ومن خطبة له عليه السلام 4

[ وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الاَغنياء بالشفقة ]

[ تهذيب الفقراء ]

أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الاْمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الاْرْضِ كَقَطر المَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فإذا رَأَى أَحَدُكُمْ لاِخِيهِ غَفِيرَةً (1) في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالفَالِجِ (2) اليَاسِرِ (3) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ عَنْهُ بهاالمَغْرَمُ..
وَكَذْلِكَ المَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُوأَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ..
إِنَّ المَالَ وَالبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الاْخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لاِقْوَامٍ، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِمَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتُ بَتَعْذِيرٍ (4) وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ (5) ثة إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ..
نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الاْنْبِيَاءِ..

 

[تأديب الاَغنياء]

أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ ـ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ ـ عَنْ عَشِيرَتِهِ،
وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً (6) مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ (7) لة، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إنْ نَزَلَتْ بِهِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ (8) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ..
منها: أَلاَ لاَيَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابِةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ (9) أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لايَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ (10) وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ؛ وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ..
وما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله: «ومن يقبض يده عن عشيرته...» إلى تمام الكلام، فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة؛ فإذا احتاج إلى نصرتهم، واضطر إلى مرافدتهم (11) قعدوا عن نصره، وتثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الاَيدي الكثيرة، وتناهض الاَقدام الجمة..

------------
1. غفيرة: زيادة وكثرة..
2 . الفالج: الظافر، فَلَجَ يَفْلُجُ ـ كنصر ينصر ـ : ظفر وفاز، ومنه المثل: «من يأتِ الحكم وحده يَفْلُجُ»..
3 . الياسر: الذي يلعب بقِداح المسير أي: المقامر، وفي الكلام تقديم وتأخير، ونَسَقُهُ: كالياسر الفالج، كقوله تعالى: (وغرابيب سُود) ، وحَسّنَهُ أن اللفظتين صفتان، وإن كانت إحداهما إنّما تأتي بعد الاَخرى إذا صاحبتها..
4 . التعذير ـ مصدر عذّرَ تَعْذيراً ـ : لم يثبُتْ له عُذْر..
5. يَكِلُه الله: يتركه، من وَكَلَ يَكِلُ: مثل وزن يزن..
6 . حَيْطة ـ كبيعة ـ : رعاية وكلاءة..
7. الشَعَث ـ بالتحريك ـ : التفرق والانتشار..
8. لسان الصدق: حُسْنُ الذكر بالحق..
9. الخَصَاصة: الفقروالحاجة الشديدة، وهي مصدر خَصّ الرجل ـ من باب عَلِمَ ـ خَصَاصاً وخَصَاصة، وخصاصاء ـ بفتح الخاء في الجميع ـ إذا احتاج وافتقر، قال تعالى: (ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصةٌ) ..
10. أهلك المالَ: بِذَلَهُ..
11. المُرافَدَةُ: المُعاوَنَة..