 158.
(12) د. صالح العلي ، محاضرات في تاريخ العرب 1 : 75 .
(13) البقرة : 199 .
(14) د. صالح العلي ، محاضرات في تاريخ العرب 1 : 80 ـ 81 .
(15) الذبائح .
(16) المصدر نفسه : 86 .
(17) المصدر نفسه : 86 .