شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

محمّد بن أبي بكر ربيب أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) وواليه على مصر

0 المشاركات 00.0 / 5

محمّد بن أبي بكر

 ربيب أمير المؤمنين علي ( عليه السّلام ) وواليه على مصر

شبكة الإمام الرضا ( عليه السّلام )

تميّز التاريخ الإسلامي بنفر من القادة ، تولّى بعضهم مصراً من الأمصار ، أو قاد جيشاً ، أو عُهد إليه بسفارة أو تمثيل لحاكم أعلى ، هؤلاء الرجال بالرغم من أهمّية المسؤوليّة الموكَلَة إليهم ، كانوا فتيةً في رَيعان الصبا وشرخ الشباب ، لم يتجاوز سنّهم العقد الثالث من العمر ، بل دون ذلك أحياناً ، وهذا إنْ دلّ على شيء ، فإنّما يدلّ على دور الشباب في حركة الدين والإصلاح الاجتماعي ، فهم الشعلة المتوقّدة والطاقة المتوثّبة .

لقد انتدب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مصعب بن عمير ، الشاب المترَف المدلّل الذي صدف عن زخرف الدنيا وزينتها ، ليمثّله في المدينة للقاء الأنصار ، عشيّة هجرته المباركة ، وكان أسامة بن زيد قائداً في غزوة ، وتحت إمرته كبار الصحابة ، ومَنْ هم أقدم منه هجرة وإسلاماً ، وهو ابن الثامنة عشرة .

وتوّلى محمّد بن أبي بكر ولاية مصر ، وما أدراك ما مصر ! فهي أعظم ولاية في حواضر الإسلام ، في امتداد الأرض وسعتها وكثرة سكّانها ، وأهمّية موقعها ، حيث تحتاج إلى قائدٍ محنّك ووالٍ ذي سياسة قويّة ، كُلّ ذلك توفّر في محمّد بن أبي بكر حيث كان واعياً لمهمّته التي كان بها جديراً .

هو ابن أبي بكر ، عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي القرشي ، وُلِد في حجّة الوداع ، بذي الحليفة ، وهي موضع بين مكّة والمدينة ، في شهر ذي القعدة سنة 10هـ ، نشأ في المدينة المنوّرة ، في حجر الإمام علي ( عليه السّلام ) ، وشهد معه الجمل وصفّين ، وولاّه مصر .

والدته أسماء بنت عُمَيس الخثعميّة ، وكانت أسماء زوجةَ جعفر بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وهي تعدّ من النساء الأوائل في الإسلام ، ومن شيعة علي ( عليه السّلام ) ، وكانت تكثر من السؤال لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لتتعلّم معالم دينها منه ، هاجرت مع زوجها جعفر إلى الحبشة في أوائل مَنْ هاجر ، فولدت له هناك عبد الله الجواد ، ثُمّ استشهد جعفر في يوم مُؤْتَة ، فتزوّجها أبو بكر ، فولدت له محمّداً ، ثُمّ توفّي أبو بكر ، فتزوّجها الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) ، فأصبح محمّد ربيبه وخرّيجه ، وجارياً عنده مجرى أولاده ، رضع الولاء والتشيّع من زمن الصبا ، واستقاه من أمّه ومربّيه ، فلم يكن يعرف أباً له غير علي ( عليه السّلام ) ، ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره ، حتّى قال علي ( عليه السّلام ) : ( محمّد ابني من صلب أبي بكر ) ، وكان يكنّى أبا القاسم ، وكان من عُبّاد المسلمين ونسّاكهم ، وكان يثنى عليه لفضله وعبادته واجتهاده .

قرابته من آل علي ( عليه السّلام ) :

لم يكن محمّد بن أبي بكر ربيباً لعلي ( عليه السّلام ) فحسب ، وإنْ كان حَسْبه شرفاً وفخراً أنْ يحظى بتلك الكفالة التي حظي بمثلها إمامه عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، كما حظي كافلو النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والقائمون على تنشئته وإرضاعه مثل عبد المطلب وأبي طالب وحليمة السعديّة ؛ لأنّ الفيوضات الروحيّة ، والكمالات الإنسانيّة تسري من الأكثر كمالاً إلى مَنْ له القابليّة لتلقّي تلك الفيوضات الروحانيّة والمزايا السَّنية .

لقد كان محمّد أخاً لعبد الله بن جعفر لأمّه ، وعاش ردحاً من الزمن في كنف الحسنَين ( عليهما السّلام ) يقتبس من نورَيهما ويتأثّر بهما ، ثُمّ جاء فَتْح فارس في معركة القادسيّة ، فأُسِر ليزدجرد أربع بنات ، كانت إحداهن من نصيب الإمام الحسين ( عليه السّلام ) ، فأنجبت له الإمام زين العابدين ( عليه السّلام ) ، وهي شاه زنان ، والثانية شهر بانويه ، تزوّجها محمّد بن أبي بكر فولدت له القاسم ، وتوفّيت شاه زنان أمّ الإمام زين العابدين ، فقامتْ بتربيته خالته شهر بانويه زوجة محمّد ، فأنزلها الإمام زين العابدين ( عليه السّلام ) بمنزلة أمّه ، أمّا البنتان الأُخريان فتزوّج إحداهما الإمام الحسن ( عليه السّلام ) والثانية عبد الله بن عمر ، فعلى هذا يكون القاسم بن محمّد والإمام زين العابدين ( عليه السّلام ) أبناء خالة ، وكان للقاسم ابنة اسمها ( أمّ فروه ) تزوّجها إمامنا الباقر ( عليه السّلام ) ، فولدت له الإمام الصادق ( عليه السّلام ) ، فيكون محمّد بن أبي بكر جدّ الإمام الصادق ( عليه السّلام ) لأمّه ، مع العلم أنّ أمّها هي ابنة عبد الرحمان بن أبي بكر شقيق محمّد ، ومن ألطاف الله على محمّد بن أبي بكر أنْ جعل ذرّيته موصولة الرحم بذرّية الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .

يقول الأصمعي : ( كان أكثر أهل المدينة لا يرغبون في الإماء ، حتّى نشأ فيهم علي بن الحسين ( عليه السّلام ) والقاسم بن محمّد وسالم بن عبد الله بن عمر ، ففاقوا أهل المدينة علماً وفقهاً وورعاً ، فرغب الناس في الإماء .

جهاده :

اشترك محمّد بن أبي بكر في معركة الصواري البحريّة سنة 31هـ ، في عهد عثمان بن عفّان ، وهي معركة بحريّة جرتْ بين المسلمين والروم ، وأُرْسِل محمّد في سفارة إلى أبي موسى الأشعري بالكوفة في عهد أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) ، وفي معركة الجمل كان قائد الرجّالة ، وهو الذي حمل الهودج من بين القتلى ، فأمر الإمام علي ( عليه السّلام ) أنْ يُضرب عليه قبّة ، ثُمّ قال لمحمّد : ( انظر هل وصل إلى أختك عائشة شيء من جروح ) . وعندما أقبل الليل أدخلها البصرة وأنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي ، ضيفة عند صفيّةً بنت الحرث بن أبي طلحة ، ثُمّ أعادها الإمام علي ( عليه السّلام ) إلى المدينة المنوّرة برفقة أخيها محمّد مع أربعين امرأة متنكّرات بزيّ ثياب الرجال حرساً لها .

ولاية مصر وما جرى له فيها :

وبعد أنْ عُزل قيس بن سعد عن ولاية مصر ، عيّن أمير المؤمنين عليّ ( عليه السّلا م) محمّد بن أبي بكر والياً عليها ، ثُمّ إنّ الإمام عهد إليه وأوصاه ناصحاً له بقوله :

( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر ، وأمره بالتقوى والطاعة في السرّ والعلانية ، وخوف الله عزّ وجلّ في الغيب والمشهد ، واللِّين على المسلمين ، والغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذمّة ، وبإنصاف المظلوم ، والشدّة على الظالم ، والعفو عن الناس ، والإحسان ما استطاع ، والله يجزي المحسنين ويعذّب المجرمين ) .

وعندما نزل محمّد مصر تلا على الناس عَهْد أمير المؤمنين إليه ، ثُمّ عقّب على كتاب الولاية فقال : ( الحمد لله الذي هدانا وإيّاكم لِمَا اختُلِف فيه من الحقّ ، وبصرّنا وإيّاكم كثيراً ممّا كان عُمِيَ علمه ، أَلاَ إنّ أمير المؤمنين ولاّني أمركم ، وعهد إليّ ما سمعتم ، وما توفيقي إلاّ بالله ، عليه توكّلت وإليه أنيب ، فإنْ يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعةً لله ، فأحمد الله على ما كان من ذلك ، فإنّه هو الهادي له ، وإنْ رأيتم عاملاً لي عمل بغير الحقّ ، فارفعوه إليّ وعاتبوني فيه ، فإنّي بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون ، وفّقنا الله وإيّاكم لصالح الأعمال برحمته ) .

ولبث شهراً كاملاً مدبّراً أمور الولاية ، حتّى بعث إلى قوم من أهالي ( خرِبْتا ) البلدة العثمانيّة المعارضة لخلافة الإمام علي ( عليه السّلام ) ، فقال لهم محمّد بن أبي بكر : ( إمّا أنْ تدخلوا في طاعتنا ، وإمّا أنْ تخرجوا من بلادنا ، فأجابوه : إنّا لا نفعل ، فدعنا حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمرنا ، فلا تعجل لحربنا . فأبى عليهم ، فامتنعوا منه ، وأخذوا حذرهم ، وكانت وقعة صفّين وهم لمحمّد هائبون ، فلمّا رجع عليّ ( عليه السّلام ) عن معاوية ، وصار الأمر إلى التحكيم ، طمعوا به وأظهروا له المبارزة ، فأرسل لهم محمّدَ بن الحرث بن جهمان الجعفي ليؤدّبهم ، فوصل إلى ( خرِبْتا ) وكان فيها يزيد بن الحرث مع بني كنانة ومَن معه من قبائل أخرى مختلفة ، فقاتلهم الحرث فقتلوه ، فأرسل محمّد إليهم ابنَ مضاهم الكلبي فقتلوه كذلك ، وكان محمّد قد أصاب منهم غليةً من قبل حين أرسل إليهم عمرو بن بديل بن الورقاء الخزاعي ، ولكن الذي قلب الموازين هو إرسال معاوية عمرَو بن العاص في جيش كثيف إلى مصر بعد توجّه الإمام عليّ ( عليه السّلام ) إلى العراق .

ولمّا بلغ الإمام عليّ ( عليه السّلام ) اضطراب الأمر في ولاية مصر ، سارع إلى إرسال القائد مالك الأشتر ، وذلك قبل أنْ تستشري الفتنة ، ولكنّ معاوية استطاع بحيلة منه أنْ يدسّ السمّ للوالي الجديد وهو في طريقه إلى تسلّم ولايته ، مستعيناً بأحد رجال الخراج في مكان يُقال له القلزم وهو السويس حاليّاً ، فشرب الأشتر ـ وهو لا يشكّ في مضيّفه ـ شربة ماء ممزوجة بالسمّ والعسل فاستُشهِد ، وبذلك أضحى محمّد بن أبي بكر وجهاً لوجه مع اثنين من الدهاة معاوية وعمرو بن العاص ..

أقبل عمرو بن العاص قاصداً مصر باتّجاه محمّد بن أبي بكر ، فقام محمّدٌ خطيباً فقال : ( أمّا بعد ، يا معاشر المؤمنين ، فإنّ القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة ، ويفشون الضلالة ، ويستطيلون بالجبريّة ، قد نصبوا لكم العداوة ، وساروا إليكم بالجنود ، فمَنْ أراد الجنّة والمغفرة فلْيخرج إلى هؤلاء القوم فلْيجاهدهم في الله ، انتدِبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر ) ، ثُمّ ندب معه نحو ألفي رجل ، وتخلّف محمّد في ألفين ، وبعد معارك بين الطرفين ، واستشهاد خيرة أصحاب محمّد بن أبي بكر ، وتفرّق الآخرين عنه ، استطاع معاوية بن حديج وهو من أصحاب عمرو بن العاص أنْ يظفر بمحمّد ابن أبي بكر وهو يكاد يموت عطشاً ، فوثب أخوه عبد الرحمان بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص ، وكان في جنده ، فقال :  لا والله ، يُقتل أخي صبراً ! ابعث إلى معاوية بن حديج فَانْهَه عن قتله ، فأرسل عمرو بن العاص أنْ ائتني بمحمّد ، فقال معاوية : أقتلتم كنانة بن بشر ابن عمّي ، وأخلّي عن محمّد ، هيهات ! أكفّارُكم خير من أولئكم أَمْ لكم براءة في الزبر ؟! ، فقال محمّد : اسقوني قطرة من الماء ، فقال له معاوية بن حديج : لا أسقاني الله إنْ سقيتك قطرة أبداً ، والله لأقتلنّك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن ، ويسقيك الله من الحميم والغسلين ، فقال له محمد : يا ابن اليهوديّة النسّاجة ، ليس ذلك اليوم إليك ، إنّما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه ، وهم أنت وقرناؤك ومَن تولاّك وتولّيته ، والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم منّي ما بلغتم ، فقال له معاوية بن حديج : أتدري ما أصنع بك ؟ أدخلك جوف هذا الحمار الميّت ثُمّ أحرقه عليك بالنار ، وكان في المغارة جيفة حمار ميّت ، قال : إنْ فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله ، وايم الله ، إنّي لأرجو أنْ يجعل الله هذه النار التي تخوّفني بها برداً وسلاماً ، كما جعلها الله على إبراهيم خليله ، وأنْ يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه ، وإنّي لأرجو أنْ يحرقك الله وإمامك معاوية ، وهذا ( وأشار إلى عمرو بن العاص ) بنار تَلَظّى ، كلّما خَبَتْ زادها الله عليكم سعيراً . إلى آخر ما دار من حوار بينهما ، ثُمّ غضب معاوية بن حديج ، فقدّمه وضرب عنقه ، ثُمّ ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار .

فلمّا بلغ ذلك الخبر عائشة أخته ، جزعت عليه جزعاً شديداً ، وصارت تقنتُ في كُلّ صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج .

فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان بعد قتل محمّد بن أبي بكر وكنانة بن بشر : ( أمّا بعد ، فإنّا لقينا محمّد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر ، فدعوناهم إلى الكتاب والسنّة ، فعصوا الحقّ ، فتهوّلوا في الضلال ، فجاهدناهم ، واستنصرنا الله جلّ وعزّ عليهم ، فضرب الله وجوههم وأدبارهم ، ومنحنا أكتافهم ! فقُتل محمّد بن أبي بكر وكنانة بن بشر ، والحمد لله ربّ العالمين ) !! .

وهكذا يقتلون أولياء الله تعالى ، ولا يتورّعون عن الاستشهاد بالكتاب والسنّة لتزييف الحقائق وتضليل الناس !

وهكذا انتهت حياة قائد شاب ، تمثّلت في شخصيّته أخلاق الإسلام بصورتها الرائعة ، وكان آية في التفاني والتضحية ، كما تجلّت ملامح تلك الشخصيّة الفذّة في الحوار الذي جرى بين محمّد وبين آسِرِهِ ، فلم يَهنْ ولم يحزن ، بل ظلّ شامخاً أبيّاً .

كانت وفاة محمّد بن أبي بكر في مطلع سنة 38هـ ، وكان له من العمر ثمان وعشرون سنة

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية