وحي القرأن الكريم (1)

المسلمون ووحي القرآن:

تحدث القرآن الكريم عن الوحي ومنزل الوحي اكثر من غيره من الكتب السماوية المقدسة كالتوراة والانجيل، وحتى نجد فيه آيات تتحدث عن كيفية الوحي نفسه.
ويعتقد عامة المسلمين(1) في وحي القرآن: أن القرآن بلفظه كلام الله تعالى أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة أحد الملائكة المقربين.
هذا الملك الوسيط يسمى بـ«جبرائيل» و«الروح الأمين» جاء بكلام الله تعالى إلى الرسول في فترات مختلفة بلغت ثلاثا وعشرين سنة. وكان على الرسول أن يتلو الآيات على الناس ويوقفهم على معانيها ويدعوهم إلى ما فيها من المعارف الاعتقادية والآداب الاجتماعية والقوانين المدنية والوظائف الفردية.
بمعنى واحد وهما مترادفان. وعليه فلكل الآيات القرآنية تأويل، وبمقتضى قوله تعالى (وما يعلم تأويله الا الله) يختص العلم بالآيات المتشابهة بالله عز شأنه.
ومن هنا ذهب جماعة من القدماء إلى أن الآيات المتشابهة هي الحروف المقطعة التي في أوائل السور، لأنه لاتعرف آية تخفى معناها على الناس الا هذه الحروف. ولكننا في فصول سابقة بحثنا عن هذا بشيء من التفصيل وذكرنا وجه عدم صحته.
وعلى أي حال لما نفى القرآن الكريم علم تأويل بعض الآيات عن غير الله تعالى، وليس لنا آية لايعرف تأويلها ¬ أي يخفى معناها على الكل كما ذكروا  ولم تكن الحروف المقطعة التي في أوائل السور هي الآيات المتشابهة.. لهذه الوجوه ترك المتأخرون هذا القول الذي ذهب اليه القدماء.
2- ¬ قول المتأخرين، وهو أن «التأويل» المعنى خلاف الظاهر الذي يقصد من الكلام. وعليه فليس لكل الآيات تأويل، وانما يختص ذلك بالآيات المتشابهة التي لايحيط بعلمها الا الله، كالآيات الظاهرة في الجسيمة والمجيء والاستواء والرضا والسخط والأسف وغيرها من الأوصاف المنسوبة اليه جل جلاله وكذلك الآيات الظاهرة في نسبة الذنب إلى الرسل والأنبياء المعصومين عليهم السلام.
بلغ هذا القول من الاشتهار بحيث أصبحت لفظة «التأويل» كالحقيقة الثانية في المعنى خلاف الظاهر، فان تأويل الآيات القرآنية في المباحث الكلامية والخصام العقائدي يعني هذا المعنى بالذات، كما أن حمل الآية على خلاف ظاهر معناها بدليل يسمونه «التأويل» موضوع دائر على الألسن مع أنه لايخلو من تناقض(2).
هذا القول مع شهرته العظيمة ليس بصحيح، ولاينطبق على الآيات القرآنية، لأنه:
أولا - الآيتان المنقولتان في الفصل السابق (هل ينظرون الا تأويله) و(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) ظاهرتان أن كل في الآيات لها تأويل ولايختص ذلك بالآيات المتشابهة كما يبدو من هذا القول.
وثانيا - لازم هذا القول وجود آيات في القرآن يشتبه الناس في فهم مدلولها الحقيقي ولايعلمه الا الله تعالى. ومثل هذا الكلام الذي لايدل على مدلوله لايعد كلاما بليغا فكيف بتحديه للبلغاء في بلاغته.
وثالثا - بناء على هذا القول لاتتم حجية القرآن الكريم، لأنه حسب احتجاج الآية الكريمة (افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)، احدى الدلائل على أن القرآن ليس من كلام البشر عدم وجود اختلاف معنوي ومدلولي بين الآيات ¬ مع بعد أزمان نزولها وتباين ظروف النزول واسبابه ¬ وما يظهر من الاختلاف بين بعض الآيات في بادىء النظر يرتفع بالتفكر والتدبر في الآيات.
ولو فرضنا أن كمية كبيرة من الآيات المسماة بـ«المتشابهات» تختلف مع كمية أخرى تسمى بـ«المحكمات» ونرفع الاختلاف بينها بأن نذهب إلى أن ظاهرها غير مراد وما يراد منها معان لايعلمها الا الله تعالى.. هكذا رفع الاختلاف لايدل علىأن القرآن ليس من كلام البشر.
وهكذا لو رفعنا الاختلاف بصرف ظاهر كل آية يخالف مضمونها أو يناقض الآيات المحكمة، فأولناها ¬ حسب اصطلاح المتأخرين ¬ بأن حملناها علىمعنى خلاف الظاهر.
ورابعا - لادليل اطلاقا على أن المراد من «التأويل» في آية المحكم والمتشابه هو المعنى خلاف الظاهر، كما لم يقصد مثل هذا المعنى في الآيات التي ذكرت فيها لفظة التأويل، فمثلا:
في قصة يوسف عليه السلام عبر في ثلاثة مواضع(3) عن تعبير الرؤيا بكلمة «التأويل»، وظاهر أن تعبير الرؤيا ليس معنى خلاف الظاهر للرؤيا بل هو حقيقة خارجية ترى في النوم بشكل مخصوص، كأن رأى يوسف تعظيم أبيه وأمه واخوته بشكل سجدة الشمس والقمر والنجوم له، ورأى ملك مصر سنوات القحط في صورة سبع بقرات عجاف يأكلن سبعا سمانا، ورأى صاحبا يوسف في السجن الصلب وخدمة الملك في صورة عصر الخمر وحمل الخبز على الرأس تأكل الطير منه.
وفي قصة موسى والخضر، بعد ان يخرق السفينة ويقتل الغلام ويقيم الجدار، يحتج عليه موسىفي كل مرة فيذكر له السر الكامن وراء أعماله ويسميه «التأويل». ومعلوم أن حقيقة الاعمال والنظر الحقيقي في انجازها كالروح لها سميت بالتأويل، وليست هي المعنى خلاف الظاهر لها.
ويقول تعالى بشأن الوزن والوكيل: (واوفوا الكيل اذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرا وأحسن تأويلا)(4).
وواضح أنه يريد من التأويل في الكيل والوزن وضعا اقتصاديا خاصا يوجد في السوق بواسطة البيع والشراء والنقل والانتقال. والتأويل بهذا المعنى ليس معنى خلاف الظاهر من الكيل والوزن، بل هو حقيقة خارجية، وروح أوجدت في الكيل والوزن تقوى وتضعف بواسطة استقامة المعاملة وعدم استقامتها.
ويقول تعالى في موضع آخر: (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول... ذلك خير وأحسن تأويلا)(5). من الواضح أن المراد من التأويل في هذه الآية هو ثبات الوحدة واقامة علاقات روحية في المجتمع، وهذه حقيقة خارجية وليست معنى خلاف الظاهر لردع النزاع.
وهكذا المواضع الأخرى من القرآن الكريم الواردة فيها لفظة «التأويل»، وهي مع ما سبق ستة عشر موضعا. ففي كل هذه المواضع لايمكن أخذ التأويل بمعنى «المدلول خلاف الظاهر»، بل هو معنى آخر يلائم ايضا مع التأويل الواردة في آية المحكم والمتشابه كما سنذكره في الفصل الآتي. ولهذا لاموجب لتفسير «التأويل» في الآية المذكورة بمعنى «المدلول خلاف الظاهر».

 

المعنى الحقيقي للتأويل في عرف القرآن:

ملخص ما نستفيده من الآيات الوارد فيها لفظ «التأويل» ¬ وقد سبق ذكر بعضها ¬ أنه ليس من قبيل المعنى الذي هو مدلول اللفظ. فان من الواضح أن ما نقل في سورة يوسف من رؤياه وتأويله لايدل اللفظ الذي يشرح الرؤيا على تأويله دلالة لفظية، ولو كانت تلك الدلالة من قبيل خلاف الظاهر. وهكذا في قصة موسى والخضر عليهما السلام، فان ألفاظ القصة لاتدل على التأويل الذي ذكره الخضر لموسى. كما أنه في آية (واوفوا الكيل اذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم) لا تدل هاتين الجملتين دلالة لفظية على وضع اقتصادي خاص هو التأويل للأمر الوارد فيها. وفي آية (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) لاتدل الآية دلالة لفظية على تأويله الذي هو الوحدة الاسلامية... وهكذا دواليك في الآيات الاخرى لو أمعنا النظر فيها.
بل في الرؤيا تأويله حقيقة خارجية رآها الراؤون في صورة خاصة، وفي قصة موسى و الخضر تأويل الخضر حقيقة تنبع منها اعماله التي عملها، والأمر في آية الكيل والوزن تأويله مصلحة عامة تنبع منه، وآية رد النزاع إلى الله والرسول أيضا شبيهة بما ذكرناه.
فتأويل كل شيء حقيقة ينبع ذلك الشيء منها وذلك الشيء بدوره يحقق التأويل، كما أن صاحب التأويل بقاؤه بالتأويل وظهوره في صاحبه.
وهذا المعنى جار في القرآن الكريم، لأن هذا الكتاب المقدس يستمد من منابع حقائق ومعنويات قطعت أغلال المادية والجسمانية، وهي أعلى مرتبة من الحس والمحسوس وأوسع من قوالب الألفاظ والعبارات التي هي نتيجة حياتنا المادية.
ان هذه الحقائق والمعنويات لايمكن التعبير عنها بألفاظ محدودة، وانما هي الفات للبشرية من عالم الغيب إلى ضرورة استعدادهم للوصول إلى السعادة بواسطة الالتزام بظواهر العقائد الحقة والأعمال الصالحة، ولا طريق للوصول إلى تلك السعادة الا بهذه الظواهر، وعندما ينتقل الانسان إلى العالم الآخر تتجلى له الحقائق المكشوفة، وهذا ما يدل عليه آيتا سورتي الأعراف ويونس المذكورتان.
والى هنا يشير أيضا قوله تعالى: (حم* والكتاب المبين* انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون* وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)(6).
انطباق الآية على «التأويل» بالمعنى الذي ذكرناه واضح لا غبار عليه، وخاصة لأنه قال «لعلكم تعقلون» ولم يقل «لعلكم تعقلونه»، لأن علم التأويل خاص بالله تعالى كما جاء في آية المحكم والمتشابه «وما يعلم تأويله الا الله»، ولهذا عندما تريد الآية أن تذكر المنحرفين الذين يتبعون المتشابهات، فتصفهم بأنهم يبتغون الفتنة والتأويل ولم تصفهم بأنهم يجدون التأويل.
فاذا «التأويل» هو حقيقة أو حقائق مضبوطة في أم الكتاب ولايعلمها الا الله تعالى وهي مما اختص بعالم الغيب.
وقال تعالى أيضا في آيات اخرى: (فلا أقسم بمواقع النجوم* وانه لقسم لو تعلمون عظيم* انه لقرآن كريم* في كتاب مكنون* لايمسه الا المطهرون* تنزيل من رب العالمين)(7).
يظهر جليا من هذه الآيات أن للقرآن الكريم مقامان: مقام مكنون محفوظ من المس، ومقام التنزيل الذي يفهمه كل الناس.
والفائدة الزائد التي نستفيدها من هذه الآيات ولم نجدها في الآيات السابقة هي الاستثناء الوارد في قوله «الا المطهرون» الدال على أن هناك بعض من يمكن أن يدرك حقائق القرآن وتأويله. وهذا الاثبات لاينافي النفي الوارد في قوله تعالى (وما يعلم تأويله الا الله)، لأن ضم احداهما إلى الأخرى ينتج الاستقلال والتبعية، أي يعرف منها استقلال علمه تعالى بهذه الحقائق ولايعرفها أحد الا باذنه عز شأنه وتعليم منه.
وعلم التأويل شبيه فيما ذكرناه بعلم الغيب الذي اختص بالله تعالى في كثير من الآيات، وفي آية استثنى العباد المرضيون فاثبت لهم العلم به، وهي قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا* الا من ارتضى من رسول)(8). فمن مجموع الكلمات في علم الغيب نستنتج أنه بالاستقلال خاص بالله تعالى ولايطلع عليه أحد الا باذنه عز وجل.
نعم، المطهرون هم الذين يلمسون الحقيقة القرآنية ويصلون إلى غور معارف القرآن  كا تدل عليه الآيات التي ذكرناها. ولو ضممنا هذه إلى قوله تعالى (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(9) الوارد حسب أحاديث متواترة في حق أهل البيت عليهم السلام نعلم أن النبي وأهل بيته هم المطهرون العالمون بتـأويل القرآن الكريم.
القرآن الناسخ والمنسوخ:
بضمن آيات الأحكام الواردة في القرآن آيات احتلت أحكامها مكان أحكام كانت موضوعة في آيات سابقة، فأنهت مفعولها ولم تعد تلك الأحكام معمولا بها. وتسمى الآيات السابقة بـ«المنسوخ» والآيات اللاحقة بـ«الناسخ».
فمثلا في بداية مبعث الرسول أمر المسلمون بمداراة أهل الكتاب في قوله تعالى (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)(10). وبعد مدة أنهي هذا الحكم وأمروا بالقتال معهم في قوله (قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب)(11).
والنسخ الذي يدور على ألسنتنا حقيقته هي: وضع قانون لمصلحة ما والعمل به ثم ظهور الخطأ في ذلك والغاؤه ووضع قانون جديد مكانه.
لكن لايمكن نسبة مثل هذا النسخ الدال على الجهل، والخطأ إلى الله تعالى المنزه عن كل جهل وخطأ، ولايوجد هكذا نسخ في الآيات الكريمة الخالية عن وجود أي اختلاف بينها.
بل النسخ في القرآن معناه: انتهاء زمن اعتبار الحكم المنسوخ. ونعني بهذا أن للحكم الأول كانت مصلحة زمنية محدودة وأثر مؤقت خاص تعلن الآية الناسخة انتهاء ذلك الزمن المحدود وزوال الأثر. ونظرا إلى أن الآيات نزلت في مناسبات طي ثلاث وعشرين سنة من السهولة بمكان تصور اشتمالها على هكذا أحكام.
ان وضع حكم موقت في حين لم تتم مقتضيات الحكم الدائم، ثم وضع الحكم الدائم وابدال الحكم الموقت به، شيء ثابت لااشكال فيه. كما يفهم هذا أيضا ما ورد في القرآن الكريم حول فلسفة النسخ. قال تعالى: (واذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما أنت مفتر بل أكثرهم لايعلمون* قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين)(12).

 

الجري والانطباق في القرآن:

القرآن الكريم كتاب دائم لكل الازمان وتسري احكامه على كل الناس، فيجري في الغائب كما يجري في الحاضر وينطبق على الماضي والمستقبل كما ينطبق على الحال. مثلا الآيات النازلة في حكم على أحد المؤمنين بشروط خاصة في عصر النبوة يسري ذلك الحكم على غيره لو توفرت تلك الشروط في العصور التالية أيضا، والآيات التي تمدح أو تذم بعض من يتحلى بصفات ممدوحة أو مذمومة تشمل من يتحلى بها ممن لم يعاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فاذا مورد نزول آية مالا يكون مخصصا لتلك الآية نفسها. ونعني بذلك لو نزلت في شخص أو أشخاص معينين لاتكون الآية جامدة في ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص، بل تسري في كل من يشترك مع أولئك في الصفات التي كانت موردا لتلك الآية.

هذا هو الذي يسمى في ألسنة الأحاديث بـ«الجري» قال الأمام الباقر عليه السلام، في حديثه للفضيل بن يسار، عندما سأله عن هذه الرواية: ما في القرآن آية الا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف الا وله حد ولكل حد مطّلع، مايعني بقوله: ظهر وبطن؟ قال (ع): ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه مالم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع. الحديث.(13).
وفي بعض الأحاديث يعتبر بطن القرآن ¬ يعني انطباقه بموارد وجدت بالتحليل ¬ مثل الجري (14).

 

التفسير وظهوره وتطوره:

بدأ التفسير وبيان معاني ألفاظ القرآن وعباراته من عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان هو المعلم الأول للقرآن الكريم وتوضيح مقاصده وحل ما غمض من عباراته، قال تعالى (وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم)(15).
وقال: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)(16).
وفي عصر النبي وبأمر منه اشتغل جماعة من الصحابة بقراءة القرآن وحفظه وضبطه، وهم الذين يسمون بـ«القراء». وبعد الصحابة استمر المسلمون في التفسير ولازال حتى الآن فيهم مفسرون.

 

علم التفسير وطبقات المفسرين:

اشتغل جماعة من الصحابة بالتفسير بعد أن ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، ومنهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأنس وأبو هريرة وأبو موسى، وكان أشهرهم عبد الله بن عباس.
كان منهج هؤلاء في التفسير أنهم ينقلون ما يسمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاني الآيات بشكل أحاديث مسندة(17) وبلغت هذه الأحاديث كلها إلى نيف واربعين ومائتي حديث أسانيد كثير منها ضعيفة ومتون بعضها منكرة لايمكن الركون اليها.
وربما ذكر هؤلاء تفسير بعض الآيات على أنه تفسير منهم بدون اسناده إلى الرسول صلىالله عليه وآله وسلم، فعد المفسرون من متأخري أهل السنة هذا القسم أيضا من جملة الأحاديث بحجة أن الصحابة أخذوا علم القرآن من النبي ويبعد أن يفسروا من عند أنفسهم.
ولكن لادليل قاطع على كلامهم هذا، بالاضافة إلى أن كمية كبيرة من الأحاديث المذكورة واردة في أسباب نزول الآيات وقصصها التاريخية، كما أن فيها أحاديث غير مسندة منقولة عن بعض علماء اليهود الذين أسلموا ككعب الأحبار وغيره.
وكان ابن عباس في أكثر الأوقات يستشهد بأبيات شعرية في فهم معاني الآيات، كما نرى ذلك جليا في مسائل نافع بن الأرزق، فان ابن عباس عند الاجابة عليها استشهد بالشعر في اكثر من مائتي مورد من الآيات، وقد نقل السيوطي مائة وتسعين جوابا منها في كتابه الاتقان(18).
ومن هنا لايمكن اعتبار الأحاديث المنقولة عن الصحابة أحاديث نبوية كما لايمكن القول بأنهم لم يفسروا مطلقا برأيهم.
ومفسرو الصحابة هم الطبقة الأولى من مفسري الصحابة.
(الطبقة الثانية) هم التابعون، وهم تلامذة مفسري الصحابة، وهم مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وضحاك. ومن هذه الطبقة ايضا الحسن البصري وعطاء بن ابي رباح وعطاء بن أبي مسلم وابي العالية ومحمد بن كعب القرطي وقتادة
وعطية وزيد بن أسلم وطاوس اليماني(19).
(الطبقة الثالثة) تلامذة الطبقة الثانية، كربيع بن انس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبو صالح الكلبي ونظرائهم(20).
كان من منهج التابعين في التفسير أنهم ينقلونه أحيانا بصورة أحاديث عن الرسول الكريم أو الصحابة، وأحيانا ينقلونه بشكل نظريات خاصة بلا اسنادها إلى أحد، فعامل متأخر والمفسرين مع هذه الأقوال معاملة الأحاديث النبوية واعتبروها أحاديث موقوفة(21).
ويطلق على الطبقتين الأخيرتين لفظة «قدماء المفسرين».
(الطبقة الرابعة) أوائل المؤلفين في علم التفسير، كسفيان ابن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج وعبد بن حميد وغيرهم. ومن هذه الطبقة أيضا ابن جرير الطبري صاحب التفسير المشهور(22).
ومنهج هذه الطبقة من المفسرين كان نقل أقوال الصحابة والتابعين بشكل أحاديث في مؤلفاتهم التفسيرية بدون ذكر آرائهم الخاصة. الا أن ابن جرير في تفسيره قد يبدي رأيه في ترجيح بعض الأحاديث على بعضها وكيفية الجمع بينها. ومن هذه الطبقة تبدأ طبقات المفسرين المتأخرين.
(الطبقة الخامسة) المفسرون الذين نقلوا الأحاديث في تفاسيرهم بحذف الأسانيد واكتلفوا بنقل الأقوال والآراء.
قال السيوطي: فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل(23).
الا أن المتدبر في الأحاديث المسندة يرى أيضا كثيرا من الوضع والدس، ويشاهد الأقوال المتناقضة تنسب إلى صحابي واحد، ويقرأ قصصا وحكايات يقطع بعدم صحتها، ويمر على أحاديث في أسباب النزول والناسخ والمنسوخ لاتتفق مع سياق الآيات. ومن هنا نقل ان الامام أحمد بن حنبل قال: ثلاثة لا أصل لها المغازي والملاحم وأحاديث التفسير. ونقل عن الامام الشافعي أن الثابت من الأحاديث المروية عن ابن عباس مائة حديث فقط.
(الطبقة السادسة) المفسرون الذين كتبوا التفسير بعد ظهور العلوم المختلفة ونضجها، فكتب كل منهم حسب اختصاصه وفي العلم الذي أتقنه: فالنحوي أدرج المباحث النحوية كالزجاج والواحدي وأبي حيان(24)، والاديب أورد المباحث البلاغية كالزمخشري في كشافه(25)، والمتكلم اهتم بالمباحث الكلامية كالفخر الرازي في تفسيره الكبير(26) والصوفي غاص في المباحث الصوفية كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني في تفسيريهما(27)، والاخباري ملأ كتابه بالأحاديث كالثعلبي في تفسيره(28)، والفقيه جاء بالمسائل الفقهية كالقرطبي في تفسيره(29). وقد خلط جماعة آخرون في تفسيرهم بين العلوم المختلفة كما نشاهده في تفسير روح المعاني(30) وروح البيان(31) وتفسير النيسابوري(32).
والخدمة التي قدمتها هذه الطبقة إلى علم التفسير هي اخراجه من جموده واخضاعه للدرس والبحث، ولكن الانصاف يقتضي القول بأن كثيرا من المباحث التي كتبها هؤلاء حملت على القرآن حملا ولا تدل عليها الآيات.

 

أسلوب مفسري الشيعة وطبقاتهم:

الطبقات التي ذكرناها هي طبقات المفسرين من السنة ورأينا أن لهم منهجا خاصا في التفسير ساروا على ضوئه من حين نشأته، فجلعوه أحاديث نبوية وأقوال للصحابة والتابعين ولم يجيزوا اعمال النظر فيها لأنه يكون من قبيل الاجتهاد مقابل النص. ولكن لما ظهر التناقض والتضارب والدس والوضع فيها بدأت الطبقة السادسة تعمل رايها فيها وتجتهد.
أما المنهج الذي اتخذته الشيعة في تفسير القرآن الكريم فيختلف مع منهج السنة، ولذا يختلف تقسيم طبقاتهم مع الطبقات المذكورة.
تعتقد الشيعة  بنص من القرآن الكريم  حجية أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التفسير، وترى أن الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لاحجية في أقوالهم الا ماثبت أنه
حديث نبوي. وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين أن أقوال العترة الطاهرة من أهل بيته عليهم السلام هي تالية لأقوال الرسول، فهي حجة أيضا. ومن هنا أخذت الشيعة في التفسير بما أثر عن النبي وأهل بيته عليهم السلام، فكانت طبقات المفسرين منهم كما يلي:
(الطبقة الأولى): الذين رووا التفسير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة اهل البيت عليهم السلام وأدرجوا الأحاديث في مؤلفاتهم المتفرقة، كزرارة ومحمد بن مسلم ومعروف وجرير واشباههم(33).
(الطبقة الثانية) أوائل المؤلفين في التفسير، كفرات بن ابراهيم الكوفي وابي حمزة الثمالي والعياشي وعلي بن ابراهيم القمي والنعماني(34).
وطريقة هؤلاء في تفاسيرهم تشبه طريقة الطبقة الرابعة من مفسري أهل السنة، فقد رووا الأحايث المأثورة عن الطبقة الأولى وأدرجوها مسندة في مؤلفاتهم ولم يبدوا آراءهم الخاصة في الموضوع.
ومن الواضح أن الزمن الذي كان يمكن الأخذ فيه عن الأئمة عليهم السلام كان طويلا بلغ نحوا من ثلاثمائة سنة، فكان من الطبيعي أن لا يضبط الترتيب الزمني لهاتين الطبقتين بصورة دقيقة، بل كانتا متداخلتين من الصعوبة بمكان التفريق الدقيق بينهما.
وقد قل عند أوائل مفسري الشيعة نقل أحاديث التفسير بشكل روايات مرسلة في تفاسيرهم، وكنموذج لنقل الأحاديث مروية بدون أسانيد نلفت الأنظار إلى تفسير العياشي الذي حذف بعض تلامذته اسانيده اختصارا، فاشتهرت نسخة التلميذ المختصرة وحلت محل نسخة الأصل.
(الطبقة الثالثة) اصحاب العلوم المختلفة، كالشريف الرضي في تفسيره الأدبي والشيخ الطوسي في تفسيره الكلامي المسمى بالتبيان والمولى صدر الدين الشيرازي في تفسيره الفلسفي والميبدي
الكونابادي في تفسيره الصوفي والشيخ عبد علي الحويزي والسيد هاشم البحراني والفيض الكاشاني في تفاسيرهم نور الثقلين والبرهان والصافي(35).
وهناك جماعة جمعوا في تفسيرهم بين العلوم المختلفة، ومنهم الشيخ الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» الذي يبحث فيه عن اللغة والنحو والقراءة والكلام والحديث وغيرها(36).
كيف يتقبل القرآن التفسير؟
الاجابة على هذا السؤال تتوضح من الفصول الماضية، فان القرآن الكريم ¬ كما ذكرنا ¬ كتاب دائم للجميع، يخاطب الكل ويرشدهم إلى مقاصده، وقد تحدى في كثير من آياته على الاتيان بمثله واحتج بذلك على الناس، ووصف نفسه بأنه النور والضياء والتبيان لكل شيء، فلا يكون مثل هذا الكتاب محتاجا إلى شيء آخر.
يقول محتجا على أنه ليس من كلام البشر: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)(37).
ليس فيه أي اختلاف، ولو وجد فيه اختلاف بالنظرة البدائية يرتفع بالتدبر في القرآن نفسه.
ومثل هذا الكتاب لو احتاج في بيان مقاصده إلى شيء آخر لم تتم به الحجة، لانه لو فرض أن أحد الكفار وجد اختلافا في شيء من القرآن لايرتفع من طريق الدلالة اللفظية للآيات لم يقنع برفعه من طرق أخرى، كأن يقول النبي مثلا يرتفع بكذا وكذا، ذلك لأن هذا الكافر لايعتقد بصدق النبي ونبوته وعصمته، فلم يتنازل لقوله ودعاواه.
وبعبارة أخرى: لايكفي أن يكون النبي رافعا للاختلافات القرآنية بدون شاهد لفظي من نفس القرآن لمن لايعتقد بنبوته وعصمته، والآية الكريمة (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) توجه الخطاب إلى الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانهم لم يسلموا لأقواله لو لم يكن هناك شاهد قرآني صريح.
ومن جهة أخرى نرى أن القرآن نفسه يثبت حجية أقوال النبي وتفسيره، كما أن النبي يثبت حجية أقوال أهل بيته وتفسيرهم.
وهاتان المقدمتان توصلنا إلى أن في القرآن آيات تفسر الآيات الأخرى، ومكانة الرسول وأهل بيته من القرآن كمرشد معصوم لايخطأ في تعاليمه وارشاداته، فما يفسرونه يطابق التفسير الذي يستنتج من ضم الآيات بعضها إلى بعض ولايخالفها في شيء.
نتيجة البحث:
النتيجة التي توصلنا اليها في الفصل الماضي هي أن التفسير الواقعي للقرآن هو التفسير الذي ينبع من التدبر في الآيات الكريمة وضم بعضها إلى بعض.
وبعبارة أوضح: يمكن أن نتبع في التفسير احدى طرق ثلاث:
1- تفسير الآية لوحدها بالمقدمات العلمية وغير العلمية التي نملكها.
2- تفسير الآية بمعونة الأحاديث المأثورة عن المعصومين.
3- تفسير الآية بالتدبر والدقة فيها وفي غيرها والاستفادة من الأحاديث.
الطريقة الثالثة هي المنهج الذي توصلنا اليه في الفصل الماضي وهو المنهج الذي حث عليه النبي وأهل بيته عليهم السلام فيما أثر عنهم. قال صلى الله عليه وآله وسلم «وانما نزل ليصدق بعضه بعضا»، وقال علي عليه السلام «ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض».
ومما ذكرنا يتوضح أن هذه الطريقة غير الطريقة المنهية في الحديث النبوي المشهور «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»، لأن الطريقة المذكورة تفسير للقرآن بالقرآن لا بالرأي.
والطريقة الأولى من الطرق الثلاث لايمكن الاعتماد عليها وهي في الحقيقة من قبيل التفسير بالرأي الذي لايجوز، الا ما وافق منه مع الطريقة الثالثة.
وأما الطريقة الثانية فهي التي كانت يتبعها علماء التفسير في الصدر الأول وكان العمل عليها عدة قرون، وهي الطريقة المعمولة حتى الآن عند الأخباريين من الشيعة والسنة.
وهذه الطريقة محدودة لاتفي بالحاجات غير المحدودة، لأن ستة آلاف وعدة مئات من الآيات التي نقرأها في القرآن الكريم تقابلها مئات الألوف من الأسئلة العلمية وغير العلمية، فمن أين نجد الاجابة على هذه الاسئلة وكيف التخلص منها؟.
هل نرجع فيها إلى الروايات والأحاديث؟.
ان ما يمكن تسميته بالحديث النبوي في التفسير، المروي من طريق السنة لايزيد على مائتين وخمسين حديثا، مع العلم أن كثيرا من هذه الأحاديث ضعيفة الاسانيد وبعضها مكررة.
نعم الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام من طريق الشيعة تبلغ عدة آلاف حديث وفيها مقدار كثير من الأحاديث التي يمكن الاعتماد عليها، الا انها مع هذا لاتكفي للاجابة على الاسئلة غير المحدودة التي نواجهها تجاه الآيات القرآنية الكريمة.
هذا، بالاضافة إلى أن هناك آيات لم يرد فيها حديث أصلا لامن طريق السنة ولا من طريق الشيعة، فكيف نصنع بها؟.
ففي هذه المشاكل اما أن نرجع إلى الآيات المناسبة لما نروم تفسيره، وهذا ما تمنع عنه هذه الطريقة الحديثية. واما أن نمتنع عن البحث في الآية بتاتا ونغض الطرف عن حاجاتنا العلمية التي تدعونا إلى البحث.
اذا ماذا نصنع مع ما تدل عليه الآيات الكريمة التالية الحاثة على البحث والتدبر والتبيين؟
قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)(38).
وقال: (أفلا يتدبرون القرآن)(39).
وقال: (كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)(40).
وقال: (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)(41).
وقد ورد في أحاديث صحيحة عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم حثوا على الرجوع إلى القرآن الكريم عند حدوث الفتن وظهور المشاكل(42)، فماذا نصنع بهذه الأحاديث؟.
وقد ثبت أيضا عن طريق العامة في أحاديث نبوية وعن طريق الخاصة في روايات متواترة عن النبي وائمة أهل البيت عليهم السلام ضرورة عرض الأخبار على كتاب الله تعالى (43).
وبموجبها يجب عرضها على القرآن الكريم فما وافقه يؤخذ به وماخالفه يطرح.
من البديهي أن مضمون هذه الأحاديث يصح لو كانت الآيات تدل على مرادها ويكون لمدلولها ¬ وهو التفسير ¬ اعتبار، فلو رجعنا لمعرفة محصل مدلول الآية ¬ وهو التفسير ¬ إلى الحديث لم يبق موضع لعرض الحديث على القرآن.
ان هذه الأحاديث التي أشرنا اليها أحسن شاهد على أن الآيات القرآنية كبقية مايتكلم به المتكلمون لها مداليلها، وهي في نفسها حجة مع غض النظر عن الأحاديث الواردة في التفسير.
قد تبين من البحوث السابقة أن واجب المفسر هو ملاحظة الأحاديث الواردة في التفسير عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام والغور فيها ليعرف طريقتهم، ثم يفسر القرآن الكريم بالمنهج الذي يستفاد من الكتاب والسنة ويأخذ بالأحاديث التي توافق الكتاب ويطرح ماعداها.
نموذج من تفسير القرآن بالقرآن:
قال الله تعالى: (الله خالق كل شيء)(44).
تكرر مضمون هذه الآية الكريمة في أربعة مواضع من القرآن، وبحسب هذا المضمون جميع المخلوقات الموجودة في الكون هي من خلق الله تعالى وصنعه.
ويجب أن لاتغرب عنا هذه النكتة أن في مئات من الآيات صدق موضوع العلية والمعلولية، ونسب فيها فعل كل فاعل اليه، واعتبر الأفعال الاختيارية من أفعال الانسان نفسه وخصت الآثار بالمؤثرات كالاحراق بالنار والنبات إلى الأرض والمطر إلى السماء وغيرها.
والنتيجة أن صانع كل شيء وفاعله ينسب فعله وصنعه اليه الا أن مفيض الوجود والموجد الحقيقي للفعل هو الله تعالى ليس غيره.
ومن هنا نعرف التعميم الذي نجده في قوله تعالى (الذي أحسن كل شيء خلقه)(45)، فلو انضمت هذه الآية السابقة لرأينا الجمال والخلقة قرينين، فكلما وجد في عالم المخلوقات من خلق كان موصوفا بالجمال.
ويجب أيضا أن لا تغرب عنا هذه النكتة أن الآيات القرآنية تعترف بالخير مقابل الشر والنفع مقابل الضرر والحسن مقابل السيء والجمال مقابل القبح، وتعتبر كثيرا من الأفعال والأقوال والأفكار حسنة أو سيئة، ولكن هذه المساوىء والقبائح والشرور تبدو واضحة اذا ما قيست بمايقابلها، فوجودها نسبي وليس بنفسي.
مثلا الحية والعقرب مؤذيان، لكن بالنسبة إلى الانسان والحيوانات التي تتألم من سمهما لا بالنسبة إلى الحجر والتراب. والشيء المر والرائحة الكريهة منفوران، لكن بالنسبة الى ذائقة الانسان وشامته لابالنسبة إلى كل الحيوانات وبعض الأعمال والأقوال تبدو شاذة، لكن بالنسبة إلى البيئة التي يعيش فيها الانسان لا بالنسبة إلى كل البيئات.
نعم لو لم نلاحظ النسبة والقياس وننظر إلى الأشياء بنظرة مطلقة نراها في منتهى الجمال ونرى الوجود أخاذا يلفت النظر ولايمكن وصف حسنه وجماله، لأن الوصف نفسه من الخلق الجميل الذي يحتاج بدوره إلى وصف.
والآية المذكورة أعلاه تريد صرف الأنظار عن وجوه الجمال والقبح النسبية والقياسية والاعتبارية لتوجهها إلى الجمال المطلق وتجهيز الأفهام لادراك الكلي والعموم الذي هو الأهم.
اذا ما أدركنا النقاط المشروحة في مئات من الآيات القرآنية التي تصف عالم الوجود ¬ بكل جزء جزء منه وبمجموعة مجموعة منه وبمختلف أنظمته الكلية والجزئية ¬ لنرى أنه أحسن دليل على التوحيد وأعظم مرشد إلى معرفة الله تعالى وكمال قدرته.
لو تأملنا في الآيتين المذكورتين سابقا وامعنا النظر فيما سبق من الكلام، نعلم أن هذا الجمال المحير الذي ملأ عالم الوجود كله انما هو لمعة من الجمال الالهي ندركه نحن بواسطة الآيات السماوية والارضية، وكل جزء من العالم كوة ننظر منها إلى القدرة اللامتناهية لنعرف أن ليس لهذه الأجزاء شيء من القدرة الا ما أفيض عليها.
ولهذا نرى في آيات قرآنية كثيرة نسبة أنواع الجمال والكمال إلى الله تعالى، فتقول: (هو الحي لا اله الا هو)(46).
و(ان القوة لله جميعا)(47)
و(فأن العزة لله جميعا)(48).
و(هو العليم القدير)(49).
و(هو السميع البصير)(50).
و(الله لا اله الا هو له الأسماء الحسنى)(51).
فبمقتضى هذه الآيات كل جمال وكمال نراه في عالم الوجود هو في الحقيقة من الله تعالى وليس لغيره الا المجاز والعارية.
وتأكيدا لما مضى ذكره يوضح القرآن الكريم بأسلوب آخر أن الجمال والكمال المودع في مخلوقات العالم انما هو محدود متناهي، وهو عند الله تعالى غير محدود وليس له نهاية، قال عز من قائل (انا كل شيء خلقناه بقدر)(52).
وقال: (وان من شيء الا عندنا خزائنه وماننزله الا بقدر معلوم)(53).
______________________________
(1) هذه العقيدة ناشئة مما يفهم من ظواهر ألفاظ القرآن الكريم.
(2) لأن تأويل الآية مع الاعتراف بأن التأويل لايحيط بعلمه الا الله تعالى عمل مناقض، ولكن هؤلاء ذكروا ذلك بعنوان أنه احتمال في الآية.
(3) ذكر رؤيا يوسف عليه السلام في الآية الثالثة من سورة يوسف اذ قال يوسف لأبيه يا أبت اني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين».
وذكر تأويل رؤياه في الآية 100 على لسان يوسف حينما رأى أبيه وأمه بعد سنين من الفراق «ورفع ابويه على العرش وخرّوا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا».
ورؤيا ملك مصر مذكور في الآية 43 «وقال الملك اني أرى سبع بقرات يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. وتأويله مذكور في الآية 47 ¬ 49 على لسان يوسف «قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون».
ورؤيا صاحبي يوسف في السجن مذكور في الآية 36 ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما اني أراني أعصر خمرا وقال الآخر اني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه».
وتأويله مذكور في الاية 41 على لسان يوسف يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الأمر الذي فيه تستفتيان».
(4) سورة الاسراء: 35.
(5) سورة النساء: 59.
(6) سورة الزخرف: 1،2،3،4.
(7) سورة الواقعة: 77،78،79،80.
(8) سورة الجن:27.
(9) سورة الأحزاب: 33.
(10) سورة البقرة: 39.
(11) سورة التوبة: 29.
(12) سورة النحل: 102.
(13) تفسير العياشي 1/10.
(14) أنظر المصدر السابق1/11.
(15) سورة النحل: 44.
(16) سورة الجمعة: 2.
(17) آخر كتاب الاتقان، طبع القاهرة سنة1370هـ.
(18) الاتقان ص120 ¬ 133.
(19) مجاهد، مفسر مشهور، توفي سنة100 او سنة 103 (تهذيب الاسماء للنووي).
سعيد بن جبير، مفسر معروف، تلميذ ابن عباس، قتله الحجاج سنة 94 (التهذيب).
عكرمة، مولى ابن عباس وتلميذه وتلميذ سعيد بن جبير، توفي سنة104 (التهذيب).
ضحاك، من تلامذة عكرمة (لسان الميزان).
الحسن البصري، زاهد ومفسر معروف، توفي سنة 110 (التهذيب).
عطاء بن أبي رباح، فقيه ومفسر مشهور، من تلامذة ابن عباس، توفي سنة115 (التهذيب).
عطاء بن أبي مسلم، من أكابر التابعين، ومن تلامذة ابن جبير وعكرمة، توفي سنة 133 (التهذيب).
أبو العالية، من أئمة التفسير وأكابر التابعين، كان في المائة الأولى من الهجرة (التهذيب).
محمد بن كعب القرطي، مفسر معروف، وهو من أسرة يهودية من بني قريظة، كان في المائة الأولى من الهجرة.
قتادة، أعمى، كان من أكابر المفسرين، وهو من تلامذة الحسن البصري وعكرمة، توفي سنة 117 (التهذيب).
عطية، ينقل عن ابن عباس (لسان الميزان).
زيد بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، فقيه ومفسر، توفي سنة 136 (التهذيب).
طاوس اليماني، من أعلام عصره، وهو تلميذ ابن عباس، توفي سنة106 (التهذيب).
 (20) عبد الرحمن بن زيد، يعد من علماء التفسير.
أبو صالح الكلبي، النسابة المفسر، وهو من أعلام القرن الثاني.
(21) الأحاديث الموقوفة هي التي لم يذكر فيها المروي عنه.
(22) سفيان بن عيينة، مكي من طبقة التابعين الثانية، وهو من علماء التفسير توفي سنة 198 (التهذيب).
وكيع بن الجراح، كوفي من طبقة التابعين الثانية، ومن مشاهير المفسرين توفي سنة 197 (التهذيب).
شعبة بن الحجاج البصري، من طبقة التابعين الثانية، وهو من مشاهير المفسرين، توفي سنة 160 (التهذيب).
عبد بن حميد، صاحب تفسير، من طبقة التابعين الثانية، كان في القرن الثاني من الهجرة.
ابن جرير الطبري، محمد بن جرير بن يزيد، من مشاهير علماء السنة، توفي سنة310 (لسان الميزان).
(23) الاتقان3/190.
(24) الزجاج، من علماء النحو، توفي سنة310 (ريحانة الأدب).
الواحدي، نحوي مفسر، توفي سنة468 (الريحانة).
أبو حيان الأندلسي، نحوي مفسر قارىء، توفي في مصر سنة745 (الريحانة).
(25) الزمخشري، من مشاهير علماء الأدب، مؤلف تفسير الكشاف، توفي سنة538 (كشف الظنون).
(26) الامام فخر الدين الرازي، متكلم مفسر مشهور، صاحب تفسير مفاتيح الغيب، توفي سنة606 (كشف الظنون).
(27) عبد الرزاق الكاشاني، من مشاهير علماء الصوفية في القرن الثامن الهجري(ريحانة الأدب).
(28) أحمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي، صاحب التفسير المشهور، توفي سنة 426 أو 427 (الريحانة).
 (29) محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، توفي سنة668 (الريحانة).
(30) تأليف الشيخ أسماعيل حقي، توفي سنة1137 (ذيل كشف الظنون).
(31) تأليف شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، توفي سنة1270 (ذيل كشف الظنون).
(32) غرائب القرآن، تأليف نظام الدين حسن القمي النيسابوري، توفي سنة728 (ذيل كشف الظنون).
(33) زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم من فقهاء الشيعة وخواص أصحاب الامامين الباقر والصادق عليهما السلام.
معروف بن خربوذ وجرير من خواص أصحاب الامام الصادق عليه الصلاة والسلام.
(34) فرات بن ابراهيم الكوفي، صاحب التفسير المشهور، من مشائخ علي بن ابراهيم القمي (ريحانة الأدب).
أبو حمزة الثمالي، من فقهاء الشيعة وخواص أصحاب الامام السجاد والباقر عليهما السلام (الريحانة).
العياشي، محمد بن مسعود الكوفي السمرقندي، من أعيان علماء الامامية في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (الريحانة). علي بن ابراهيم القمي، من مشائخ الحديث الشيعي في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري.
النعماني، محمد بن ابراهيم، من أعيان علماء الامامية، وهو تلميذ ثقة الاسلام الكليني، كان في أوائل القرن الرابع الهجري (الريحانة).
(35) الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، من أجلاء فقهاء الامامية أعلم أهل زمانه في الشعر والأدب، ومن تآليفه كتاب «نهج البلاغة» توفي سنة404 أو 406 (ريحانة الأدب).
شيخ الطائفة، محمد بن الحسن الطوسي، من أعلام علماء الامامية، من تأليفه «التهذيب» و«الاستبصار» اللذين هما أصلان من الأصول الأربعة الحديثية عند الشيعة، توفي سنة460 (الريحانة).
صدر المتأهلين، محمد بن ابراهيم الشيرازي، الفيلسوف المشهور، مؤلف كتاب «أسرار الآيات» و«مجموعة تفاسير»، توفي سنة1050 (روضات الجنات).
المبيدي، السيد هاشم البحراني، صاحب تفسير البرهان» في أربعة أجزاء كبار توفي سنة1107 (الريحانة).
الفيض الكاشاني، المولى محمد محسن بن المرتضى، مؤلف كتاب «الصافي» و«الأصفي»، توفي سنة 1091 (الريحانة).
الشيخ عبد علي الحويزي الشيرازي، مؤلف كتاب نور الثقلين» في خمسة أجزاء، توفي سنة1112 (الريحانة).
(36) أمين الاسلام، الفضل بن الحسن الطبرسي، من أعيان علماء الامامية صاحب «مجمع البيان» في عشرة أجزاء، توفي سنة548 (الريحانة).
(37) سورة النساء: 82.
(38) سورة النحل: 89.
(39) سورة النساء: 82.
(40) سورة ص: 22.
(41) سورة المؤمنون: 67.
(42) أنظر أوائل تفسير العياشي والصافي والبرهان وبحار الأنوار.
(43) بحار الأنوار 1/137، باب اختلاف الأخبار.
(44) سورة الزمر: 62.
(45) سورة السجدة: 7.
(46) سورة المؤمن: 65.
(47) سورة البقرة: 165.
(48) سورة النساء: 139.
(49) سورة الروم: 54.
(50) سورة الاسراء: 1.
(51) سورة طه: 8
(52) سورة القمر: 49.
(53) سورة الحجر: 21.