سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 5
حشد القوى لخوض الجولة الحاسمة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو عالمُ الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر، ربّ العالمين، مجيب دعوة المضطرين، كاشف كرب المكروبين، راحم المساكين، أمان الخائفين، غِياث المستغيثين، واضع المستكبرين. والسلام والصلاة على أوّل الوِرْد، وظِلّ الواحد الأحد، فاتحة كتاب الموجود، بسملة نور الوجود، البيت المعمور، والكتاب المسطور، وعلى آله الغُرّ الميامين، وسلالة النبيّين، وصفوة المرسلين، وخيَرة ربّ العالمين، لا سيّما ابن عمّه وصهره ووزيره وخليفته، صاحب العجائب، ومُظهر الغرائب، ومفرّق الكتائب، والليث الغالب، عليّ بن أبي طالب.
وبعد: فقد قال عزّ مِن قائل، وجلَّ مِن متكلّم:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنْجَعلَهُمْ أئمّةً وَنجْعَلَهُم الوَارِثينَ (100).
يا إخوان الصفا، وفُرسان الهَيجا، ومُحبّي الأئمّة وهداة الأمة. إنّ أهل بيت نبيّنا وإن لم يكونوا ضعفاء، إلاّ أنّهم استُضعِفوا وفي دنيا الجهل ظُلموا على أيدي الجهّال الظلمة، فتوالَت عليهم المظالم والمحن، وتتابعت منهم صرخات الاستغاثة: هل من ناصر ينصرنا ؟! وقد وصل نداؤهم إلينا الآن، فعلينا أن نلبّي هذا النداء، وأن لا نبخل بشيء نقدر عليه.
إنّ هذه الدعوة التي وصلت إلينا لا نتطلّع فيها إلى دنيا ولا إلى آخرة، ففي الدنيا بقينا ننتظر ونأمل حتّى أخذنا أملنا في اليوم الموعود معنا إلى القبر. واليوم لا هدف لنا غير ذاك الهدف، ولا نسلك غير ذاك السلوك. إنّ قصار النظر الذين يريدون أن لا نلحّ ولا نلحف لئلاّ تنقلب الآية، يحسبون أنّ طلبنا وإلحاحنا موجّه إلى فرد مخلوق فقير الإمكانية، لا إلى ربّ كريم.
على أُولئك أن يعرفوا أنّ الصلحاء لا يُقرَنون بالطلحاء، فإنّه أرحم الراحمين، ولا يبرّهم بإلحاح الملحين.
كذلك مقولة أُولئك الذين يقولون: إنّنا يجب أن لا نذهب للتفرّج على ما يعانونه من عذاب، لأن التفرّج لا يشفي غليلاً، إنّ في مقولتهم تمرّداً على البارئ تعالى ولجاجة معه عزّ اسمه. فيجب أن نذهب وأن نكون على استعداد حربي كافٍ، حتّى إذا ما سُمح لنا بالحرب، نكون قد أعددنا العدّة لها، إذ إنّنا ننوي أن نقيم هناك ولا نكفّ عن طلب المقصود إلى أن نعود في أيدينا شاهد القصد وإن طال ذلك آلاف السنين. فمن يجد في نفسه هذا العزم الثابت والإرادة الحديدية والهمّة العالية فليتهيّأ للحركة، وإلاَّ فعليه أن يظلّ هنا، لأنّ مجيئه سيضرّنا ولا ينفعنا.
فانبرى اثنا عشر ألف بطل قائلين: إنّهم حاضرون جميعاً، ولن يعودوا حتّى بلوغ الهدف. فنزلت عن المنبر، وانفتح الباب الصغير في البوابة الكبيرة، وخرج ألف فارس مدجج بالسلاح، وأُعطي زعيمهم راية، وقيل لهم: عليكم عند كلّ مرتفع ومنخفض أن ترفعوا أصواتكم بنداء لبّيك وسعديك، وكأنّكم تسمعون نداء (هل من ناصر) الذي صدر عن الإمامين الغريبين الوحيدين، لكي تبقى الدماء في فورانها.
وطلبتُ من رئيس الملائكة أن يرسل مائة ملك لمرافقة هذا الفوج، فلم يجد بدّاً من الموافقة على ذلك.
وهكذا راحت الأفواج تترى يصاحب كلاًّ منها مائةٌ من الملائكة، حتّى اكتملنا ستّة أفواج فتحرّكنا، على أن يلحق بنا فوج سابع مع باقي الملائكة. وحملت بيدي علماً كتب عليه: ( نصرٌ مِنَ اللهِ وَفتْحٌ قَرِيبٌ ) وقد شهرنا سيوفنا بأيدينا، ونحن ننادي على كلّ مرتفع ومنخفض بأعلى أصواتنا: لبيك! فتختلط بصهيل الخيل ووقع أرجل الفرسان، فكانت جنبات الوادي وسفوح الجبال تهتزّ من ذلك.
* * *
مُحاججة مع رئيس الملائكة
كنت أنا ورئيس الملائكة نتحرّك جنباً إلى جنب على رأس الجيش الكثير الجلبة والضجيج، ولاحظت أنّ حضرة الرئيس مقطّب الجبين عابس ومطأطئ الرأس وغارق في التفكير، ويهمّ أحياناً أن يقول شيئاً، ولكنّه يبتلعه ويلزم السكوت. وعلى الرغم من أنّي كنت أعرف ما يجول بخاطره، فقد سألته:«ماذا بك ؟».
قال: «إنّني خائف من سلوككم الثائر هذا، الذي لم يحدث مثله في هذا العالم الذي يسوده الأمان دائماً، وأخشى أن ينزل غضب الربّ عليكم فتصيبنا النار التي ستصيبكم».
فقلت: « ولماذا تصيبكم نارنا ؟ ».
قال: « لأنّنا لم نَنْهَكم عن أعمالكم القبيحة هذه ».
قلت: « إذا كانت أعمالنا قبيحة فلماذا لم تَنهونا عنها ؟ ».
قال: « لأنّنا أُمرنا أن نوصلكم إلى حدود برهوت ».
قلت: « ونحن أيضاً ذاهبون معكم، فما وجه القبح في أعمالنا ؟ ».
قال: « تجييشكم هذه الجيوش، وإثارتكم الفتنة ».
قلت: « هل أمركم الله أن تأخذونا بصورة أُخرى ؟ ».
قال: « لا، بل قال خذوهم ».
قلت: « الأخذ إذن مطلق، ولا يقتصر على صورة معينة، راجلين أو راكبين، مسلّحين أو غير مسلّحين... فمهما تكن هيئتنا، فعليكم أن تأخذونا بأمر من الله، وما في هذا من قبيح، لأنّ الله لا يأمر بالقبيح. وعليه فلو أنّكم نهيتمونا عن أمر الله لكنتم قد خالفتم ما أنزل الله، ولغضب الله عليكم، ولهذا فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على من يعرف المعروف والمنكر ويميّز بينهما، ولكنّك ما تزال لا تعرف الحسن والسيّئ ولا تميّز بينهما، فكيف كنت تستطيع أن تنهانا عن أمر وتأمرنا بأمر آخر ؟ ».
ورأيت أنّه نزل كثيراً عن عظمته السابقة وصغر، وقال: « الحمد لله على أنّي لم أفتح فمي بنهي ».
قلت: « إنّ غيرتي تحدوني إلى أن أحملك على التصاغر أكثر من هذا. إنّ قولك: بأنّ حادثة كهذه لم تحدث من قبل في هذا العالم، يعني أنّك تقيس المستقبل على الماضي، وأنّه يجب أن لا يحدث أيّ جديد. إنّ أوّل من قاس هو إبليس الذي قال: إنّ ما صُنع من نار يكون منيراً، وإن ما صنع من تراب يكون مظلماً لا نور فيه. وأنت تعلم أنّ قياس إبليس هذا كان باطلاً، ولتعنّته هذا طُرد من حضرة الله. وقياسك هذا باطل أيضاً لأنّ الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأنٍ (101).
* * *
إشكال خائف لرئيس الملائكة
فرأيت رئيس الملائكة قد صغر أكثر، وقال: « إنّ خوفي نابع من أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لعليّ صريحاً: إنّ الطيّب لم يزل غير متميّز عن الخبيث، ولا يكون الظهور إلاّ بعد تمايز الطيّب عن الخبيث وانفصالهما عن بعض، كما في قصّة نوح، ولكنّكم تسعون ـ بخلاف التقديرات الإلهية ـ أن تستعجلوا حدثاً يقدّر الله أن يتأخّر وقوعه. وبعبارة أُخرى، إنّ ما قُدّر له أن يحدث غداً أتريد أنت أن تجعله يحدث اليوم ؟! وهذا في الواقع ادّعاء الربوبيّة » (102).
فسالته: « هل يُقدَّر كلّ حدث في هذا العالم ضمن سلسلة أسبابه أم لا ؟ ».
قال: « لا شكّ أنّها تقدّر ضمن سلسلة عِللها، لأنّ الطفرة في هذه الأحوال مستحيلة ».
قلت: « أحسنت، إنّ سلوكنا هذا ودعاءنا وإلحاحنا في الطلب، مهما كان عجيباً في نظرك، قد يكون من جملة الأسباب والمقدّرات الإلهية، لأنّ خطرات النفس وميولها كثيراً ما لا تكون مسيطَراً عليها (103).
وعليه فإنّ الإلحاح في الدعاء والطلب من الله من جملة المقدّمات التي تقرّب ظهور البعيد، وتبعد ظهور القريب، وترفع الموانع، وتوجد شروط الحدوث، وإنّ الإلحاح في الدعاء من المستحبّات، إذ إنّه إذا لم يكن له تأثير فإنّ له في الأقلّ ثوابه ».
فخفّ عبوس رئيس الملائكة، وانتقل من الانغلاق إلى الانفتاح، ولان طبعه، وقال: «لكنّ النبوءات والإلهامات والخطرات الرحمانية لعبيده، تأتي عن طريق الملائكة ، ولا يكون غير ذلك، لأنّ الطفرة مستحيلة (104)، ونحن لا علم لنا بهذه الخطرات والحوادث».
قلت: « لقد نزلت الآيات الأخيرة من سورة البقرة بغير وساطة جبرائيلكم، أليس لكم رؤساء ؟ ».
قال: « بلى كثيرون، ولا نعلم درجاتهم ».
قلت: « فلعلّ هذه الخطرات والحوادث قد وقعت عن طريق رؤسائكم. ثمّ إنّنا من محبّي أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإلاّ لما كنّا في هذا الجاه والمقام. وإنّ من لوازم المحبّة إعانة العاشق معشوقه للوصول بكلّ ما يمكن، ولو بلسان الدعاء، فما وجه اعتراضكم ؟ تقولون: لماذا تحبّونهم، أو لماذا تعملون وفق لوازم المحبّة ؟ وماذا إذا لم يحر جواباً » (105).
قلت: « إنّ ما يوجب تعاليكم هو تجرّدكم. ولو أنّنا ظللنا على تجرّدنا الأوّل أيضاً، ولم نتعلّق بالتراب، لكنّا مثلكم، بل لعلّنا كنّا ندّعي الإلوهية، كما يقول الإمام الصادق عليه السّلام. ولكنّكم تؤيّدون حتماً أن ليس كلّ متجرّد أعلم من المادّي غير المتجرّد وأرفع منه » (106).
* * *
على سفح جبل الرحمة
وهكذا كنّا نسير بكلّ أُبّهة وجلال على رأس هذا الفوج من الملائكة، ونحن نهتف: لبّيكَ لبيك! حتّى وصلنا إلى سفح جبل شاهق اسمه جبل الرحمة، وكان فيه باب وسور: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (107).
كانت أفواج طلائعنا قد ضربت الخيام عند سفح الجبل، وجلست في انتظارنا. وعند وصولنا انطلقت هتافات لبيك، لبيك! من الجميع، فارتجّت أركان الجبل وجنباته. وكانت خيمتنا قد نصبت فدخلت فيها مع رئيس الملائكة ورؤساء أفواج الملائكة السابقين الاثني عشر، وسألنا: «لِمَ وقفتم عند سفح الجبل ولم تصعدوا ؟».
* * *
رجال على الأعراف
فقالوا: « ظهر لنا أشخاص منعونا من ارتقاء الجبل، إذ إنّ ذلك ممنوع إلاّ لنفر معدودين: وَعَلى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ . (108).
فالتفت إليّ رئيس الملائكة وقال: « صحيح أنّك اسكتّني بأدلّتك المقنعة، لأنّنا لسنا من أهل المنطق والاستدلال، ولكنّني لم اكتشف في تصرّفاتكم هذه رضى الله تعالى، ولا يُستبعد أن يكون توقيفكم هنا مقدّمة لنزول العذاب الذي قد يحيق بنا أيضاً ».
قال هذا وهو يرتعد خوفاً، الأمر الذي أوقع سائر الحاضرين في القلق والاضطراب، فخشيت إذا انكشف هذا للآخرين أن ينفرط عقد الجيش، فطلبت من رؤساء أفواج الملائكة أن يكتموا ما دار بيننا من حديث ولا يذيعوه في الخارج.
ثمّ التفت إليّ رئيس الملائكة، فابتسمت في وجهه، وقلت: « قم نتمشّى في أطراف المعسكر نتفقّد شؤونه، ونتعرف أحواله، ونستكشف سفح الجبل، فلعلّنا نطّلع على سبب تأخيرنا هنا، فتزول المخاوف، فلا تكون باعثاً على اضطراب الآخرين ».
فخرجنا نتمشّى حتّى وصلنا إلى خيمة كان صاحبها منهمكاً في إصلاح سلاحه ، وهو يدمدم بأبيات من الشعر تحكي عن طول انتظاره، وكذلك الأمر مع بعض الخيام الأُخرى، فاحسست بالانبساط ورحت أختلس النظر إلى رئيس الملائكة مزهوّاً، إلى أن وصلنا في تجوالنا إلى تلّ على بُعد مائة قدم من المعسكر، فنظرنا من فوق التلّ إلى جهة المشرق فرأينا سحابة سوداء تغطي الأُفق كلّه، وترسل البرق والرعد والشهب بأشكال مختلفة وحركات مشتّتة، بحيث غدا الأُفق شعلة من نار. وما إن وقع نظر رئيس الملائكة على ذلك حتّى قال: « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ».
فسألته: « ما الذي يحدث هناك ؟! ».
* * *
ريح برهوت ولعن أعداء أهل البيت
فقال: « تلك ريح برهوت، وتلك الشهب التي تراها بصورة رماح وسيوف وخناجر وأعمدة، تنهمر على أعداء آل محمد صلّى الله عليه وآله، وهي اللعنات التي يرسلها المؤمنون عليهم، أمّا أصل العذاب والانتقام الإلهي فعلى الأرض، حيث تستعر مثل كورة الحدّاد، وتموج بالحيوانات المفترسة النارية وأنهار النحاس المنصهر التي تجري فيها ».
كنا نرى تلك السهام الشهابية عندما تنفذ في أبدان الأعداء، تخرج منها لتصيب آخرين، وإذا ما أصابت الأرض ارتفعت مرّة أخرى، لتصيب عدداً آخر منهم، فإذا فرّ أحد من أمامها، تبعته وكأنّها تعرف هدفها، ولا بد أن تصيبه.
وكنا نرى أُولئك الأعداء يرتفعون دون اختيار في الهواء، ثم يرتطمون بالأرض، مثل حبّات الحرمل في الإناء الساخن، لم يكن يقرّ لهم قرار، وكنّا نسمع أصوات صراخهم وعوائهم كالكلاب. كان هذا المنظر قد أفرحني بحيث إنّي طلبت أن تقام خيمتي فوق هذا التلّ، وأن تُضرب الخيام الأُخرى حوله؛ لكي لا يفوتهم التمتّع بذاك المنظر الفريد المفرج. فهرع الجميع لرؤية تلك المشاهد. وهم يظهرون الابتهاج ويصفّقون ويهللون: فَرِحِينَ بِما آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (109).
ولما كانت تلك الشهب التي تصيب الأعداء هي نتيجة للعن المؤمنين، كما قال رئيس الملائكة، فقد طلبنا من الجيش أن يلعنوا أعداء أهل البيت، وبدأت أنا أقرأ بصوت مرتفع حتّى يسمعني الجميع:
« اللهمّ العن أوّل ظالم ظلم حقّ محمّد وآل محمّد صلّى الله عليه وآله، وآخِرَ تابع له على ذلك. اللهمّ العن العصابة التي جاهدت الحسين عليه السّلام، وشايعت وبايعت وتابعت على قتله، اللهم العنهم جميعاً ».
وقرأت أيضاً:
« اللهمّ خُصّ أوّلَ ظالم باللعن منّي. اللهمّ العَن يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمراً، وآل أبي سفيان، وآل زياد وآل مروان، إلى يوم القيامة ».
كان الجيش قد اصطفّ يتابعني في اللعن بأصوات مرتفعة، ولاحظنا أنّ عدد الشهب قد ازداد بالملايين على أثر لعناتنا، واظلمّت الدنيا هناك من الدخان والغبار. كانت الحالة من الشدّة بحيث إنّه إذا أصاب شهاب أحدهم كان يرتفع من الأرض إلى الفضاء بين الشهب، فكانت تصيبه من كلّ جهة: من الشرق ومن الغرب، ومن الشمال ومن الجنوب، وأحياناً من فوق ومن تحت، وهو يدور متقلباً في الهواء حتّى يسقط على الأرض مرّة أُخرى.
كان أفراد العسكر يستبدّ بهم الطرب، فيزدادون في اللعن والدعاء، حتّى جفت أفواههم وتلعثمت ألسنتهم، وهم يرون الظالمين قد شُويت أجسامهم، وغدت كالغرابيل من كثرة الثقوب.
* * *
الهدف النهائي: استئصال الظالم
ولكن على الرغم من كلّ ذلك لم تقرّ عيون الجيش، لأنّ منتهى درجة التشفّي بالانتقام وتبرّد قلب المظلوم لا يتمّ إلاّ بموت الظالم، وخروجه من عالم الوجود، كما أنّ تبرد قلب المظلوم في دار الدنيا لا يكون إلاّ بمحو الظالم من صفحة الوجود. إنّ الموت والفناء والخروج من الدار الآخرة أمر غير ممكن، إذ أنّ الحياة هناك ذاتيّة، وإنْ شويت ابدانهم وامتلأت ثقوباً، فقد قال سبحانه:
وإنَّ الَّدارَ الآخرةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ (110) و كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا » (111) .
اجتمعنا نحن السبعة رؤساء الأفواج، والسبعة رؤساء الملائكة في خيمتي، للتشاور فيما ينبغي أن نفعله لبلوغ الانتقام التامّ، لتهدأ القلوب من ثورتها وفورانها، وتبرد بهذه الحرب التي نحن عازمون عليها.
ثمّ إنّ قلب إمام العصر والزمان، الذي هو قلب عالم الإمكان، يفور ويغلي وهو ممتلئ بالحزن، فيكون على الشيعة، الذين هم الفراشات حول تلك الشمعة، وأغصان تلك الشجرة، أن يظلّوا في همّ وحزن أيضاً لأنّهم ـ كما قالوا عليهم السّلام:
« شيعتُنا خُلقوا من فاضل طينتنا، وعُجنوا بماء ولايتنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ».
قال بعض: « يحسن بنا أن ندخل بَرَهوت، ونقطّعهم بأسلحتنا إرْباً إرْباً، وإن لم يموتوا؛ فإنّ الضرب بأيدينا قد يطفئ سعير قلوبنا ».
قال رئيس الملائكة: « لا شكّ أن العذاب الذي يحيق بهم الآن أشدّ كثيراً من قيامكم بقتلهم. ثمّ إنكم غير مسموح لكم بدخول برهوت ».
وقال آخر: « إنّ دخولنا إلى برهوت يرفع عنهم العذاب، فكما أنّ المؤمن يخاف نار جهنم، فإنّ نار جهنّم أشدّ خوفاً من المؤمن. إذن فدخولنا برهوت يرفع عنهم العذاب، وهذا نقيض ما نقصد إليه ».
قلت: « إنّ سبب حزننا وفوران دمائنا هو الآلام التي يتحمّلهما إمام الزمان عليه السّلام، فما لم تنطفئ نيران قلب إمامنا فلن يهدأ لنا بال، ولن تبرد قلوبنا، لأنَّ شيعته يحزنون لحزنه. فعلينا أن نفكّر للعثور على طريقة تجعله يخرج من حالة الانتظار التي يعيش فيها، وهذه لا تكون إلاّ بالدعاء لله والالتماس منه كي يأذن له بالظهور، ولا سبيل غير ذلك. إنّ علينا أن نتوسّل بكلّ جوارحنا بمُغيث المساكين حتّى يحلّ مشكلتنا هذه ».
* * *
دعاء الفَرَج
استحسن الجميع هذا الرأي إلاّ الملائكة فقد لزموا الصمت، وفي هذه اللحظة دخل جمع من أفراد العسكر قائلين: إنّ نيران قلوبهم لا تنطفئ إلاّ باستعمال السيف والسنان. فطلبوا أن يُخبَر الجميع بالاستعداد للتوجّه إلى البيت المعمور، حيث نطلب من الله أن يعجّل ظهور وليّه حتّى يمكن علاج جميع أدوائنا. وهذا هو ما عُقد عليه عزم أهل الحلّ والعقد، فدعاء الفرج في آخر الزمان من أفضل الأدعية. وقمنا نحن أيضاً، والتحقنا بصفوف الجيش، ورفعنا أيديَنا الدعاء:
« اللهمّ عظم البلاء، وبرح الخفاء، وانكشف الغطاء، وضاقت الأرض ومنعت السماء، وإليك يا ربّ المشتكى، وعليك المعوَّل في الشدّة والرخاء. صلّ على محمّد وآل محمّد اُولي الأمر الذين فرضت علينا طاعتهم، فعرّفتنا بذلك منزلتهم، فرّج عنّا بحقّهم فرجاً عاجلاً كلمح البصر، أو هو اقرب من ذلك، يا محمّدُ يا عليّ، يا عليّ يا محمّد، انصراني فإنّكما ناصراي، واكفياني فإنّكما كافياي. يا مولاي يا صاحب الزمان، الغوث، الغوث، الغوث! أدركْني، أدركْني، أدركْني! العجل، العجل، العجل! (112).
ثمّ أضفت قائلاً:
« اللهمّ... فأخرِجْني من قبري مؤتزراً كفَني، شاهراً سيفي، مجرِّداً قناتي، ملبّياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي » (113).
تركنا الصفوف في حالة الدعاء، وذهبنا في بضعة نفر إلى دائرة الهاتف التي كانت في اللوح هناك، لكي نرى ونسمع الحوار في الملأ الأعلى، ونتعرف على رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى عليّ وأولاده عليهم السّلام. فرأينا النبيّ صلّى الله عليه وآله وعلياً وأهل بيته عليهم السّلام يقفون صفّاً رافعين أيديهم بدعاء الفرج، ومن ورائهم وقفت صفوف الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين يدعون معهم، فأدركنا أنّ اجتماعنا الاستشاري، واتحاد آلامنا، واتجاهنا إلى دعاء الفرج، إنّما كان بإملاء باطني من الملأ الأعلى، إذ إنّ حركة هذا الظلّ ناشئة من حركة تلك الباقة من الورد.
قلت: « لا شكّ أنّ ذلك قد اثّر في الدنيا أيضاً، لأنّنا نظرنا فرأينا الإمام صاحب الزمان قد اجتمع مع جمع من أصحابه على رأس جبل، رافعين أيديهم بالدعاء أيضاً. ورأينا في مختلف بلاد الإسلام ومدنها جموع المسلمين قد تجمّعت في مجموعات كبيرة وصغيرة في المساجد مشغولين بالدعاء وقراءة: أمّنْ يُجيبُ المُضطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء .
وفي الصحارى رأينا قطعان الحيوانات: من مفترسة ومجترّة وجارحة، قد عقدت الاجتماعات، وكلّ جمع يعرب بلسانه عمّا يعانيه من طول انتظار الفرج.
بعد رؤية هذه المناظر قوي أملنا بقرب بلوغنا المقصود. وطلبنا من عامل الهاتف أن يخبرنا فوراً إن جدّ خبر مفرح.
* * *
صولة الحقّ
عدنا إلى حيث صفوف أصحابنا المنتظمة للدعاء، فرأينا أنّهم في حال غريبة، فبعض في حال من البكاء وبشفاه يابسة، رافعين أيديهم بالدعاء، وقد وقفوا حيارى. وبعض قد شقّوا جيوبهم ووقعوا على الأرض. فقلنا لهم: انهضوا وافتحوا أعينكم، فالأمل بنيل المقصود قريب. ثمّ جاء من يطلبنا إلى الهاتف، فذهبنا ورفعنا السماعة، وإذا بالصوت يأتينا من الكعبة في دار الدنيا، عرفنا فيه صوت إمام الزمان الذي ينعش القلب وهو ينادي:
« ألا يا أهل العالم، أنا الإمام المنتظر، ألا وإنّ جدّي الحسين قُتل عطشاناً » (114).
عدت إلى المعسكر لأرى الذين يحبّون أن يكونوا في ركاب الإمام للانتقام من الأعداء، يمتشقون سيوفهم بأيديهم ويخرجون من القبور:
فقد جَاءَ الَحقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً (115).
وقد مضت جولة الباطل، وطلعت دولة الحقّ.
(عن كتاب: سياحة في الغرب، أو مسير الأرواح بعد الموت تأليف: السيّد حسن النجفي القوجاني)