مع المفجَّع البصري في إحدى غرر قصائده

حمل المفجّع البصري، شاعر العقيدة والولاء، مرآته العاشقة، نبضَ فنه وأدبه، وأدارها صوب الشمس، بعد أن جلا سطحها بحُبَيباتٍ من ندى الأشواق وأزال عن وجهها الناصع صدأ الروايات، ماسحاً بِلَّوْرها بحرارة الصدق وروح العشق ونار الوجد، مبحراً في أغوارها بشراع الأسفار الأربعة مكتشفاً الأبعاد الثلاثة من قيم: الحق والخير والجمال، محلّقاً في مراقي الفكر والوجدان والخيال، فبان على مرآته في مسقط الضوء استواء، والتمع في بؤرة شعاعها لجوهر الحق سناء، وتجلَّى في عالم الملكوت لروائع أسرارها عطر انتماء.
وحمل آخرون مراياهم محدَّبةً تقرّب وتكبّر وتمد في أطناب الصورة، إذ تبالغ رهباً ورغباً وزلفى، أو حملوها مقعَّرةً تصغِّر وتباعد في صورٍ تغمط أهل الحق، وتخفي بعضاً من فضائلهم حسداً أو تستر بعضها على مودّة؛ خوفاً، وظهر من بين هذين ما ملأ الخافقَين.
رحم الله المفجّع البصري، فقد آثر أن يحمل في شعره فجيعته بآل بيت النبي صلّى الله عليه وآله، على طرب الشعراء وهزلهم، وآثر أن يدافع عن أهل البيت عليهم السّلام في ظروف حسَّاسة ودقيقة من التاريخ، تنكَّر لهم فيها الزمان والسلطان؛ والأدب في الغالب يجري من وراء السلطان، إلاَّ من عصم الله تعالى من حملة الأدب.
وكان صاحبنا المفجَّع من أولئك القلة الذين عصمهم الله من تأثير الزمان والسلطان؛ ودفع شاعرنا ضريبة أدبه بخمول ذكره، حتّى ضاع شعره. ولو أن المفجع البصري كان يضع أدبه في خدمة السلاطين، يطربهم ويمدحهم، عوض أن يتفجع على مصائب أهل البيت عليهم السّلام، كما يوحي بذلك لقبه، أجل، لو كان يسابر عصره لكان له شأن غير هذا الشأن، ولحفلت بذكره الكتب والمعاجم(1).

 

من هو المفجَّع البصري ؟

هو محمد بن أحمد بن عبدالله الكاتب النحْوي البصري، الملقَّب بالمفجع، من رجالات العلم والحديث، وواسطة العقد بين أئمّة اللغة والأدب، وبيت القصيد في صناعة القريض، ومن المعدودين في أصحابنا الإمامية، مدحوه بحسن القصيدة، وسلامة المذهب وسداد الرأي، وكان كل جنوحه إلى أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، وقد أكثر في شعره من الثناء عليهم، والتفجع لما انتابهم من المصائب والفوادح، وكان شاعر البصرة وأديبها.
وكان مولد شاعرنا بالبصرة ووفاته فيها سنة 327هـ شهيداً(2).
قال عنه شوقي ضيف: « عالم وأديب وكاتب ومتشيِّع، من أهل البصرة ».
وأورد الأديب المؤرخ والناقد المصري بعضاً من قصيدته العصماء التي هي بين أيدينا، والتي قالها في مدح علي عليه السّلام، وسماها « ذات الأشباه »، إشارة إلى أثرِ مسند إلى أبي هريرة، ذكر فيه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال في محفل من أصحابه: « إن أردتم أن تنظروا إلى آدم في علمه، ونوح في همه، وإبراهيم في خُلقه، وموسى في مناجاته، وعيسى في سمته، ومحمد في هديه وحلمه، فانظروا إلى هذا المقبل، فتطاول الناس، فإذا هو علي بن أبي طالب ». وعلى هذا الأثر نظم المفجَّع قصيدته، مصوراً فها مناقب علي عليه السّلام(3). وهذه القصيدة من غرر الشعر ونفيسه، وهي تتضمن جمعاً من فضائل لأمير المؤمنين عليه السّلام، في 160 بيتاً، غير أن فيها أبياتاً، من الدخيل، تنافي مذهب المفجع وعقيدته، وهو الذي يعد من علماء الإمامية وشعرائها، وقد انطلت تلك الدسيسة على البعض وارتضاها شوقي ضيف على الرغم من أنه يُعَدّ من المحققين حيث تداعى إليها قلمه، فكيف ساغ له أن يقول عن المفجع بأنه من شعراء الشيعة! ثم يقبل بأن تتضمن قصيدته أبياتاً لا تليق بسيد البطحاء أبي طالب، ولعلَّ الدقة والتحقيق يصابان بالوهن والضعف عندما يدخل هؤلاء النقاد إلى ساحة العقائد والآراء والمبادئ. وخطأ آخر وقع فيه شوقي ضيف، بعد أن أجاز الانتحال في شعر المفجع، هو قوله بأن ضياع القصيدة وتناثر أبياتها، يعود إلى كونها من الشعر التعليمي أي ليس غنائياً، ونسي أن الشاعر قدّم حياته ثمناً لقصيدته هذه، أوَ ليس ورَاء ضياعها إرهاب السلطة واضطهاد الأدب الرسالي الصريح ؟!

 

القصيدة العلوية

وتُسمى بقصيدة الأشباه، نظمها الشاعر استناداً إلى حديث مشهور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أوردناه آنفاً نقلاً عن شوقي ضيف، مظهراً أوجه شَبَهٍ بين علي عليه السّلام وسائر الأنبياء عليهم السّلام(3)، فيقول شاعرنا المفجّع مادحاً عليّاً عليه السّلام انطلاقاً من الحديث الشريف.

أشـبَهَ الأنـبياءَ كهلاً وزَولاً   وفـطيماً وراضـعاً وغـذيّا
كـان فـي عـلمه كـآدمَ إذ   عُـلِّم شرحَ الأسماء والمكنيّا
وكنوحٍ نجا من الهُلْك من سي   ر في الفلك إذ علا الجوديّا...

 وهكذا يمضي الشاعر معدداً مزايا أبي الحسن عليه السّلام ومناقبه ذاكراً نظائر لها وأشباهاً عند الرسل والأنبياء عليه السّلام، وإليك أيها القارئ رائعة ذلك الشاعر الولائي مستهلاً بهذا التصريع(4):

أيـهـا الـلائمي بـحبّي عـليّا   قـم ذمـيماً إلـى الـجحيم خزيّا
أبـخيرِ الأنـام عـرَّضت لا زِلْ   تَ مـذوداً عـن الهدى مزويّا(5)
أشـبَـهَ الأنـبياء كـهلاً وزَولاً   وفـطيماً وراضـعاً وغـذيّا(6)
رام حـمل النبيّ كي يقلعَ الأصنا   مَ مِـن سطحها المثولَ الجثيّا(7)
فـحـناه ثِـقـلُ الـنبوة حـتى   كــاد يَـنْآد تـحته مـثنيّا(8)
فـارتقى مَـنكِبَ الـنبيّ عـليٌّ      صِـنوُه، ما أجلَّ ذاك الرُّقِيّا!(9)
فـأماط الأصـنامَ عن ظاهر الكع   بة، ينفي الأرجاسَ عنها نفيّا(10)
ولَو آنّ الوصي حاول لمس النجْ   م بـالكفّ لـم يـجده قَصِيّا(11)
وإذ اسـتسلم الـوصيّ لأسـياف   قـريـش: إذ بـيّـتوه عـشـيّا
فـوقـى لـيلة الـفراش أخـاه   بـأبـي ذاك واقـيـاً ووقـيّـا
كان مِثْل الذبيح في الصبر والتس   لـيم سمحاً بالنفس ثمّ سخيّا(12)
وعـلـيّ سـيف الـتي بـسلعٍ   حين أهوى بعمروٍ المشرفيّا(13)
بـابه فـي شـروع باب رسول   الله، إذ كــان مـستحقاً حـظيّا
حـين سُـدّت أبوابهم وهْوَ يَغشى   بـابَـه شـارعـاً مـنيفاً مـهيَّا
مـا حـبا الله أهـلَ بـدرٍ وأحدٍ   مـثلَ هـذا ولا حبا عبقريّا(14)
إنّ هـارون كـان يَخْلف موسى   وكـذا اسـتخلف الـنبيُّ الوصيّا
وعـليٌّ خـطيبُ فـهرٍ إذا المن   طـق أعيى المفوَّهَ اللوذعيّا(15)
يـرشفون الـثَّماد من نُطف العل   مِ ويـمتاح بـحرَه الـلُّجِّيّا(16)
يُـجتنى الـعلم منه في كل حين   دانـياً مـجتناه غـضّاً جنيّا(17)
بـذَّ فـضل الـمهاجرين جـميعاً   مـثلما بـذَّت البحار السريّا(18)
كـان مِـثْلَ الـنبيّ زهداً وعلماً   وسـريعاً إلى الوغى أحوذيّا(19)
فـرعُ عُـودٍ أغـصانُه حَـسَناه   زاكـياً غرسُ أصله أبطحيّا(20)
كــان لـلأمة الـضعيفة كـهفاً   كـافـلاً إن أضـاع راعٍ رعـيّا
كـان فـي السِّلْم عابداً ذا اجتهادٍ   ولدى الحرب ضيغماً قسوريّا(21)
كـان صِـدّيقَها وفـاروقَها الأعْ   ظـمَ حـقّاً والسابقَ الأوليّا(22)
وأمـيـراً لـلمؤمنين ويـعسوباً   لـهم يَـنهجُ الصراط السويّا(23)
إنّ عـهـد الـنبي فـي ثَـقَلَيْهِ   حُـجّةً كـنتَ عـن سواها غنيّا
لـم يـكن أمـرُه بِـدَوحات خُمّ   مُـشْكلاً عـن سـبيله ملويّا(24)
كـسـؤال الـتـي لـمّا تـمنى   حـين أهـدوه طـائراً مـشويّا
إذ دعـا اللهَ أن يـسوق أحبَّ ال   خَـلْق طُـرّاً إلـيه سَـوقاً وَحِيّا
فـإذا بـالوصيّ قـد قرع الباب   يــريـد الــسَّـلامَ ربـانـيّا
فـثـناه عـن الـدخول مـراراً   (أنَسٌ) حين لم يكن خزرجيّا(25)
وَدَّ خـيراً لـقومه وأبـى الرحم   مــانُ إلا إمـامَـنا الـطـالبيّا
كــان لـلمؤمنين حـقّاً أمـيراً   لــو أطـاعـوا نـبينا الأُمـيّا
فـعليه الـسلام مـا غنّت الطي   رونـاحت عـلى الـغصون بَكِيّا


وهكذا تظهر لنا ثقافة الشاعر من خلال هذه القصيدة، إذ يبرز لنا علماً من أعلام اللغة بصيراً بها وبغرائبها ومفرداتها، كما تظهر براعته في علم الحديث وروايته، كما كان من علماء النحو، ومن المطّلعين على التاريخ الإسلامي، عارفاً بالأماكن والبلدان، يصفه المسعودي في مروج الذهب بقوله: (.. وكان كاتباً وشاعراً وبصيراً بالغريب.. )، وهو بعد ذلك من المؤلفين والكتّاب والمنشئين، وله شعر في أغراض مختلفة كالوصف والغزل والمديح والرثاء والحكمة.
إلاّ أنه اختار لنفسه أن يكون شاعراً عقائدياً يذود عن حياض المبدأ، ويبث صور وجدانه في مقاطع قصائده، لا سيما قصيدته التي اخترنا منها بعض الأبيات، وما ذكرناه غيض من فيض أو قطرة ماءٍ في البحر المحيط، فالإمام عليٌّ عليه السّلام كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: يا علي، لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق. وقال فيه صلّى الله عليه وآله أيضاً: « يا علي، ما عرفك إلا الله وأنا، وما عرفني إلا الله وأنت ». فما عسى أن يقول فيهما شاعر ؟!
ويطيب لنا أن نختم ببيت مشهور نورده مع التخميس، في بيان الصلة بين النبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام علي عليه السّلام:
قـدِ آقتسم النبيُّ النورَ نِصْفا         ونـصفاً صـنوُه فَتَلاه زُلفى
فأقصى المدحِ لم يبلغْهُ وصفا         عـليُّ الدرُّ والذهبُ المصفّى
وباقي الناس كلِّهمُ تُرابُ(26)

1 ـ عبدالرسول الغفار، المفجع البصري شاعر العقيدة، من المقدمة ص 5 ـ 6.
2 ـ عبدالحسين الأميني، الغدير 361:3 وما بعدها.
3 ـ شوقي ضيف، العصر العباسي الثاني ص 396 ـ 397.
4 ـ نظراً لطول القصيدة البالغة 160 بيتاً، فقد اقتصرنا على ذكر المناقب دون الأشباه، ونُحيل القارئ الكريم على كتاب المفجع البصري شاعر العقيدة لعبد الرسول غفار المتضمن ديوان المفجع ص 121 ـ 138.
5 ـ المذود: من الذود وهو السَّوق والطرد والدفع. وفي الحديث الشريف: لَيذادنُ رجال عن حوضي. أي لَيُطردن. والمذود: البعيد. والمزوي: المطرود.
6 ـ الزَّول: الغلام الظريف، الشجاع، الجواد.
7 ـ المثول: القائمة المنتصبة. الجثيّ: مِن جثا على ركبتيه أي جلس بتلك الهيئة. والجثي اسم صنم كان يُذبَح له في الجاهلية.
8 ـ ينآد: ينثني.
9 ـ الصِّنْو: الأخ الشقيق.
10 ـ أماط: أزال.
11 ـ قَصيّ: بعيد. عن النسائي قال: قال علي عليه السّلام: انطلقتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى أتينا الكعبة، فصعد رسول الله صلّى الله عليه وآله على منكبه، فنهض به علَيّ، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله ضعفي قال لي: اجلس، فجلست، فنزل النبيّ صلّى الله عليه وآله وجلس لي، وقال لي: اصعد على مَنكِبي، فصعدت، فنهض بي. فقال علي رضي الله عنه: أنه يُخَيَّل إليَّ أني لو شئت لَنِلتُ أفق السماء، فصعدتُ على الكعبة وعليها تمثال من صفر أو نحاس، فجعلت أعالجه لأزيله يميناً وشمالاً، قداماً ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى استمكنت منه، فقال نبي الله صلّى الله عليه وآله: اقذفه، فقذفته، فكسرته كما تُكسَر القوارير. ثم نزلت فانطلقتُ أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله نستبق حتّى توارينا بالبيوت؛ خَشيةَ أن يلقانا أحد. ( كنز العمال للمتقي الهندي 407:6، مسند أحمد 57:2 / الحديث 644، ورواه غيرهم ).
12 ـ الذبيح: هو إسماعيل الذي افتُدي بالكبش. ( وانظر البداية والنهاية لابن كثير 176:3، وأُسد الغابة لابن الأثير 25:4 ).
13 ـ موضع قرب المدينة، وقد دارت بالقرب منه معركة الخندق، والمشرفي: السيف. راجع تفاصيل قصة الخندق ـ كما روى ابن عباس ـ في كتاب المفجع البصري لعبد الرسول غفّار ص 125 في الهامش.
14 ـ عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله أبواب شارعة في المسجد. قال: فقال يوماً: سدّوا الأبواب إلاّ بابَ علي عليه السّلام. فتكلم الناس في ذلك، فقال رسول الله: «... إني واللهِ ما سَددتُ شيئاً ولا فتحته، ولكن أُمرِتُ بشيءٍ فاتّبعتُه ».
15 ـ المفوَّه: المتكلم، واللَّوذع: الحديدُ الفؤاد واللسان.
16 ـ الثماد: الماء القليل. ويمتاح: يستقي.
17 ـ هذه الأبيات الثلاثة فيها إشارة إلى حديث أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق المجلّد 12 ـ الورقة 159ب. عن ابن عباس قال: قال رسول الله: « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأتِ الباب ».
18 ـ بذَّ: سبق وغلب. والسريّ: النهر الصغير.
19 ـ الأحوذيّ: الغالب.
20 ـ البطحاء: مكة. والأبطحي يُراد به الكريم في أصله، والعريق في حسبه ونسبه. وفي الأصل، مسيل فيه دقاق الحصى.
21 ـ الضيغم: الأسد. وقسوريّ: العزيز الذي يَقهر غيره.
22 ـ يذكر ابن عساكر في تاريخه عن أبي ذر قولَه: أخذَ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيد علي عليه السّلام قائلاً: ألا إنّ هذا أولُ من آمن بي، وهذا الصدّيق الأكبر وهذا فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظالمين. ( شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 172:9 ).
23 ـ اليعسوب: أمير النحل.
24 ـ خُمّ: وادٍ بين مكة والمدينة عند الجحفة، به غدير عنده خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحديث الغدير أشهر من أن يُذكر. رواه أبو هريرة عن عمر بن الخطاب في تاريخ ابن عساكر.
25 ـ هو أنس بن مالك من النضر، يعود نسبه إلى الخزرج، روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
26 ـ البيت الأساس مأخوذ من قصيدة مشهورة مطلعها:
بآلِ محمّدٍ عُرِف الصوابُ
وفي أبياتِهم نَزلَ الكتابُ

والتخميس للعالم الشاعر الشيخ محمد حسين قعيق العاملي ( قدس سره الشريف).