عَمْرو بن جُنادة الأنصاريّ
هؤلاء ذكروه
مع أنّ عمرو بن جُنادة بن الحارث الأنصاري كان شابّاً يافعاً، إلاّ أنّ التاريخ ذكره؛ لأنّه التحق مع أبيه وأمّه بالركب الحسينيّ الشريف، ولأنّه تقدّم إلى الشهادة بعد أبيه، فكان له في لوحة كربلاء ذِكرٌ جمّ، رحمه الله ورضي عنه.
وكان ممّن ترجم له معرِّفاً به أنّه أحد شهداء يوم عاشوراء في كربلاء: ابن شهرآشوب في ( مناقب آل أبي طالب 104:4 )، والخوارزميّ الحنفيّ في (مقتل الحسين عليه السلام 21:2 ـ 22)، والشيخ المجلسيّ في ( بحار الأنوار 28:45 ).. وعدّة من المؤرّخين والرجاليّين وأصحاب المقاتل والسِّيَر.
وهذا الشابّ الشهيد هو ابن الشهيد جُنادة بن الحارث، أنصاريّ من اليمن، من عرب الجنوب. وقد وصفوه أنّه كان غلاماً صحب أباه إلى كربلاء، أو أنّه كان غلاماً غير مراهق، ابن تسع عشرة سنة، أو إحدى وعشرين سنة(1).
مع الحسين بعد أبيه
• كتب الخوارزمي الحنفيّ: ثمّ خرج جنادة بن الحرث الأنصاريّ وهو يقول:
أنا جُنادةٌ أنَـا ابـنُ الحـارثِ | لسـتُ بِخَـوّارٍ ولا بنـاكـثِ | |
عن بيعتي حتّى يقـومَ وارثـي | من فوقِ شلوٍ في الصعيد ماكثِ |
فحمل، ولم يزل يقاتل حتّى قُتِل.
أضِقِ الخناقَ مِن ابنِ هندٍ وارْمِهِ | في عُقرِه بفوارسِ الأنصـارِ... |
ثمّ حمل فقاتل حتّى قُتل.
(ويعود الخوارزميّ ـ كغيره ـ يفصّل في خروج هذا الشابّ إلى ساحة المعركة، ولكنّه ـ كغيره أيضاً ـ يذكره كأنّه شخص آخر، حيث يكتب: )
ثمّ خرج مِن بعده شابّ قتُل أبوه في المعركة...(2).
أُمّي أمرَتْني
أوّلاً وقبل كلّ شيء ثبّت بعضُ أهل التحقيق، بل جُلُّهم، أنّ الشابّ الذي خرج بعد أن قُتل أبوه في المعركة، هو عمرو بن جُنادة بن الحارث الأنصاريّ، وذلك حين أمَرَته أمُّه أن يتقدّم فيقاتل، فماذا قالت له يا تُرى ؟
قالت له: أُخرُجْ يا بُنَيّ وقاتِلْ بين يَدَي ابن رسول الله. فخرج، ووقف أمام الحسين عليه السلام يستأذنه، فأعاد عليه ان من الإمام عليه السلام في شأن هذا الشابّ اليافع ؟! قيل: أبى الحسين عليه السلام وكره ذلك قائلاً: « إنّ هذا غلامٌ قُتل أبوه في المعركة، ولعلّ أمّه تكره خروجه »، وفي روايةٍ أخرى: « هذا غلامٌ قُتل أبوه في الحملة الأولى، ولعلّ أمّه تكره ذلك »، فماذا قال هذا الغلام المؤمن ؟ قال لسيّده وإمامه الحسين عليه السلام: إنّ أمّي هي التي أمَرَتني »، فأذِن عليه السلام له(3).
ولعلّ سائلاً يقول: مَن هي تلك أمُّه ؟
قيل: هي زوجة الشهيد جُنادة بن كعب الأنصاريّ الخزرجيّ، أمّ عمرو، بحريّة بنت مسعود الخزرجي(4).
السيف واللسان معاً
برز عمرو بن جنادة إلى ساح الطفّ شاهراً سيفَه، مُطلقاً بهذه القصيدةِ لسانَه:
أضِقِ الخناقَ مِنِ ابن هندٍ وارمِهِ | في عُقرِه بفـوارسِ الأنصـارِ | |
ومهاجرينَ مُخضِّبين رماحَهُـم | تحت العجاجةِ مِـن دمِ الكفّـارِ | |
خُضِبت على عهدِ النبيِّ محمّـدٍ | فاليومَ تُخضَب مِن دمِ الأشرارِ | |
واليومَ تُخضَب مِن دماءِ معاشرٍ | رفَضُوا القُرانَ لنُصرةِ الأشرارِ | |
طَلَبوا بثأرِهـمُ ببـدرٍ إذ أتَـوا | بالمُرهَفـاتِ وبالقَنـا الخَطّـارِ | |
واللهِ ربّـي لا أزالَ مُضاربـاً | للفاسقيـن بِمُـرهَـفٍ بـتّـارِ | |
هذا علَيَّ اليـومَ حـقٌّ واجـبٌ | في كلّ يومِ تَعانُقٍ وكِـرارِ(5) |
وهنا أيضاً قال أصحاب المقاتل والسِّيَر: ثم حمل فقاتل حتّى قُتِل. ثمّ خرج مِن بعده شابّ قُتل أبوه في المعركة، وكانت أمّه عنده، فقالت: يا بُنَيّ، اخرُجْ فقاتِلْ بين يدي ابن رسول الله حتّى تُقتَل، فقال: أفعَل. فخرج...(6).
وهنا أيضاً تُروى له أرجوزة يقول فيها:
أميري حسينٌ ونِعـمَ الأميـرْ | سرورُ فـؤادِ البشيـرِ النذيـرْ | |
عـلـيٌّ وفاطـمـة والــداه | فهل تعلمون له مِن نظيرْ ؟!(7) |
ولكنّ الجميع بعد ذِكر الأبيات السالفة واللاحقة قالوا:
ثمّ قاتل فقُتل، أو: قاتل حتّى قُتل، أو في تعبير آخر: ثمّ إنَّ روح عمرو بن جنادة نزَلَت عن ظَهر مركب البدن وسط الميدان، وحلّقت إلى رَوح الجِنان(8).
وقيل أيضاً: فما أسرع أن قُتل، وحُزّ رأسه، أو جُزّ، ورُمي به إلى عسكر الإمام الحسين عليه السلام، أو إلى جهة الحسين عليه السلام(9)، فمن تلقّاه حينذاك يا تُرى؟!
وكانت به أولى
بعد أن رُميَ برأس عمرو بن جنادة إلى جهة الإمام الحسين عليه السلام تلَقَّته أمُّه، وأخذته إلى حِجرها وصدرها تخاطبه: أحسنتَ يا بُنَيّ يا سرورَ قلبي و يا قُرّة عيني(10). هذا وهي تمسح الدمَ عنه، ثمّ هاجت بها الحميّة والغَيرة، فحمَلَت رأسَ ولدها وضربت به رجلاً كان قريباً منها فقتَلَته(11).
ولم تكتفِ بذلك، حتّى عادت إلى خيمتها فخلعت عمودَها وحملت به على الأعداء لتقاتلهم وهي ترتجز وتقول:
إنّي عجوزٌ في النِّسا ضعيفة | خـاويـة بالـيـةٌ نحيـفـة | |
أضربُكـم بضربـةٍ عنيفـة | دونَ بَني فاطمةَ الشريفة(12) |
وكان مِن همّتها وإيمانها وشجاعتها أن قتلت رجلَينِ من عسكر عمر بن سعد عليه وعليهم لعائن الله، ثمّ جاءها الإمام الحسين عليه السلام فردّها إلى خيمتها، ودعا لها(13).
فسلامٌ على ولدها وعليها، وهنيئاً له ولزوجها ولها، ويكفيهم أنّ إمام زمانهم كان راضياً عنهم، وهو القائل صلوات الله عليه: « رضى الله رضانا أهلَ البيت »(14).
---------------
1 ـ إبصار العين في أنصار الحسين للشيخ محمّد السماويّ:159، مقتل الحسين عليه السلام للسيّد عبدالرزّاق الموسويّ المقرّم:153، العيون العبرى للميانجيّ:129 ـ عن تنقيح المقال للشيخ عبدالله المامقانيّ.
2 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 21:2.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 21:2 ـ 22، بحار الأنوار 7:45، العيون العبرى:129 ـ 130، إبصار العين:159.
4 ـ العيون العبرى:131.
5 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2، ناسخ التواريخ للميرزا محمّد تقي سپهر 405:2، بحار الأنوار 28:4، مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف:108، وقد قالت بعض المصادر إنّ الأبيات ليحيى بن كثير الأنصاريّ المستشهد في كربلاء، أنشأها وهو في قلب المعركة، يراجع: ناسخ التواريخ 405:2.
6 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2.
7 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2 العيون العبرى:130، مناقب آل أبي طالب 113:4.
8 ـ ناسخ التواريخ 405:2، مناقب آل أبي طالب 113:4.
9 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2، العيون العبرى:130، إبصار العين:159، بحار الأنوار 28:48.
10 ـ العيون العبرى:130، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2.
11 ـ مناقب آل أبي طالب 113:4، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2.
12 ـ مناقب آل أبي طالب 104:4، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2.
13 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ 22:2، بحار الأنوار 28:45، مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف:112 ـ بتفاوت.
14 ـ الملهوف على قتلى الطفوف للسيّد ابن طاووس:53.