سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 4
في رحاب سورة الإنسان
قلت: « لماذا اختارَ سورة الإنسان ليتلوها ؟ ».
قال الهادي: « لسنا ندري الحكمة في ذلك، ولا حاجة لنا بأن ندري. كلّ الذي يلزم أن ندريه هو أنّ كلّ ما يفعلونه ويقولونه قائم على الحكمة والصواب والصلاح. أمّا القول بأن حكمة ذلك هو هذا وليس ذاك، فإنّه فضلاً عن كونه نوعاً من الفضول، فهو ينطوي على الخطر أيضاً، لأنّه قد يحتمل الكذب والتكذيب. وكلّ الذي نستطيع أن نقوله هو ما يتوصّل إليه إدراكنا، فهذه السورة تدور حول فضائل الإمام عليّ عليه السّلام وأهل بيته، وهؤلاء يحبّون عليّاً سلام الله عليه، ولذلك فإنّهم يحبّون هذه السورة أيضاً، لما فيها من ذكر فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام. وكنتَ أنت نفسك قد قلت: أنّك تحبّها أيضاً: « ويُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأسِيراً (78).
ففي ذلك إشارة إلى مصيبته ومصيبة أبيه عندما طلب الماء فلم يسقوه، مع أن الماء بلا ثمن، وهذا اليتيم والمسكين والأسير أفضل بكثير من أيّ يتيم ومسكين وأسير. مع ذلك، فمن الحكمة أن لا نتحدّث عن الحكمة في أعمالهم ».
قلت: « إذا كان غرضه هو هذا الذي قلته أخيراً، فإنّه يدلّ على أنّ دماءهم ما زالت فائرة ».
قال: « هي كذلك بالطبع، وما ذاك الأثر الأحمر تحت رقبته إلاّ توكيد لما أقول، بل هو أقوى دليل، وإنّهم لأشدّ منّا انتظاراً للفرج حتّى ينتقموا، وإلاّ فإنّ دماءهم لن تهدأ عن الفوران، مثلما أنّ فوران دم يحيى النبيّ عليه السّلام لم يسكن إلاّ بعد أن قُتل من بني إسرائيل سبعون الفاً أو سبعمائة ألف » (79).
قلت: « لقد قال: إنّ هذه الخلعة تناسب هذا العالم، وكلّ حسنات هذا العالم ظلّ لذاك العالم ».
قال: « هو كذلك، مثلما إنّ الدنيا ظلّ لهذا العالم، فكلّ ما هو فوق تجد صورة له تحت. إنّ كلّ المحاسن والكمالات تعود للوجود، ويمكن أن تنزل إلى أيّة درجة من درجات الوجود وتضعف، فيضعف أيضاً وجود الكمالات وآثارها » (80).
وإذ رأى الهادي أنّني لا أكفّ عن ذكره والتفكّر فيه، وأنّ تلك الجولة في الحدائق لا فائدة فيها، عُدنا إلى البيت، وهناك قال: « إنّ لنا أن نبقى هنا عشرة أيّام لإعداد أنفسنا وتهيئتها، واستعادة قوانا قدر ما نستطيع، لأنّ الطريق يكثر فيه قُطّاع الطرق الأشدّاء، وأنت ضعيف في قواك، لذلك عليك أن تزور دارك الدنيوية ليلة الجمعة، فلعلّهم يذكرونك بمقتضى: اذكروا أمواتكم بالخير، فيكون ذلك سبباً في اشتداد قوّتك ».
* * *
قطاع طرق في دار السلام
قلت: « ألم تَقُل: إنّنا في أرض وادي السلام، حيث نكون في مأمن من كلّ خطر ؟! فكيف يكون في وادي السلام قطاع طرق ؟! أنا لا أُصدِّق ذلك، وإنّما هدفك تأخيرنا عن السفر. فيا رفيقي الوفيّ، هل ضعف وفاؤك ؟ لقد أصبح وادي السلام بداية لتعاستي! ». وخنقتني العبرة.
قال: « يا عزيزي، إنّ وفائي لك يدعوني للتفكير في مستقبلك، فأنت لا تعرف الطريق، إنّه طريق ضيّق يمرّ بمحاذاة أراضي بَرَهُوت المملوءة بالنار والعذاب، وخلال هذه المراحل من الطريق سوف يحاول أغبرك أن يُزلّك عن الطريق، فبانزلاقك أدنى انزلاق سيكون مصيرك أن تهوي إلى أرض بَرَهُوت، حيث لا يمكنني الدخول، وأخشى أنك ـ بعدم قبولك البقاء هنا عشرة أيّام ـ سوف تجد نفسك محبوساً في تلك الأرض المليئة بالعذاب عشرة أشهر ».
لت: « أتريد أن تقول: إنّ أمامنا صراطَ يوم القيامة لنجتازه ؟ هذا غير ممكن! ».
قال: « نعم، وهذا ما سبق لي أن قلته، ولكنّك مضطرب الحواسّ.
إنّ الطريق خلال هذه المنازل ضيّق، وهو ظلّ لذاك الصراط، ولا مندوحة لنا عن الذي قلته. علينا أن نعالج الواقعة قبل الوقوع ».
فلم أجد بدّاً من أن أتوجّه ليلة الجمعة إلى أهل بيتي في الدنيا فرأيت أنّ التي كانت زوجتي قد تزوّجت(81)، وهي منهمكة بالعناية بزوجها، وأبنائي قد تفرّقوا هنا وهناك.
جلستُ برهة على غصن شجرة، ثمّ يئست فقمت، وجلست على جدار الزقاق أنظر إلى أحوال المارّة. كانوا يتبادلون الأحاديث عن شؤونهم ومعاملاتهم، فتألّمت وقلت: ما أجدر بالإنسان أن يستغلّ حياته للتفكير في عاقبته والإعداد لمثل هذا اليوم، فلا يصرف وقته في اتّباع أهوائه وإشباع شهواته ورغبات زوجته وأطفاله. فما أعجب الدنيا من دار الغفلة والجهل! وما أكبره من عار أن يكون الرجل بحاجة إلى زوجته وأطفاله الذين انصرفوا عنه! وما أبعده عن الوفاء أن لا يتذكّرني أحد منهم في مثل هذا اليوم الذي قصرت فيه يدي! لقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي أيقظ الناس حين قال: « هلاك الرجل في آخر الزمان بيد زوجته، وإن لم تكن له زوجة فبيد أقربائه وأولاده ».
ولكن، واأسفاه! لم نستيقظ ولم نفكر في خواتيم أعمالنا.
* * *
رحمة من عالم الدنيا
ولفت نظري فجأة الشبّاك المقابل حيث رأيت فيه زوجَين حديثَي الزواج، من أحفادي، يتناولان الفاكهة ويتحادثان ويقولان: إنّ هذه الفواكه قد زرعها الحاجّ بنفسه، وهو الآن تحت التراب ونحن نأكل فاكهته.
وقالت المرأة: « إنّه الآن في الجنّة يتناول من فاكهتها وأعنابها. فيرحمه الله. لكَم كان يحبّ أن يمازحنا ونحن صغار! لقد كان يحبّنا حقّاً، فكان يمنحنا النقود ليدخل السرور إلى قلوبنا. أسأل الله أن يدخل السرور إلى قلبه ».
وقال الرجل: « هو الذي جعلني من رجال الدين، فقد كان هو نفسه كذلك، لقد كان يحبّ هذا المسلك. الليلة ليلة الجمعة، وجدير بنا أن يتلو كلّ منا سورة من القرآن ويهدي إليه ثوابها. سأتلو أنا سورة الإنسان، واقرئي أنت سورة الدخان ».
فمكثتُ هناك حتّى انتهيا من تلاوة السورتين، فسُررتُ جدّاً ودعوت لهما بالخير، وعُدت طائراً إلى الهادي، فرأيته قد جلب الفرس وشدّ عليه خرجاً، وهو متهيّئ للرحيل.
فقلت: « مِن أين لك هذا الخرج ؟ ».
قال: « جاء به ملَك وقال: إنّ في أحد جيبيه هدية من فاطمة الزهراء عليها السّلام أرسلتْها بمناسبة تلاوة سورة الدخان التي تخصّها، وفي الجيب الآخر هدية من الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بمناسبة تلاوة سورة الإنسان التي تخصّه، وقد أوصاني أن نتحرّك على مبعدة من بَرَهوت لكي لا تصيبنا سمومه ».
فقلت: « ألا نفتح الخرج لنرى ما فيه ؟ ».
قال: «لا شكّ أنّه يحتوي على ما نحتاجه في هذه الرحلة، وسوف نفتحه عند الحاجة. أتحبّ أن نتحرّك ؟».
فقلت: « ما أسعدني بذلك ! ». وقفزت إلى ظهر الجواد وتحرّكنا.
* * *
أهوال أرض الحرص
وصلنا إلى أرض الحرص، فرأيت قوماً على صورة كلاب عفنة قبيحة، بعضها هزيل وبعضها سمين. وكانت الصحراء مليئة بالجثث المتناثرة النتنة، وعلى كلّ جثّة عدد من الكلاب تتصارع فيما بينها على التهامها وينهش بعضها بعضاً، بحيث لم يتمكن أيّ منها من الأكل، كانت تسقط منهوكة القوى تعَباً، وتظلّ الجيفة كما كانت، فتأتي كلاب أقوى تطرد الأضعف، وتتقدّم تنهش الجثّة.. وإذا بعدد آخر من الكلاب يهجم عليها للاستحواذ على تلك الجثّة، فكان أحدها يفترس الآخر، لأنّ كلاًّ منها لم يتجاوز التفكير في نفسه، ولم يكن بينها اثنان متّفقان فيما بينهما. كانت الصحراء مليئة بالكلاب وبالصراع المتكالب.
« إنّما الدنيا جيفة يطلبها الكلاب ».
كان بعض الذين أكلوا من تلك الجيف يخرج الدخان من خياشيمهم والنار من أدبارهم، وكانت الكلاب الأُخرى لا تقترب منهم لأنّهم كانوا في حالة غريبة.
قال الهادي: « هؤلاء كانوا يأكلون أموال اليتامى وكانوا يرتشون ».
إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى إنّما يأكلون في بطونهم ناراً (82).
قلت: « كنا قد أُوصينا أن نبتعد عن صحراء بَرَهوت، ويبدو أنّنا قد أخطأنا الطريق ».
قال: « كلاّ، لم نخطئ. إنّ ما تراه هو الماء الذي يجري تحت بَرَهوت، فلا تصل إلينا سمومه. إنّنا قد مررنا بجوار أرض الحرص، ووصلنا إلى جوار أرض الحسد ».
* * *
مكائن أرض الحسد
لاحظنا في تلك الأرض معامل كثيرة بعيدة عن الطريق، وكانت كلّها تعمل؛ لأنّ دخانها كان قد ملأ الفضاء وأظلمه، وكانت حركة آلاتها الضخمة ودورانها السريع يهزّ أرض الصحراء هزّاً عنيفاً، وضجيجها المرتفع يصمّ الآذان. كان العمال كلّهم من غبُر الوجوه، وكانت تلك المكائن المصنوعة من الحديد الثقيل ذات المحركات القويّة تتحرّك في هذه الصحراء الواسعة، وكانت واحدة منها قد اقتربت كثيراً من الطريق. نظرت وإذا بجهل قد ظهر مثل دخان أسود. التفتُّ إلى الوراء فرأيت الهادي متخلّفاً كثيراً، فاستولى عليّ الخوف من تخلّف الهادي واقتراب الأغبر.
قال لي الأغبر: « انظر إلى هذه الماكنة القريبة، فليس في الدنيا مثلها ». وعلى الرغم من أنّي وددت كثيراً أن أقف لأتفرّج، ولكن بالنظر لأنّي لم أتلقّ من هذا الأغبر غير الشرّ والأذى، فلم أُعِر كلامه اهتماماً، ووكزت الفرس مبتعداً وأنا أقرأ: قُلْ أعُوذُ بِربِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (83).
فقال الأغبر: « أيّها المسكين، إنّك في الدنيا كنت تريد أن تقرأ قُلْ أعوذُ وتعمل بها، ولكنك لم تفعل، فما فائدة ذلك الآن ؟! ».
فازداد خوفي. وتقدّم الأغبر واختفى خلف رابية، فحسبت أنّي قد كُفيت شرّه، وفيما كنت أفكر في الهادي ولماذا لم يصل إليّ، برز الأغبر مرّة أُخرى بهيئة حيوان مخيف جَفَل منه الجواد وخرج عن الطريق، ووقع على الأرض بالقرب من تلك الماكنة، فوقعت عن ظهره بقوّة فتألمت أعضائي بحيث لم أستطع التحرّك. وأخذت المكائن الأُخرى تقترب منّي وكأنّها أفاعٍ تريد ابتلاعي، وقد اندفع من فتحاتها ألسنة اللهب نحوي مثل قاذفات اللهب المعروفة في الحروب، بينما كان الأغبر الخبيث يضحك ويستهزئ بي قائلاً: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ (84).
ويخاطبني بقوله: « أيّها التعس الحاسد! مَن مِنَ العلماء نجا من الحسد ؟! إنّك قد أدميت قلبي خلال المنازل السابقة التي نجوتَ فيها منّي. أتظنّ أنّ جعبتي قد خَلَت من السهام ؟! فذُق الآن. ولن تجد مني ـ إن شاء الله ـ مَخلصاً ».
على الرغم من الضعف الشديد الذي كنت أحسه في بدني، فإنّ سخريته تلك أثارت الدماء وجعلتها تغلي في عروقي، فرفعت صوتي وناديت: يا عليّ. وإذا بالمكائن قاذفات اللهب ـ التي كانت قد أحاطت بي وكادت تلتهمني بنيرانها ـ قد لاذت بالفرار في تسابق شديد أدّى إلى أن يصطدم بعضها ببعض فيتهاوى حطاماً، واندفع الأغبر يطلب الفرار، فصار تحت عجلات إحدى المكائن فتحطّمت عظامه واختلطت بلحمه ودمه: وَلاَ يَحيقُ المَكْرُ السَّيّئ إلاَّ بِأهْلِهِ (85).
فقلت: ما أعجب هذا! ولقد كان يسخر منّي.
فإنّا نسخرُ منكم كما تسخرون .
وشعرت بعطش شديد من أثر حرارة الجوّ، وتعفّن الهواء، ورائحة الكبريت المنتشرة. عندئذ رأيت الهادي يركض نحوي، وما أن وصل حتّى فتح الخرج الذي كان هدية من الإمام عليّ عليه السّلام وأخرج كوزاً من البلّور أشرق الفضاء من التماعه، وسقاني منه ماءً عذباً بارداً، فزال عطشي وما كنت أحسّ به من أوجاع في أعضاء بدني، وعاد الدم إلى وجهي وصفا باطني: إنّ الأبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزاجُهَا كَافُورَاً (86).
وأتينا فرأينا الجواد المسكين قد نَفَق، فحملتُ كيسي على ظهري، وحمل الهادي متاعنا، ومشينا في تلك الصحراء الواسعة الملتهبة. لقد كان الجوّ خانقاً من كثرة دخان المكائن والتعفّن، ورأيت فتحات تلك المكائن يخرج منها بشَرٌ من نار بهيئة مخيفة.
قال الهادي: « إنّ الحسّاد الذين أظهروا حسدهم للمؤمنين باليد واللسان يلقون في هذه المكائن حيث يُضغطون ضغطاً شديداً، بحيث كانت نيرانهم الباطنية تطغى على بشرتهم وكلّ أجسامهم، لأنّ الحسد كالنار المحرقة: « الحسد يأكل الإيمان، كما تأكل النار الحطب ».
وبالنظر لظلام الطريق، تقدّمني الهادي ومشيت وراءه.
قلت: « ربما نكون قد أخطأنا الطريق، إذ إنّنا باتّباعنا تلك الوصايا ما كان ينبغي أن يصيبنا مكروه ».
قال: « لم نخطئ الطريق، ولكنْ قليل من الناس لم يحسّ بالحسد قليلاً أو كثيراً في داخله، ولولا ما تفضّل به عليك أولياء الأُمور وسرور فاطمة الزهراء عليهم السّلام منك، فربّما لم يكن ما يصيبك من مكروه بأقلّ ممّا تراه يصيب هؤلاء أمامك. فكثير من هؤلاء المُبتلَون سوف ينجى عاجلاً أو آجلاً، ويكون من أهل الرحمة ».
ولمّا كان الجوّ حارّاً ونتناً، والكيس الذي حملته على ظهري ثقيلاً عليّ، ونظراً لسرعة سيرنا بهدف سرعة الخلاص من هذه الأرض الكثيرة البلاء، وهلعي من احتمال عدم موت الأغبر ولحاقه بي، فقد أخذ العرق مني كلّ مأخذ، وبدأت رائحته المنفّرة تنبعث من ملابسي، وعضلات ساقي كانت تؤلمني من شدّة التعب، ولكنّنا أخيراً اجتزنا تلك الأرض بكلّ عناء.
بدأ النسيم البارد يهبّ علينا، ولطف الجوّ، وظهرت الأراضي الخضراء وعيون المياه الجارية والأشجار السامقة في الوديان وعلى قمم الجبال، فاتخذنا مجلساً على حافة عين ماء لنستريح بعض الوقت.
قلت للهادي: « أحسبُ أنّ الأغبر قد هلك تحت عجلات المكائن ».
قال: « إنّه لا يموت، ولكنّه لن يصل إليك في هذه الأرض، لأننّا قد ابتعدنا كثيراً عن وادي برَهوت ، ولمّا لم يكن فيك شيء من التكبر والترفع، فإنّك لن ترى تلك الصحراء وتلك الابتلاءات. ولم يبق من الطريق إلاَّ القليل لنصل إلى عاصمة وادي السلام ».
* * *
على مشارف عاصمة وادي السلام
وكلّما أوغلنا في السير كانت تكثر المزارع والزهور والرياحين والأشجار المثمرة، إلى أن كثرت الجبال المخضرّة والبساتين اليانعة والشلالات الصافية الرائقة، ورأيت على قمم تلك الجبال وسفوحها خياماً كثيرة من الحرير الأبيض.
قال الهادي: ها قد وصلنا إلى ضواحي المدينة. والناس يسكنون في هذه الخيام ».
كانت أعمدة الخيام ومساميرها من الذهب والحبال من الفضّة، وبعد أن اجتزنا الخيام قليلاً، قال الهادي: «انتظر حتّى أذهب لأرى خيمتك».
فقلت: « ما اسم هذه الأرض الطيّبة ذات المناخ الجميل ؟! فبودّي أن أمكث هنا بضعة أيّام ».
فقال: « هذه أرض يُمن مقدّسة. ولا بدّ لك أن تبقى هنا بضعة أيّام ».
ثمّ أخرج ظرفاً من الكيس الذي أهدته فاطمة الزهراء عليها السّلام واتّجه نحو خيمة كانت على قمّة جبل، وكنت أُتابعه بنظري. وعندما وصل إلى الخيمة، وقرئ الكتاب، خرج من الفِتيان والفَتيات من الخيمة يركضون نحوي وتبعهم الهادي، وعند وصوله أخرج ظرفاً آخر من الخرج. وقال: « إذهب أنت مع هؤلاء إلى خيمتك لتستريح ريثما أذهب أنا إلى العاصمة لأُهيئ لك منزلاً وأعود ».
قلت: « كيف تتركني غريباً هنا ولا مؤنس لي ؟ ».
فقال: « إنّني أُتابع أُمورك. إنّك هنا في وطنك، ولسوف يكون لك في تلك الخيمة من يؤنسك: حُورٌ مَقْصُوراتٌ في الخِيامِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولاَ جانٌ (87).
قال الهادي ذلك، وذهب.. فسرتُ مع أُولئك الخدم والحشم إلى الخيمة، فرأيت حورية جالسة على السرير، فنهضتْ تستقبلني. ودخل غلام مثل الشمس سطوعاً يحمل إبريقاً وطَسْتاً من الفضّة، وغسل رأسي ووجهي بماء كان فيه المسك وماء الورد. بعد ذلك نظرت إلى وجهي في المرآة، وإذا بي أفوق في الجمال والجلال تلك الحورية المعقودة لي في السجلّ الإلهي.
* * *
الأعمدة الخمسة وعمود الولاية
جلسنا على السرير في تلك الخيمة ذات الأعمدة الخمسة، وكان العمود الأوسط من الذهب الخالص مرصّعاً بالأحجار الكريمة وأطول من الأعمدة الأُخرى. ولكي اختبر ذكاء الحوريّة سألتها: « لِمَ كان لهذه الخيمة خمسة أعمدة ؟ ».
فقالت: « جميع الخيم هنا فيها خمسة أعمدة، فقد بني الأسلام على خمس: ( الصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ، والولاية، ولم ينادَ بشيءٍ كما نودي بالولاية ) (88).
وهذا العمود الأوسط هو عمود الولاية، فهو الأكبر، وعليه يعتمد ثقل الخيمة.
قلت: « ظننت أنّ كلاًّ منها باسم واحد من آل الرسول صلّى الله عليه وآله ».
قالت: « أُولئك هم الأُصول، وما يوجد هنا هو الظلّ لتلك الأنوار. إنّ كلّ عوالم الوجود وكلّ ما فيها، متشابه وعلى هيئة واحدة، وإنّما الاختلاف يكون من حيث الشدّة والضعف، الأصل والفرع، والنور والشعاع. وإنّ للإنسان طريقه إلى كلّ العوالم، وهو قادر على أن يصل إلى جميع المراتب، وأن يكون الرأس في سلسلة العوالم كلّها، وأن يصبح مظهر اسم الله وجامع وجوده وخليفته. ولكن الإنسان الذي وُجدت فيه كلّ هذه القوّة والقدرة بالفطرة لم يستطع أن يعرف نفسه إنّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(89).
قلت: « أين تعلّمتِ كلّ هذه المعارف التي تتحدّثين بها ؟ ».
قالت: « لقد تعلّمت في مدينة العلم، وهذه الجبال الخضر ذوات الرَّوح والريحان هي من أدنى مصاديقها. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله أبو فاطمة: أنا مدينة العلم وعليّ بابها. لقد تربيّت على يد فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، فهي كأبيها مدينة الحكمة والعصمة، وعليّ بابها، وهي الليلة المباركة، وهي ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، وهي التي نزلت عليها علوم القرآن، وهي التي « فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكيم » (90) وهي الشجرة الزيتونة ... لاَ شَرْقِيَّةٍ ولاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُور... .
وهي التي: تَنَزّل الملائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِنْ كُلِّ أمْرٍ (91).
وهذه رسالة فاطمة الزهراء عليها السّلام التي أوصلها إليّ الهادي، وقد جاء فيها: انّ أحد أولادي سيرد عليك، فأكرميه فهو صاحبك. فالظاهر أنّي مزرعتك. وأنت كنت قد اُنضجت إلى حدِّ الكمال.
أفرأيْتُمْ ما تَحْرثُونَ * أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أْم نَحْنُ الزّارِعُونَ ؟! (92).
وإنّي لأحمد الله الذي لا حمد لسواه، ولا يرجع إلاّ إليه. وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين ».
ثمّ حضر الطعام والشراب أنواعاً، فأكلنا، وشربنا، واتكأنا على الوسائد، وقلت: «يبدو أنّك لست ساكنة هنا».
قالت: « نعم، لقد جئت لاستقبالك لتستريح هنا قليلاً، وهذه الخيمة والأثاث الذي تراه أتيت به أنا، كما أنّ جميع هذه الخيام هي للمستقبلين الذين جاؤوا لاستقبال الوافدين عليهم، وكلّ هذا المكان بما فيه من بساتين ورياحين وأشجار وأثمار هي وقف على الوافدين. وعند رحيلك أعود أنا إلى موطني ».
قلت: « أحبّ أن أتمشّى في هذه البساتين وبين الخيام، لأتمتّع بهذه المناظر الخلاّبة ولأعرف شيئاً عن هذا المكان، ولعلّي ألتقي أحد المعارف ».
قالت: « إنّك حرّ هنا، وكلّ ما تريده حاضر. ولكن لابدّ عند دخول خيمة من الاستئذان والسلام. وأنا عند مجيئي إلى هنا رأيت خيمة ابنتك الكبرى، وبالنظر لمعرفتي السابقة بك دخلت عليها واتّخذتها صديقة لي. فإذا شئت أن تذهب إلى هناك فسوف أُرافقك ».
قلت: « طبعاً ».. وقمنا معا.
* * *
لقاء مع ابنتي في العالم الآخر
عند باب الخيمة سلّمت، فعرفتْ ابنتي صوتي، فخرجتْ مع خدمها هارعة. وبعد تبادل الأسئلة وتقديم الحمد لله تعالى على نعمه، دخلنا الخيمة وجلسنا على سُرُر مرصّعة بالمجوهرات، هي وخدمها في صفّ، وأنا ومن معي في صفّ.
مُتَّكِئينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ .
فالتقابل خير من التجانب.
سألتها: « كيف جَرَت عليكِ الأُمور في هذه الرحلة ؟ ».
فقالت: « لقد رأيتُ بعض المصاعب في المنزل الأوّل، وفي أرض الحسد عانيت من بعض الضغوط. ولعلّ معظم المسافرين يعانون من ذلك، بل أشدّ منه. وفي بعض المنازل فهمتُ أنّ نجاتي كانت بسببك، فدعوت لك واستنزلت عليك الرحمة من الله، حتّى أنّه عندما حان وقت سفر أُختي إلى هذا العالم، كما قرب موعد سفرك، دعوت الله أن يشفيك من مرضك لكي لا تُحرَم والدتي وأخواتي الأُخريات من الاستظلال بظلّك، ولئلاّ ينالهم شيء من الذلّ ».
سألتها: « ما أخباركِ عن أُختك التي رحلت إلى هذا العالم ؟ ».
قالت: « رأيت أُختي هنا، وكانت أرفع منّي درجة في الجلال والعظمة، وعندما سألتها عن المشاقّ قالت بأنّها لم تر شيئاً من ذلك، وأنّها لم تأت راجلة، ولكنّها شاهدت أرض المسامحة أو بعضاً منها، وطوت الباقي بطيّ الأرض ».
قلت: « سبب ذلك هو أنّها رحلت إلى هذا العالم وعمرها ثماني عشرة سنة، فلم تجد متّسعاً من الوقت لتثقل نفسها بالأحمال والصعاب ».
واستغرقت في التفكير، تُرى ما النواقص التي كانت في وجودي وفي أحوالي وأعمالي بحيث إنّي تعرضت لتلك المصاعب التي نجوت منها الآن، مع أنّ أبنائي المسافرين في هذه المرحلة مرفّهون وفي خير حال!
بعد التمعّن والتفحّص الكامل في زوايا قلبي عثرت على بذرة هذه النبتة، وعرفت من أين تنبع، وإلى أين تصل.
كانت ابنتي صفيّة تتلوّى ألماً لكونها لا تعرف كيف تحلّ عقدة قلبي، وكانت تعجب كيف يكون في دار السرور موضع للحزن والتألّم.
* * *
سرّ العشق
قلت لها: « هوّني عليكِ، فحلّ هذه العقدة ليس في يدك ».
ولم أكشف لها عن سرّ قلبي الخفي، لأنّها ما كانت لتفهمني، ولا كان في ذلك أيّ نفع، فأهل العالم الأعلى يدركون كلّ شيء. أمّا الحبّ الذي تختفي بذرته في التراب، فلا يطلبه سوى ذلك الإنسان الترابي الذي يعشق ويطلب العشق.
قلت لصفيّة: «أُريدُ أن أتمشّى بمفردي بين تلك البساتين البعيدة، لأختلي بنفسي، فلعلّ في ذلك حلاًّ لعقدتي».
قالت: « حيثما ذهبت فلن تكون وحدك. هناك الجبل والوادي، والسهل والبستان والمرج، وكلّ ذرّة فيها ذرّة من شاعر حسّاس ».
قلت: « إنّها ليست في أُفقي ».
قالت: « إذا لم نكن من المحارم فالخير أن تأذن لنا بالذهاب ».
قلت: « لولا هديّة الزهراء عليها السّلام لأذنت لك ».
وقمت أمشي. وكلّما وصلت إلى غصن شجرة انحنى نحوي قائلاً: أيّها المؤمن، كُلْ من ثماري. وعلى الرغم من جمال تلك الأصوات، إلاّ أنّها كانت في أُذني كنعيب الغربان.
ورفعتْ شجرة أطراف أغصانها وقالت في نفسها: «إذا لم تكن تحبّ هذا فلِمَ أتيت ؟».
وقالت أُخرى: « لعلّه ملَك لا يأكل! ».
وقالت ثالثة: « بل لعلّه حيوان لا يطعم النبات! ».
وقالت رابعة: « لعلّه مجنون، ولكن ليس هنا مكان للمجانين! أو لعلّه يتدلّل ».
وقالت أُخرى: « اسكتوا، لقد جاء من أرض القحط إلى أرض الوفرة، فانبهر وسُدّت شهيّته ».
وتوالت الأقوال من كلّ شجرة، والملاحظات من كلّ غصن.. فقلت: العَود إلى الخيمة أفضل وأحمد. ورجعت، فرأيت الهادي واقفاً بباب الخيمة ينتظرني. وإذ أبصرني تقدّم نحوي، فقلت: لعلّ كاتم أسراري هذا يستطيع أن يحلّ عقدتي.
وتلاقينا، وبعد السلام قال: « أين أنت ؟ تهيّأْ للرحيل إلى المدينة، فالعلماء والمؤمنون بانتظارك ».
قلت: « لماذا نذهب إلى المدينة ؟ ».
فقال: « يا إلهي! إذن لماذا قطعت كلّ هذا الطريق ؟! ».
قلت: « لا أدري لماذا جيء بي إلى هنا ».
قال: « لا تكفر بنعمة الإتيان بك من تلك الظلمة إلى هذا العالم النيّر؛ لكي تتمتّع بنعم الله وتكون في سرور دائم ».
قلت: « أيّة نعمة هذه ؟ وأين أجد لذّتها ؟ وأين سرور القلب مع تذكّر مصائب فراق الأحبّة ؟! ألم تر أبا الفضل وعليَّاً الأكبر يرتديان لأْمة الحرب في تلك الليلة، أم إنّك لم تفهم معنى ذلك ؟ ألم تر الخطّ الأحمر تحت رقبة عليّ الأصغر، أم إنّك لم تفهم معنى ذلك ؟
إنّ من يعرف هؤلاء ويحبّهم حقيق به أن يموت من ألم الفراق وينصرف عن الأكل والشرب والمسرّة والانشغال بالحور العين وبالقصور! إنّني لست مبطاناً ولا أنانياً بالقدْر الذي تظنّ ».
فقال: « أتحسب أنّ كلّ أُولئك العلماء والمؤمنين المسرورين الموجودين هناك مع الحور والقصور ليسوا من محبّي أهل البيت، أو أنّ دماءهم لا تفور من أجل الانتقام ؟ ثمّ إنّ الظالمين مبتلون بالانتقام الإلهيّ الآن ».
قلت: « المرء أبصر بحاله. إنّني ما لم أنتقم فدار السرور عندي بيت الأحزان، والنعم عليّ نقم. أمّا لماذا يحسّ الآخرون بالفرح والسرور وغير ذلك، فالسؤال يجب أن يوجّه إليهم هم لا إليّ أنا. وأمّا ابتلاء الظالمين بالانتقام الإلهي الذي هو أشدّ من انتقامنا، فلست أشكّ فيه، ولكنّك لابدّ أن تعترف بأنّ المظلوم إذا لم ينزل القصاص بيده ولم ينتقم بنفسه فلن يبرد قلبه، ولهذا ثبت للورثة حقّ القصاص، وإن قام شخص آخر بإنزال عقاب أشدّ بالظالم.
لقد قال تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنْ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (93).
إنَّ الانتقام حبيبنا، وما لم نصل إلى هذا الحبيب، فلن يكون لنا دار سرور، لا أنّها موجودة وأنا لا أُريدها.
والخلاصة أنّ الجنّة ودار السرور وغير ذلك من الأسماء إنّما تعني انبساط النفس وبلوغ المراد، وكلّ ما عدا ذلك فضول ».
أطرق الهادي برأسه برهة من الزمن صامتاً، ثم رفع رأسه وسأل: « أتبقى هنا ؟ ».
قلت: « كلاّ ».
قال: « أين تذهب إذن ؟ ».
قلت: « لا أدري، فلا أعرف لي مستقرّاً. كلّ الذي أدريه هو أنّني حيثما أكون فإنّي في عذاب. سوف أهيم في الصحراء وأفترش التراب ».
لم يجد الهادي بُدّاً من الرضوخ، فعاد إلى المدينة، وقلت لابنتي صفيّة: « إذا شئت فارجعي إلى موطنك، فلا شأن لي بك. وإذا وصلت إلى الصدّيقة الزهراء عليها السّلام فأبلغيها سلامي وأعلميها بأحوالي ».
فذهبتْ بمن كان معها، وانتحيتُ أنا ناحية خالية ورحت أبكي وأنوح وأدعو.
* * *
حبيب بن مظاهرعلى الهاتف
وفيما أنا في هذا، وإذا بشخص يركض نحوي قائلاً: « حبيب بن مظاهر يطلبك على الهاتف ».
قلت: « أين هو ؟ ».
قال: « في المدينة ».
قلت: « لا شكّ أنّ الهادي قد استنجد به ليحملني على الذهاب إلى المدينة ».
فأتيت إلى الهاتف، وبعد السلام والسؤال عن الأحوال، بدا لي أنّه كان قد سمع دعواتي وتوسّلاتي، إذ قال: « لماذا أنت حزين منكسر القلب كثير التفكير ؟ تعالَ واهنأ واشكر الله على أنك نلت ما تشاء ».
فقلت: « إنّ الجنان كالسجن في عيني أو كنيران مستعرة. وبغير أن أنال مقصودي فلا قيمة عندي لشيء ».
فقال: « تعال نجتمع مثل ذوي القلوب الحزينة، ونتشاكى ونزن همومنا، فمن كان قلبه أشدّ حزناً كان أثقل وزناً ».
فقلت: « إنّ همومي لا نهاية لها، والله هو العالم بعذابي. فيا حبيب، لا تحمل همّاً بسببي.
أمّا هو فإنّه الكتاب الإلهي الناطق. وقد ورد عن الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه أنّه قال، بما أنّي لم أكن في هذا العالم عند استنصار ذلك المعشوق واستغاثته لكي أُعينه وأضحي بنفسي في سبيله ـ كما هو منتهى آمال العاشقين ـ فإنّني في عذاب وألم دائمين.
« لأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً » (94).
ومن الثابت في الحبّ أنّ العشاق الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل المعشوق وبحضوره، يكونون قد بلغوا أقصى ما يتمنّون، ولا ينتابهم بعد ذلك أسف أو حسرة أو غصّة. وهكذا أنت يا حبيب!
أمّا الذين سرورهم الإمام صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه، ولكنّهم خافوا أن يعرضوا خدماتهم وعونهم، أو أن ينقذوا المعشوق من براثن الظالم، أو أن يضحّوا بأنفسهم، فهؤلاء المساكين يظلّون دائماً محترقين في نار الحسرة الملتهبة في أعماقهم، ولن يهنأوا بشربة ماء أبداً، وكلّ طعامهم وشرابهم يتحوّل إلى همّ وحسرة. ومن هذا القبيل نحن.
* * *
شتّان فيما بينك وبيني
فكيف يمكن أن أكون عديلك في كفّة الميزان، يا حبيب بن مظاهر ؟! وأنّى لي أن أعرف أن حالَينا في المسرّة متشابهان ؟
إنّ ما فعلتموه أنتم في كربلاء، حتّى إنّكم من شدّة لهفتكم وشوقكم قيل عنكم:
لبسوا القلوبَ على الدروع وإنّما | يتهافتون على ذَهـاب الأنفـسِ |
هو الذي أهنأ عيشَكم، وأعذب شرابكم. لكن أنّى لنا أن نكون مثلكم وقد قُبر معنا تحسرنا على ذلك ؟!
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أْموَاتَاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (95).
وهذا يشملك أنت ـ يا حبيب ـ ولا يشملني. إنّك تحيا حياة جديدة، وأنا من الأموات. لقد كنت أنت من السعداء ـ يا حبيب ـ وأنا من التعساء.
ألم تصلك أخبار عذاب الإمام الثاني عشر وآلامه في زوايا الدنيا وخرائبها والليالي الشاقة التي تمضي عليه ؟ فلو كنت أنت أيضاً متّ حتف أنفك مثلنا، ولم تبلغ أعلى المراتب التي بلغتها، لبكيتَ عليه دماً بدل الدموع، فما يعرف الحزن إلاّ الحزين ».
ولما كان الهاتف من النوع المتلفز، فقد رأيت حبيباً قد تغيّرت حاله وطأطأ رأسه وانهمرت دموعه، ثمّ ترك التلفون وانصرف، فوضعت السماعة في مكانها وذهبت.
ولكنّ الناس الساكنين هناك، والذين حسبوني مجنوناً، وكانوا ينظرون إليّ متعجّبين، عندما سمعوا مكالمتي مع حبيب تيقّظوا ووعوا الأمر، فتحلّقوا حولي، وقالوا: « يظهر لنا الآن أنّك لست مجنوناً، فماذا بك ؟ ».
قلت: «لا شكّ أنّكم من محبّي آل بيت الرسول عليهم السّلام، وإلاّ لما كان لكم مقام هنا. ولا شكّ أنّكم كنتم في الدنيا تعرفون الإمام الثاني عشر، صاحب الزمان، وقرّة عيون النبيّ وأهل بيته والمؤمنين جميعاً».
قالوا: « نحن من عشاقه وتراب أعتابه ».
* * *
تعالوا لنضرع إلى الله المفرّج
قلت: « ألم تسمعوا أنّه يهيم على وجهه في البراري والصحارى، دائم البكاء والنواح والألم والعذاب، لا لسنة واحدة ولا لعشر من السنين، بل لأكثر من ألف سنة ؟ ».
قالوا: « بلى، ولكن لا نستطيع أن نفعل شيئاً ».
قلت: « ألا تستطيعون أن تهجروا هذا العيش والتمتّع والسرور ؟ الموت لعاشق لا يتأسّى بحبيبه! أيكون حبيبكم في ذلك العذاب وتحت ضغط ذاك الانتظار الأليم، وتتكئون أنتم هنا على الوسائد وتنعمون بالرفاه والأفراح والمسرّات، ثمّ تدّعون أنّكم من عشّاقه وتراب أعتابه! أحسن المقال ما صدقته الفعال! ».
فانقلب حال تلك الآلاف المحتشدة، وانصرفوا. ثمّ رأيت الخيام قد قُلعت والأثاث قد تبعثر، وخرج الناس في ملابس قديمة، حاسري الرؤوس، حفاة الأقدام، متّجهين نحوي.
قلت: « ما أعظم غيرتكم! فلنتوّجه نحو البيت المعمور وندعو: أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوْءَ (96) بصوت عال يرفع حرارة الأبدان والنفوس، فالمقصود بالمضطرّ هو نفسه صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه ».
وانتشر الخبر شيئاً فشيئاً على لسان الهادي وحبيب بن مظاهر في وادي السلام، وظهرت بوادر الهياج والثورة، وأخذ الناس يُلقون كلمات حماسية حول غربة إمام الزمان وقلّة أنصاره وشدّة اضطراره وطول انتظاره، وبرزت فيهم مشاعر حبّ الانتقام والأخذ بالثأر. وفي وادي السلام نفسه تجمّعت الجماعات وصعد الخطباء المنابر يلقون الخطب البليغة بهذا الشأن.
وعلى أثر انتقال الأخبار بوساطة الوصائف التي ذهبت من هنا عن انفعالات الأهالي وانقلاب أحوالها، والتي كانت في نظر المبادئ العالية والأرواح المكرمة مشهودة كالاستعراض السينمائي. جاءتنا الأخبار أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب والزهراء أُمّ الأئمّة مع عشرة من أولادها المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، قد اجتمعوا وعرضوا شفاعتهم، إلاّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله اعتذر عن ذلك قائلاً: إنّ التمييز بين الخبيث والطيب والكافر والمؤمن ما يزال صعباً:
... لَوْ تَزيّلُوا لَعَذَّبْنا الَّذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً ألِيمَاً (97)، هذه الآية هي نفسها سبب الانتظار.
فترتفع الصوات بالدعاء:
ففرّج فرجاً عاجلاً كلمح البصر، أو هو أقرب من ذلك، يا محمد يا عليّ، يا عليّ يا محمّد، انصراني فإنّكما ناصراي، واكفياني فإنّكما كافياي ». لقد كررنا ذلك وكررناه حتّى حرّكنا هذين القائدين، وكانت الزهراء عليها السّلام تنفخ في نار ذلك، كذلك كانت المقامات العليا ترفع أيديها بالدعاء:
« اللهمّ عجّل فرجنا بظهور قائمنا، وانتقم من أعدائنا بنصرة قائمنا، وأظهر فيك الخالص حتّى يعبدوك في البلاد ولا يشركوا بك شيئاً ».
* * *
الوعد بالفرج
كان لدينا لوح يظهر عليه كل ما يُقال في الملأ الأعلى، فكنّا نطّلع على ما يجري هناك. وجاء النداء من الله تعالى: « يا محمّد، قد أجبت دعوتك، وسأفي بذاك من قريب ».
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « لقد كنّا راضين برضاك. إلاّ أن أحد عبيدك قد ورد ضيفاً على مائدتك، ولكنّه لا يمدّ يده إلى طعام مثل سائر ضيوفك ما لم تقض لهم حاجتهم، وما حاجتهم سوى ظهور المهديّ المنتظر. يقولون: إنّ محبوبنا صاحب الزمان يحيا في هموم آلام لطول الانتظار وكثرة المصائب، فكيف يهنأ لنا طعام وشراب، ونحن نعلم أنّه لا يكفّ عن البكاء والنواح ؟ كيف يجوز لنا أن نلهو في ضحك وسرور ؟ الموت أخلق بمحبّ لا يتأسّى بحبيبه! لقد كان اعتقاد هؤلاء في الدنيا، أنّهم إذا أرادوا قضاء حاجة كبيرة من الكرماء، أن يجلسوا على مائدة ذلك الكريم ولا يمدّوا أيديهم إلى الطعام حتّى يجاب طلبهم بقضاء حاجتهم مهما صعب ذلك على المضيف، فكيف بك وأنت أكرم الأكرمين، وإنّك على كلّ شيء قدير، وموضع حاجات الطالبين، وغياث المضطرين، لا رادّ لحكمك، ولا مانع من أمرك! ».
كنا مثل الإبل الصوادي التي تتزاحم على مورد الماء، نحوم حول اللوح لنرى ما يستجدّ من حدث، فلاحظنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله يميل إلى ما نميل إليه، وأنّه يمسك بوسط الحبل، فقويَ رجاؤنا بأنّنا سرعان ما نجد الشاهد المقصود بين أحضاننا، فبقينا حول اللوح في أمواج متلاطمة وتزاحم وجذب ودفع بأعصاب متوتّرة ووجوه محمرّة ننتظر جواب الله سبحانه وتعالى لنبيّه، وكنّا واثقين من أنّ الجواب سيكون بالإيجاب، لأنّ اتجاه رغبة النبيّ صلّى الله عليه وآله كان معلوماً عند الله طبعاً، كما أنّ دعاء النبيّ كان لابدّ أن يثير قدرة الله وكرمه، وما كان يمكن أن يكون الجواب سوى قضاء الحاجة. ولكن الجواب تأخّر قليلاً، وكأن هناك تردّداً في الأمر كتردّده في قبض روح عبده المؤمن (98)، فإذا أجاب بـ « لا » فهو يكره مساءته، وإذا أجاب بـ « نعم » فقد لا تقتضي سلسلة التقادير ذلك بهذه السرعة.
* * *
الانتقام في برهوت
وعلى حين غرّة جاء جواب الله تعالى أن يكون الانتقام من الأعداء في برهوت، وهذا التصوّر معلوم عند وليّ العصر الحّجة بن الحسن عجّل الله تعالى فرجه الذي لا يهمّه كثيراً تأخير الانتقام الدنيوي. أمّا الأُمور الأُخرى المتأخّرة فرضاه منوط برضانا: وَما تَشَاؤونَ إلاَّ أنْ يَشَاءَ اللهُ (99).
أمّا هذا الجمع الضعيف الإدراك والقليل الصبر الذي راح يعقد المجالس ويقيم حلقات الذكر، فإنّه ـ وإن يكن له بعض الحقّ في استثارة بحر رحمتي وغيرتي ـ فإنّي لابدّ أن أجبر خاطره، لأنّه في ضيافتي.
لذلك فقد أرسلت فوجاً من الملائكة إلى حدود برهوت؛ لكي يروا العذاب الأليم الذي يحيق بالأعداء، حتّى تهدأ النفوس.
بعد تلك الأقوال، حدث بينهم جدل وقيل وقال، بسبب اختلاف مشاربهم وأذواقهم ومداركهم. قال أحدهم: « إنّنا لا نذهب إلى حدود برهوت، فنحن نعلم أنّهم يتعذّبون على وجه العموم، ومع ذلك فقد أعطانا الله الحقّ في أن نقتصّ لأنفسنا بأيدينا ».
وقال آخر: «بل يجب أن نذهب إلى حدود بَرَهوت لنتفرج ونشفي غليل قلوبنا، فإذا لم يحصل ذلك فليس لنا أن نلحّ أكثر من هذا، وإلاّ فقد ينقلب الأمر علينا، كما حصل في الدنيا بسبب ضعف الشيعة، فتأخّر الظهور».
وكان الثالث يقول: « كلاّ، علينا بعد رؤية برهوت أن نتابع مطاليبنا، وليحدث ما يحدث، فقد نفد صبرنا ».
كان القال والقيل والهرج والمرج من الشدّة بحيث كان الكلام مختلطاً وغير مفهوم، ولم يكن أحد يستمع إلى نداءاتنا بالسكوت والهدوء.
وأخيراً عاد فوج الملائكة بكلّ عظمة وجلال فأعشى نوره أبصارنا، ووقف الملائكة يتفرجون ونحن بملابسنا الرثّة وشعورنا الشعث المغبرة وهيئاتنا الذليلة، فراحوا ينظرون إلينا نظرات الاحتقار، وعلى الأخصّ إليّ أنا الذي كنت السبب في كلّ ذلك، نظرات أشبه بنظرتهم إلينا عند أوّل خلقنا، إلاّ أنّ ثورة الحاضرين هدأت بمجيء الملائكة.
في هذا الموقف، رأيت من المناسب أن أخطب في هذا المجمع الحاشد، فارتقيت منبراً كان هناك وشرعت في الكلام:
------------
78 ـ الإنسان / 8.
79 ـ في هذا إشارة إلى حكاية ذبح نبي الله يحيى بن زكريا عليه السّلام بسبب تلك المرأة الفاجرة ووضع رأسه في الطست، ووقوع قطرة من دمه على الأرض، فأخذت تفور كينبوع من الدم، وكان من نتيجة ذلك أن نزل البلاء وتسلّط نبوخذ نصّر على بني إسرائيل وقتل الكثير منهم، حتّى توقّف فوران الدم على أثر قتل امرأة عجوز كانت هي سبب قتله. ولقد وردت هذه الحكاية بالتفصيل في بعض التفاسير وكتب التاريخ وقصص الأنبياء عليهم السّلام.
80 ـ فيما يختصّ بتنزل الوجود وترقّيه في العوالم ونشآته المختلفة لا نجد سنداً في الكتاب ولا في السنّة ولا في روايات أهل البيت عليهم السّلام. بل هو موضوع تتناوله الفلسفة في افتراضات تطبق عليها أحوال البرزخ ويوم القيامة والأرواح.
والحقيقة أنّ الآيات والروايات لا تتطابق مع الفلسفة اليونانية التي دخلت المعارف الإسلاميّة بعد نزول القرآن وفي عهد المأمون لتأييد سياسة الحكّام العباسيين، بل هي تخالفها وتناقضها. (راجع: موضوع السماء والعالم في المجلد 14 من بحار الأنوار، للعلاّمة المجلسيّ في مبحث الروح).
81 ـ لابدّ أن مدة غير قصيرة قد انقضت منذ وفاته، حتّى ساغ أن تتزوج زوجته من بعده عقب انقضاء عدّتها. ومن البيّن أن الزمن في عالم الدنيا غير الزمن في عالم البرزخ، فما كان هنا طويلاً مديداً، قد يكون هناك قليلاً وجيزاً.
82 ـ النساء / 10.
83 ـ الفلق / 1 و 2.
84 ـ الفلق / 5.
85 ـ فاطر / 43.
86 ـ الإنسان / 5.
87 ـ الرحمن / 73 و 74.
88 ـ ورد هذا الحديث في كتاب سفينة البحار، للشيخ عبّاس القمّي، ينقله عن المرحوم المجلسي: عن زرارة بن أعين، عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: « إنّ الإيمان قائم على أعمدة خمسة: الصلاة، والصوم، والحجّ، والزكاة، والولاية ».
فسأله زرارة: أيّها أفضل ؟ فقال الإمام: « الولاية أفضلها، لأنّ روح تلك الأعمال هي الولاية ». وفي نهاية الحديث يقول الإمام عليه السّلام: « إذا قام رجل الليل كلّه، وصام النهار كلّه، وتصدّق بكلّ ما يملك، وحجّ بيت الله الحرام كلّ سنة طول عمره، ولكن لا يكون له إمام معصوم يتّبع أقواله، لا يكون له أيّ ثواب ولا يستحقّ من الله شيئاً، ولا يُحسب من أهل الإيمان ».
89 ـ العصر / 2.
90 ـ الدخان / 3. تفسير ليلة القدر بفاطمة الزهراء عليها السّلام.
91 ـ القدر / 4.
92 ـ الواقعة / 63 و 64.
93 ـ الصف: 13. سبق أن قلنا أنّ من البشائر لأهل الجنّة هو عودتهم إلى دار الدنيا مع إمام العصر والزمان عليه السّلام والانتقام من الظالمين. وقد فُسّرت هذه الآية بظهور الإمام عجّل الله تعالى فرجه.
94 ـ يُروى أن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه في زيارته لجدّه الحسين عليه السّلام يخاطبه بهذا القول.
95 ـ آل عمران / 169.
96 ـ النمل / 62.
97 ـ الفتح / 25. يروي ابن بابويه في كتاب (كمال الدين) في تفسير هذه الآية: أنّ إبراهيم الكرخي سأل الإمام الصادق عليه السّلام : لماذا لم يَقتل الإمام عليّ عليه السّلام ـ وهو القوي الشجاع ـ جميعَ ظالميه وغاصبيه لينتزع منهم حقوقه ؟
فأجابه الإمام عليه السّلام: « بسبب مفاد هذه الآية » أي من أجل المؤمنين الذين كانوا سيُولدون من أصلاب أُولئك الكفار، فهو لم يقتلهم لكي تولد ذرياتهم ويتميزون. وإن قائمنا أيضاً لا يظهر حتّى يولد أبناء صالحون ومؤمنون من أصلاب الكفّار والأشرار. فبعد ظهور الإمام لا يبقى غير الدين الحقّ والكفّار: إمّا أن يسلموا، وإمّا أن يُقتَلوا حتّى يتوحّد صلاح الدنيا.
98 ـ بديهي أنّ تردّد الله في قبض روح المؤمن ليس مثل تردّد عبيده عندما يقولون: كلاّ، نعم، لا ندري. بل هو كناية عن محبّة الله وشفقته تجاه عبيده المؤمنين الصالحين.
99 ـ الانسان / 30، والتكوير / 29.