شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

وحي القرأن الكريم (2)

0 المشاركات 00.0 / 5

عندما يتقبل الانسان هذه الحقيقة القرآنية يرى نفسه أمام الجمال والكمال اللامتناهي يحيط به من كل جانب وليس فيه خلا أصلا، ينسى كل جمال وكمال في العالم، وحتى نفسه التي هي من تلك الآيات ينساها وينجذب إلى خالق الجمال والكمال قال تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله)(54).
عند هذا يسلم العبد اراداته واستقلاله إلى الله تعالى كما هو من شؤون الحب والعبودية الخالصة، فينضوي تحت لواء الحق ويدخل في ولايته، كما يقول عز وجل «والله ولي المؤمنين»(55). «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور»(56)
فيجد حينئذ روحا أخرى ويحيا حياة جديدة ويشرق في قلبه نور الحقيقة، فتتفتح له طرق السعادة ليشق مسيرته الكريمة بين المجتمع، قال تعالى: (أو من كان مؤمنا فأحيينا له نورا يمشي به في الناس)(57) وقال (أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه)(58).
وفي آية اخرى يزمع تعالى إلى كيفية حصول هذا النور فيقول (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به)(59).
وقد فسر الايمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آية أخرى بالتسليم له واتباعه، فقال (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)(60).
ووضح الاتباع في آية أخرى، فقال (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(61).
وأوضح من هذا نجد معنى الاتباع في آية أخرى أيضا حيث يقول: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فقطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)(62).
فبمقتضى هذه الآية الكريمة البرنامج الكامل الاسلامي هو المتطلبات التي يحتاج اليها من يعيش في الكون، ونعني بها القوانين والشرائع التي تدل عليها الفطرة الانسانية، الحياة غير المعقدة التي يحياها الانسان المستقيم، كما يقول تعالى في موضع آخر (ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها)(63).
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يساوي بين الحياة الانسانية السعيدة والحياة الفطرية النزيهة وهو بعكس جميع الكتب والمناهج الأخرى يجمع بين البرامج الدينية والبرامج الحياتية، فله رأيه الخاص في الفرد والمجتمع وله كلمته في كل الشؤون، ودستوره ينظر إلى الحقائق الثابتة (معرفة الله تعالى ¬ النظرة الشاملة إلى الكون) بأعمق النظرات.
ان القرآن يصف أولياء الله تعالى وعباده المخلصين بكثير من النعوت والخواص الصورية والمعنوية التي يحتلون بها نتيجة لايمانهم الخالص ويقينهم الثابت، ويؤسفنا أن هذا الفصل القصير لايسع لسردها بصورة مفصلة.
معنى حجية أقوال النبي والأئمة:
قد ذكرنا فيما سبق أن القرآن نفسه يثبت حجية أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في التفسير.
هذه الحجية واضحة في أقوال النبي والأئمة الصريحة والأحاديث قطعية الصدور، أما الأحاديث غير قطعية الصدور (المسماة بأخبار الآحاد والتي اختلف المسلمون في حجيتها وعدم حجيتها) فأمرها يرجع إلى المفسر نفسه.
ان السنة يعملون مطلقا بالخبر الواحد الصحيح، وأما الشيعة فالذي ثبت تقريبا عندهم في علم أصول الفقه حجية الخبر الواحد الموثوق الصدور في الأحكام الشرعية ولايعتبر في غيرها.
ولمزيد من التحقيق في الموضوع لابد من الرجوع إلى أصول الفقه.
تنبيه:
على فرض أن يكون «التفسير» بيان محصل مدلول الآية تدخل في علم التفسير البحوث التي لها تأثير في تفسير الآية. أما البحوث التي لايكون لها تأثير في معرفة محصل مدلول الآية ¬ كبعض البحوث اللغوية والقراءة والبديع وما أشبهها ¬ لاتكون هذه البحوث من تفسير القرآن في شيء.
وقام الرسول بأداء ما كان عليه نصا بدون أن يتصرف في مواد الدعوة الالهية أو يضيف عليها أو ينقص منها أو يقدم أو يؤخر شيئا من موضعه
كتاب العصر والوحي والنبوة:
أما الباحثون وكتاب العصر الذين لهم بحوث حديثة في الأديان والمذاهب، فيعتقدون في وحي القرآن والنبوة أنه:
كان نبي الاسلام نابغة عارفا بالأوضاع الاجتماعية، وسعى في خلاص البشرية من مهوى الوحشية والانحطاط الخلقي ورفعها إلى أوج المدنية والحرية، فدعى الناس إلى اعتناق آرائه الطاهرة التي تجلت بشكل دين جامع كامل.
يقولون: كان النبي يحمل روحا نزيهة وهمة عالية، عاش في بيئة يسودها الظلام وتتحكم فيها القوة والأراجيف والهرج الاجتماعي وتتسم بحب الذات والسيطرة غير المشروعة على الأموال وتتجلى فيها كل مظاهر الوحشية المقيتة.
كان النبي في ألم نفسي دائم من هذه البيئة الفاسدة، فكان كلما بلغت الآلام في نفسه الكريمة مبلغها يأوي إلى غار في احدى جبال تهامة، فيبقى فيه اياما ليخلو إلى نفسه، وكان يتوجه بكل حواسه إلى السماء والارض والجبال والبحار والأودية والآجام وماوضعته الطبيعة تحت تصرف البشرية من سائر النعم، وكان يأسف على الانسان المنهمك في الغفلة والجهل
وقد أبدل حياته السعيدة الهانئة بحياة نكدة تضاهي حياة الحيوانات الوحشية.
كان النبي إلى حوالي اربعين سنة من عمره يدرك تلك المفاسد الاجتماعية ويتألم من جرائها بالآلام النفسية، ولما بلغ الأربعين من عمره وفق إلى كشف طريق للاصلاح يمكن بواسطته ابدال تلك الحياة الفاسدة بحياة سعيدة فيها كل معاني الخير، وذلك الطريق هو «الاسلام» الذي كان يتضمن أرقى الدساتير التي كانت تناسب مزاج ذلك العصر.
كان النبي يفرض ان افكاره الطاهرة هي كلام الهي ووحي سماوي يلقيها الله تعالى في روعه ويتلكم بها معه. كما كان يفرض روحه الخيرة التي تترشح منها هذه الأفكار لتستقر في قلبه هي «الروح الأمين» و«جبرئيل» والملك الذي ينزل الوحي بواسطته.
وسمى النبي بشكل عام القوى التي تسوق إلى الخير وتدل على السعادة بـ«الملائكة»، كما سمى القوى التي تسوق إلى الشر بـ«الشياطين» و«الجن». وقد سمى ايضا واجبه الذي املاه عليه وجدانه بـ«النبوة» و«والرسالة».

***

الرأي الذي ذكرناه باختصار هو للباحثين المعتقدين بالله تعالى وينظرون إلى الدين الاسلامي بنظرة فيها شيء من الانصاف والتقييم. أما الملحدون الذين لا يعتقدون بالله تعالى فانهم يعتبرون النبوة والوحي والتكاليف الالهية والثواب والعقاب والجنة والنار سياسات دينية بحتة، وهم يذهبون إلى أن هذه كلها أكاذيب قيلت لمصالح خاصة ضرورية في حينها.
يقولون: ان الأنبياء كانوا مصلحين جاؤوا ببرامج اصلاحية في اطار ديني. ونظرا الىأن الناس كانوا في العصور السالفة منهمكين في الجهل والظلمة والخرافات وضع لهم الأنبياء النظم الدينية في ظل سلسلة من العقائد الخرافية تتمثل في مسائل المبدأ والمعاد.

 

ماذا يقول القرآن في الموضوع:

تفسير الوحي والنبوة بالشكل الذي بيناه انما هو لأولئك الباحثين الذين اشتغلوا بالعلوم المادية الطبيعية، فهم يرون أن مايوجد في الكون لابد أن يفسر بالتفسير المادي الطبيعي، وتنتهي جميع الحوادث والأحداث عندهم إلى الأسباب الطبيعية البحتة. ومن هنا فسروا التعاليم السماوية بتفاسير اجتماعية تتفق واتجاههم الطبيعي، ونظروا إلى تلك التعاليم كأحداث ظهرت لتفاعلات اجتماعية خاصة.
فهي اذا تشبه الأحداث التي ظهرت على أيدي بعض النوابغ أمثال الملك كورش وداريوش والاسكندر المقدوني، فكما لاتفسير لأعمال لونسبوها إلى الله تعالى والأوامر السماوية الا ما مضى فكذا لاتفسير لأعمال الأنبياء الا ما ذكروه.
نحن لانريد هناالبحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة، كمالا نريد أن نقول لهؤلاء الباحثين: ان لكل علم أن يبحث فيما يدخل في اطاره من مسائله الخاصة، ولايحق للعلوم المادية التي تختص بشؤون المادة وخواص آثارها أن تبحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة نفيا أو اثباتا.
لانريد هذا، ولكننا نقول: ان التفسير المذكور للوحي والنبوة يجب أن يعرض على الآيات القرآنية التي هي سند نبوة النبي الكريم، لنرى هل يلتقيان معا أم لايلتقيان؟.
القرآن الكريم صريح في عكس التفسير السابق للوحي والنبوة، ولايلتقي معه في شيء من آياته. ولابأس أن نستعرض هنا مقاطع ذلك التفسير الموهوم مع ماجاء في القرآن، فنقول:

1 - كلام الله تعالى:

يقول التفسير السابق: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمي أفكاره الطاهرة التي كانت تنقدح في ذهنه بـ«كلام الله».
ومعنى هذا التفسير أن تلك الأفكار كبقية أفكار النبي كانت نتيجة لما تدور في خلده، ولكنها لما كانت طاهرة ومقدسة نسبت إلى الله تعالى، فهي منسوبة إلى النبي بالنسبة الطبيعية ومنسوبة إلى الله بالنسبة التشريعية.
ولكن القرآن الكريم يصرح في آيات التحدي بنفي كونه من كلام النبي أو أي انسان آخر، فيقول: (أم يقولون افتراه
قل فاتو بسورة مثله وادعوا من استطعتهم من دون الله ان كنتم صادقين)(64).
ويقول: (أم يقولو افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين)(65).
ويقول: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)(66).
ويقول:(فان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين)(67).
ويقول: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)(68).
من الواضح البديهي أن هذه التصريحات لاتناسب كون القرآن من كلام الرسول وقد نسب إلى الله تشريفا بل تثبت قطعا أنه من كلام الله تعالى لا غير.
وبالاضافة إلى هذا يسرد القرآن في مئات من آياته ماظهر من المعاجز وخوارق العادة على الأنبياء عليهم السلام أثبتوا بواسطتها نبوتهم واستدلوا بها على رسالتهم. فلو كانت النبوة ذلك النداء الوجداني والوحي تلك الأفكار الطاهرة ¬ كما يقوله التفسير المذكور ¬ لما احتاج القرآن إلى اقامة الحجة وتأكيدها على نبوة الأنبياء بسرد قصص المعاجز والكرامات.
وقد أول بعض الكتاب هذه المعاجز الصريحة بشكل مضحك، الا أن كل واحد من القراء عندما يراجع ما قالوه في تأويلاتهم يرى أن مدلول الآيات القرآنية لايتفق مع ماذهبوا اليه من الآراء الخاطئة.
لا نريد في هذا البحث اثبات امكان تحقق المعجزة وخوارق العادة، أو التأكيد على صحة القصص القرآنية. بل نحاول القول بأن القرآن أثبت صريحا للأنبياء السابقين كصالح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام معاجز خاصة، ولايمكن حمل هذه القصص الا على أنها خوارق للعادة. ولانحتاج ( كما قلنا ) إلى المعاجز في اثبات النداء الوجداني والفكر الطاهر.

2 - جبرائيل والروح الأمين:

يسمى التفسير السابق روح الرسول الطاهرة التي كان دأبها طلب الخير والاصلاح الاجتماعي بـ«الروح الأمين»، ويسمى ماتلقيه الروح الزكية في روعه المبارك بـ«الوحي».
ولكن القرآن الكريم لايؤيد ما ذهب اليه هؤلاء، لأنه يصرح بأن وسيط الوحي يسمى بـ«جبرائيل»، وعلى التفسير المذكور لاموجب لهذه التسمية بتاتا. يقول تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله)(69).
نزلت هذه الآية في الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمن يأتيه بالوحي، فأجابهم أنه جبرائيل الملك قالوا: ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لاتبعناك(70).
يرد الله تعالى في هذه الآية على اليهود، ويؤكد بأن جبرائيل انما جاء بالوحي باذن منه عز شأنه، فيثبت بأن القرآن من كلام الله تعالى وليس من كلام جبرائيل.
وواضح بأن اليهود كانوا أعداءا لملك سماوي كان يأتي بالوحي من السماء، وكان ذلك الملك غير موسىبن عمران ومحمد بن عبد الله صلى الله عليهما، كما لم يكن روحيهما الطاهرتين.
والقرآن نفسه الذي صرح في الآية المذكورة أن وسيط الوحي هو جبرائيل، صرح في آية أخرى انه الروح الأمين فقال: (نزل به الروح الأمين على قلبك)(71).
ويقول تعالى في موضع آخر بصدد التعريف بوسيط الوحي: (انه لقول رسول كريم* ذي قوة عند ذي العرش مكين* مطاع ثم امين* وما صاحبكم بمجنون* ولقد رآه بالأفق المبين)(72).
وهذه الآيات تدل دلالة واضحة على أن جبرائيل من الملائكة المقربين عند الله تعالى، وهو ذو قوة عظيمة ومنزلة رفيعة وهو المطاع الأمين.
ويصف الملائكة المقربين في موضع آخر بقوله: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا)(73).
تدل الآية على أن الملائكة موجودات لهم اراداتهم ومداركهم واستقلالهم، لأن الأوصاف المذكورة فيها ¬ كالايمان بالله والتسبيح له والاستغفار للمؤمنين ¬ لاتتوفر الا فيمن يتم له الاستقلال الكامل والمدارك التامة والارادة الخاصة.
ويقول تعالى في الملائكة المقربين أيضا: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعا) إلى أن يقول: (وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعبذهم عذابا أليما ولايجدون لهم من دون الله وليا ولانصيرا)(74).

ان المسيح والملائكة المقربين لايعصون الله طرفة عين ولكن مع ذلك هددهم تعالى بالعذاب الأليم لو تلبسوا بالمعصية والتهديد من عذاب يوم القيامة المتفرع على ترك نوع من التكليف لايصح الا بالاستقلال والارادة.
ويتضح من الآيات المذكورة أن الروح الأمين  الذي يسمى جبرائيل أيضا وهو الذي يأتي بالوحي الالهي  له استقلاله وارادته ومداركه، بل يستفاد من خلال آيات سورة التكوير «مطاع ثم أمين» أنه يأمر وينهى في الملأ الأعلى وتطيعه الملائكة المقربون، بل نرى في بعض الأحيان أن الوحي ربما يأتي على يد ملائكة يأتمرون بأوامره، كما تشير إلى ذلك الآيات الواردة في سورة عبس (كلا انها تذكرة* فمن شاء ذكره* في صحف مكرمة* مرفوعة مطهرة* بأيدي سفرة* كرام بررة)(75).

 

3 - الملائكة والشياطين:

يؤكد التفسير السابق أن «الملائكة» اسم للقوى الطبيعية الداعية إلى الخير والسعادة، «والشياطين» اسم للقوى الطبيعية الداعية إلى الشر والشقاء.
ولكن المستفاد من القرآن الكريم خلافه، فانه يعتبر الملائكة والشياطين مخلوقات لاتدرك بالحواس الظاهرية الا أن لها وجودا خارجيا وهي ذات ادراك وارادة مستقلة.
أما الملائكة فقد نرى التصريح في الآيات الماضية بأنها موجودات مستقلة مؤمنة تصدر منها أعمال تحتاج إلى آلارادة والادراك، وفي القرآن كثير من أمثال هذه الآيات لايسع البحث سردها كلها.
وأما الشياطين فقصة ابليس وعدم سجوده لآدم عليه السلام والمحاورات التي جرت بينه وبين الله تعالى مذكورة في عدة مواضع من القرآن، فقد قال بعد أن أخرج من صفوف الملائكة (لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين)، فقال تعالى له (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين)(76).
وغير خفي أن الجزاء والعقاب لايصح الا للمريد الذي يدرك الحسن والقبح، ومعنى هذا أن الشياطين لها كامل الادراك والارادة.
وفي آية أخرى نرى أن الله تعالى وصف ابليس بالظن الذي هو من مصاديق الادراك فقال: (ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه الا فريقا من المؤمنين)(77).
ويصرح في آية أخرى بأن ابليس يدفع اللوم عن نفسه، وهذا لايكون الا ممن يدرك، وله الارادة التامة، فيقول تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر ان الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلاتلوموني ولوموا أنفسكم)(78).
ان هذه الآيات الكريمة وآيات أخرى بمضمونها تثبت للشيطان صفات لاتتم الا مع الادراك والاستقلال في الارادة وهي لاتتفق مع القوى الطبيعية التي لاتتوفر فيها هذه الصفات البتة.
الجن:
وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم حول الجن أكثر مما ورد حول الملائكة والشياطين، ففي آية يصف الله تعالى فيها أولئك الذين لم يستمعوا إلى دعوة آبائهم وأمهاتهم ونسبوا الدين إلى الأساطير يقول: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس انهم كانوا خاسرين)(79).
ويقول تعالى في موضع آخر: (واذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين* قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق والى طريق مستقيم* يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم* ومن لايجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين)(80).
تدل هذه القصة على أن الجن كالأنس لهم وجود مستقل وارادة وادراك وتكليف، ونجد أيضا في الآيات التي تصف أحوال القيامة مايدل على مانستفيده من هذه الآيات الكريمة.

 

4 -صرخة الضمير:

يستفاد من التفسير المذكور سابقا أن النبوة والرسالة هي صرخة الضمير للاصلاح الاجتماعي العام الشامل، والسعي في رفع المساوىء الاجتماعية وابدالها بما يضمن للمجتمع السعادة والرفاه.
ولكن المستفاد من القرآن الكريم خلاف هذا المعنى فانه يقول: (ونفس وماسواها * فألهمها فجورها وتقواها)(81).
ومعنى هذا أن كل انسان يعرف أعماله الحسنة والسيئة بما أوتي من صفاء الضمير فيدرك به صرخة الوجدان الاصلاحية الا أن هناك من يهتم بهذه الصرخة فيصبح من السعداء ومن لايعتني بها فيعود من الأشقياء، كما قال تعالى: (قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها)(82).
فلو كانت النبوة والرسالة أثر من تلك الصرخة لكانت عامة في الناس مودعة في كل الضمائر، وكان جميع الناس أنبياء ورسلا، مع العلم انا نجد أن الله تعالى يختص بعض عباده بهما فيقول: (واذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله اعلم حيث يجعل رسالته)(83).
تدل الآية الكريمة على أن الكفار كانوا يشترطون لايمانهم عمومية الرسالة ليكون لهم حصة منها، فيرد عز شأنه عليهم مثبتا أن الرسالة خاصة بفئة مختارة.

 

5 - حول التفسير الثاني:

لقد كررنا القول اننا لانحاول في هذه البحوث المختصرة اثبات أن الدين الاسلامي حق ودعوى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صدق، بل نريد أن نذكر أن تفسير أولئك الباحثين الوحي والنبوة والرسالة بمافسروه به خاطىء لايطابق ما جاء في القرآن العظيم، فنقول بصدد التفسير الثاني:
يحاول التفسير الثاني أن يفسر الأصول الاعتقادية التي أتى بها الرسول بأنها مجموعة من العقائد الخرافية التي ألقيت على الناس بشكل دين سماوي، ذلك لأن الناس كانوا في جهل وأمية ولو تتوفر فيهم الثقافة والعلم فلم يمكن اصلاحهم الا من هذا الطريق. كانت هذه التعاليم الخرافية من صالح الناس، وكان من الضروري أن يلقي عليهم بهذا اللون العقائدي الذي يحفه الخوف من الله ورجاء الجزاء في العالم الآخر ووجود الجنة والنار والحساب والكتاب، ولولا هذا اللون المزيج بالخرافة لما أمكن اصلاحهم بما ينجيهم من واقعهم الأليم.
نقول: اننا لانعلم الشيء الكثير عن حياة الأنبياء الماضين عليهم السلام، الا أن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مدروسة بصورة واضحة جلية، ويتبين من خلالها للمراجع الدقيق أنه عليه الصلاة والسلام كان شديد الايمان بدعوته وكان يطمئن إلى صحتها كامل الاطمئنان. فلو كانت العقائد الاسلامية خرافية ¬ كما يزعمون ¬ لم يكن هناك حاجة إلى مثل هذه الأدلة الكثيرة التي يقيمها القرآن الكريم عليها، كأدلة اثبات الصانع وتوحيده تعالى وبقية الصفات الالهية وسائر العقائد العائدة إلى موضوع النبوة والمعاد وغيرهما.

 

6 - ماذا يقول القرآن في الوحي والنبوة:

ملخص ما نستفيده من الآيات الكريمة أنها تعتبر القرآن كتابا سماويا ألقي إلى الرسول من طريق الوحي، والوحي هو كلام سماوي (غير مادي) ليس للحواس الظاهرية والعقل أن تصل اليه، بل ربما يوجد في بعض من يختاره الله تعالى ما يدرك بواسطة قوى ربانية الأوامر الالهية والدستور الغيبي (غير المحسوس بالعقل والحواس الأخرى)، وهذه الحالة هي من حالات النبوة وبها يتلقى النبي الشريعة الالهية.

 

ولزيادة توضيح هذا الموضوع يجب أن ندرس النقاط التالية:

أ - الهداية العامة وهداية الانسان:

لقد ذكرنا في مباحث سابقة بصورة موسعة أن لكل موجود في هذا الكون ¬ من الأحياء والجمادات وغيرهما¬ هدفا يتوجه إلى تحقيقه منذ أول خلقته، وقد أودع فيه ما يناسب تحقيق هدفه من الآلات والمعدات، ولابد أن يجتهد حتى يصل إلى ذلك الهدف ويناله، قال تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)(84) وقال (الذي خلق فسوى* والذي قدر فهدى)(85).
وقد ذكرنا أيضا أن هذا القانون الكلي (قانون الهداية العامة) يشمل الانسان كما يشمل غيره، فله في حياته هدفه الخاص الذي يسعى إلى تحقيقه ضن الاطار العام، وقد أودع فيه مايمكنه من الوصول اليه والحصول عليه، ونجاحه في مسيرته الطويلة في اطار هذا القانون هو الوصول إلى الكمال والسعادة، كما أن اخفاقه في هذه المسيرة هو الانزلاق في مهوى الشقاء الأبدي. وخلقته والأسررار المودعة فيه هي التي تدله على طريق الوصول إلى ذلك الهدف السامي، قال تعالى: (انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا* انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا)(86).
وقال عز من قائل: (من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره)(87).

 

ب - ميزة الانسان في قطع مسالك الحياة:

تمتاز الحيوانات على غيرها من سائر الموجودات أن أعمالها علمية تصدر عن فهم وادراك، والانسان مع أنه يشارك الحيوانات في هذه الناحية يمتاز عنها بما أوتي من العقل، فان الأعمال التي ينجزها تنبع من العقل ويميز الخير من الشر والنافع من الضار ويعملها بعد أن يتأكد من رجحان كفة المنافع فيها، ويتبع فيها ما يدركه عقله ويرى أن فيه مصلحة له، فما يراه العقل نافعا ليس فيه ما يضر يحكم بلزوم القيام به، وما يراه ضارا ليس فيه ما ينفع يحكم بوجوب الاجتناب عنه(88).

 

ج - كيف يكون الانسان اجتماعيا؟

لاشك ان الانسان كان ولايزال يعيش بصورة جماعية ويشكل مع الآخرين مجتمعا مرتبطا بعضه ببعض ويقضي حوائجه بالتعاون مع اخيه الانسان، ولكن هل هذا التعاون والترابط الاجتماعي هو مقتضى طبيعته الأولية وسجيته الساذجة التي تدفعه إلى ان لايعيش وحده بل يتعاون مع بني نوعه؟..
لقد نرى ان للانسان حاجات حسب طبيعته البشرية، وله عواطف ومدارك خاصة تدفعه إلى أن ينجز مايحتاج اليه بالاجهزة التي جهز بها، وفي هذه الحاجة لايشعر بمايحتاج اليه الآخرون أيضا.
يستخدم الانسان كل شيء للوصول إلى مآربه ومايحتاج اليه، فيستعين بكل بسيط ومركب لقضاء ما لابد منه يستفيد من النباتات والأشجار الصغيرة والكبيرة، ويسيطر على الحيوانات وما تدره من الخيرات.. كل ذلك ليرفع بها مايشعر به من النواقص الحياتية ويسد بها مايتجدد من الخلل في عيشه.
الانسان الذي هذا دأبه ويستخدم كل مايجده لمصالحه هل يستفيد من نتائج وجوده. هذا الانسان الذي يحترم أخاه الانسان في الظاهر هل يخلص التعاون معه ويصرف نظره عن مصالحه الشخصية للمصالح الانسانية العامة؟..
لا، ليس هكذا...
بل الانسان يحس بما تطلبه الحياة منه من الحاجات المعاشية الكثيرة، ويعلم انه وحده لايتمكن من انجازها، بل يعلم أنه بحاجة إلى من يساعده في قضاء حوائجه من أبناء نوعه...
ولكن من جهة أخرى يلاحظ أن الأماني التي تدور في خلده تراود أذهان الآخرين أيضا، فيسعون في تحقيق مصالحهم كما يسعى هو في تحقيق مصالحه.
ههنا وعندما يحس بهذه الحقيقة يرضخ للتعاون الاجتماعي فيتنازل عن بعض منافع جهده لرفع مايحتاج اليه بنو نوعه كما أنه يستفيد من جهة أخرى من جهد غيره لمصالحه الخاصة. وفي الحقيقة يدخل في سوق الأخذ والعطاء الاجتماعي القائم في كل الاعصار والأدوار ليأخذ منه مايحتاج اليه في مسيرته الحياتية..
ان ما ينتج من الجهد الاجتماعي والعمل المشترك كأنه يختلط بعضه ببعض، فيأخذ كل واحد من افراد المجتمع حسب وزنه الاجتماعي، أي بمقدار قيمة العمل الذي يقوم به له حصة من تلك النتيجة يصرفها فيما يحتاج اليه من الحاجيات المعاشية.

***

يتضح مما سبق أن الانسان بمقتضى طبيعته في طلب مصالحه الشخصية، يستخدم الآخرين لاستثمارهم فيما يعود اليه بالنفع، ولايرضخ للتعاون الاجتماعي الا اذا اضطر اليه اضطرارا.
ان هذه حقيقة تتجلى واضحة في دراسة حياة الأطفال فان الطفل يريد الحصول على ما يشتهيه جزافا وبدون قبول أي توجيه، ويؤكد طلبه بالبكاء والالحاح لولم يوفق إلى الحصول عليه. وكلما تقدم في سني حياته يقترب إلى الحياة الاجتماعية ويتعرف على ما يفرضه عليه الخضم الاجتماعي، فيبتعد تدريجا عن القول جزافا والطلب غير الوجيه، وهكذا تتبدل به الأحوال حتى ينسى إلى حدما مطاليبه الجزافية.
وشاهد آخر: اننا نرى أن انسانا مالو أوتي قدرة فوق قدرة المجتمع المحيط به لم يلتزم بما يتطلبه منه من التعاون الاجتماعي، بل يحاول بكل امكاناته استخدام الناس ليستثمر جهدهم بدون أي تعويض.
يشير تعالى إلى التعاون الاجتماعي المذكور بقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا)(89).
الآية الكريمة تشير إلى حقيقة التعاون الاجتماعي، وأن كل واحد من أفراد البشر يفوق على غيره في جانب من الجهد المشترك، فكل فرد من المجتمع له قابلية خاصة يستثمر الآخرين بواسطتها، فهم وحدة اجتماعية متشابكة كالسدى واللحمة بالنسبة إلى الثوب.
ويقول تعالى: (ان الانسان لظلوم كفار)(90).
ويقول أيضا: (انه كان ظلوما جهولا)(91).
الآيتان تشيران إلى الغريزة الطبيعية المودعة في الانسان الذي يستخدم بواسطتها أخاه الانسان ويظلمه ويبتز منه ثمرات جهده وأتعابه.

 

د - الاختلافات وضرورة القانون:

اضطر الانسان ان يتقبل النظام الاجتماعي للاهداف التي لايمكنه الوصول اليها بدونه، ولذا ربما يتنازل عن بعض ما له من الحرية لضمان حريات الآخرين. ولكن لايكفي مجرد وجود التعاون الاجتماعي مع مانراه من الاختلافات الطبقية وعدم التوازن في الاستغلال والاستثمار وشدة الفروق الكبيرة في القوى الروحية والجسدية. وقد نرى أيضا أن المنافع التي ينتظر أن تكون سببا للاصلاح الفردي والاجتماعي، أصبحت سببا لظهور أنواع الاختلاف والمشاجرات.
من هنا يعلم الحاجة إلى سلسلة من المقررات المشتركة التي يتفق أفراد المجتمع على اقرارها والتسليم لها، فان من البديهي المسلم أن معاملة ما ¬ مهما كانت صغيرة وبسيطة ¬ لابد فيها من مقررات مشتركة بين البائع والمشتري حتى تتحقق المعاملة بالشكل المرضي على ضوء تلك المقررات.
فاذن لامحيص من قوانين خاصة يسري مفعولها على كل الأفراد، ليبقى المجتمع متماسكا لايتسرب اليه التفكك وليحفظ بها المنافع والمصالح.
ولهذا نجد المشرع الأول الذي يريد هداية الانسان إلى الصراط المستقيم ومافيه الحق، وضع القوانين التي تضمن سعادة الدنيا والآخرة، ودعى الناس إلى اتباعها وتحقيقها في حياتهم اليومية.
قال تعالى: (من نطفة خلقه فقدره* ثم السبيل يسره)(92).
هـ ¬ لايكفي العقل في هداية الانسان إلى القانون:
مهما كانت هذه الهداية وكيفما تحققت فهي من الفيض الرباني لأنه تعالى هو الذي خلق الخلق وجعل له هدفا في مسيرته الحياتية تضمن سعادته، وهو الذي أرشده إلى الهداية العامة التي من ضمنها هدايته.
وواضح انه لايسري الخطأ والتناقض في أفعال الله عز وجل، فلو لم ينتج سبب الهدف الخاص به أو ينحرف عنه فليس ذلك من ذنب السبب، بل هو مستند إلى تأثير السبب أو الأسباب الأخرى التي منعت الوصول إلى ذلك الهدف أو الانحراف عنه، فان السبب الواحد لايصدر منه الأمور المتضادة والمتناقضة ولايخطأ ولم ينحرف لو لا مزاحمة الأسباب.
من هنا يتبين أن العقل وحده لايمكنه هداية الانسان إلى القانون، لأنه هو الذي يدعو في بعض الاحيان إلى الاختلاف وهو الذي يوقظ غريزة الاستثمار وجلب النفع بصورة مطلقة وبحرية كاملة، وهو الذي يضطر الى أن يتقبل المجتمع المتوازن كل ذلك لما يحس به من المزاحم الذي يزاحمه.
ومن البديهي أن القوة الواحدة لا يصدر عنها أثرين متناقضين ¬ احداث الاختلافات ورفعها.
ان مايحدث من سحق الحقوق وعدم الوفاء بالوعود وما أشبه هذا من الامور، انما يحدث من العقلاء الذين لهم الادراك الكامل ولولا العقل لما صح عندما يفعلونه ذنبا ولما صح العقاب عليه. فلو كان العقل يدل حقا على القوانين الرافعة للاختلاف ولم يكن يتخلف عن واجبه، لما كان يرضى بما يصدر عن الانسان مما ذكرناه، بل كان يمنع منه أشد المنع.
العامل الأصلي في التخلي عن الواجب مع وجود العقل، هو أن العقل يضطر إلى الحكم بقبول مجتمع يحافظ على التوازن ويرعى القوانين المتضمنة للعدالة الاجتماعية، ويوجد هناك مزاحم يحد من الحرية الكاملة في العمل، ولولا وجود المزاحم لما كان العقل يحكم برعاية التعاون والعدالة الاجتماعية.
المتخلفون عن القانون هم الذين يملكون قدرة فوق القدرة المجرية لذلك القانون، فيتخلفون عنه بلا وجل ولاخوف، أو الذين يلجأون إلى مخبأ يصعب الوصول اليهم لبعدهم عن القوة المجرية، أو كونهم في مكان حريز غفل عنهم المراقبون، أو يتخلفون عنه لأعذار تخيلوها في أذهانهم ليظهر أعمالهم بمظاهر قانونية، أو ينتهزون ضعف من يستثمرونه لمصالحهم.. وعلى كل حال لايجدون من يزاحمهم أو يضايقهم، أو يزاحمهم ويضايقهم من هو أضعف منهم ولايملك القوة الكافية لمقاومتهم وسحقهم. ففي هذا الموضوع ليس للعقل حكم خاص، وهو لايجد شيئا من الحرية المطلقة، ويدع غريزة الاستخدام والاستثمار بحالها.
فاذن ليس في نطاق العقل وحده أن يرشد إلى قانون اجتماعي تام يضمن نفع المجتمع والفرد بشكل عادل، لأن العقل يدفع إلى رعاية مثل هذا القانون لو لم يجد مزاحما، فاذا وجد مزاحما يمنعه عن حريته المطلقة، يمتنع هو بدوره عن هذا الدفع بل ربما يحكم بخلافه.
قال تعالى: (كلا ان الانسان ليطغى* أن رآه استغنى)(93).
من أنواع الاستغناء، الاستغناء عن التعاون الاجتماعي ورعاية القانون في حفظ حقوق الآخرين.
و ¬ لاتكون الهداية الا بالوحي:
لقد علمنا من المباحث السابقة أن الانسان كبقية الموجودات له هدف ذاتي خاص يضمن سعادته، ولما كان حسب تكوينه محتاجا إلى الحياة الاجتماعية فسعادته وشقاؤه في سعادة المجتمع وشقائه، وهو جزء واحد من الهياكل الاجتماعية ولابد أن يجد سعادته وحسن عاقبته في سعادة المجتمع.
وعلمنا أيضا أن الطريق الوحيد للحصول على ضالته المنشودة هو (القانون المشترك) الذي فيه السعادة الاجتماعية التي بضمنها سعادته الفردية.
وتبين أيضا ضرورة هداية الانسان كسائر الأشياء إلى ذلك الهدف الذي يشتمل على سعادته، وارشاده إلى المقدمات الموصلة اليه. ومعنى هذا انه يجب أن يدل إلى القانون المشترك الذي يلزم مراعاته.
من كل هذه المقدمات نستنتج أنه لابد للانسان من ادراك يدله على هدفه غير الادراك العقلي. والطريق الوحيد الذي نعرفه غير طريق العقل هو ما نجده في أشخاص يسمونهم بـ«الأنبياء» ومبعوثي الاله، وهو الذي يسميه الانبياء بـ«الوحي السماوي»، ويقيمون على اثبات مدعاهم الادلة والحجج.
قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)(94).
ويقول: (انا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) إلى أن يقول (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)(95).
الآية الأولى تصرح بأن لايمكن حل الاختلافات الا من طريق الوحي والنبوة، والآية الثانية تعتبر الوحي والنبوة الدليل الوحيد لاتمام الحجة على العباد. ولازم هاتين الآيتين أن العقل لايكفي لأن يكون دليلا للهداية واتمام الحجة. بمعنى أن الأنبياء لو لم يبعثوا ولم يبلغوا الأحكام الالهية، لم يكن مجرد أن الناس عقلاء يدركون قبح الظلم والفساد موجبا للعقاب في العالم الآخر بدون بعث الأنبياء وبيان الأحكام الالهية.
ز ¬ اشكال وجواب:
الاشكال: انكم جردتم العقل عن قابلية وضع القوانين والارشاد إلى السعادة النوعية بحجة أنه لايمكنه منع الناس عن المخالفات التي تصدر منهم، وسلمتم القياد إلى الوحي والنبوة لوضع الدستور الصالح الذي يتكفل اسعاد البشرية. ولكن نرى أن قوانين الوحي أيضا لاتتمكن من السيطرة التامة على الانسان وضبطه، بل نرى أنه يبتعد عن الأديان والشرائع اكثر مما يبتعد عن القوانين الوضعية؟!.
الجواب: اراءة الطريق والهداية إلى السعادة شيء ومتابعة الناس لتلك الهداية واتباعهم ذلك الطريق أو عدم متابعتهم واتباعهم شيء آخر. فان الذي يقتضيه قانون الهداية العامة هو ارشاد الناس وهدايتهم إلى وسيلة توصلهم إلى دستور يضمن سعادتهم، وليس من واجبها الالزام العملي بالاتباع.
والذي استدللنا به على عدم كفاية العقل من التخلفات القانونية التي تنجم عن الحرية التامة في التصرف، لم يكن هذا الاستدلال لأن العقل لم يحد بعض هذه الحرية في قضايا خاصة بل لانه ليس له حكم بات في هذه الحرية المطلقة، ولم يدع إلى التعاون الاجتماعي التام واتباع القانون، لأن ما قام به من بعض التحديد والدعوة إلى اتباع القانون انما كان نتيجة الضغط والضرورة المتأتية من المزاحم الذي يمنع عن حرية التصرف وهو علمه بأن مساوىء الحرية المطلقة في التصرف اكثر من محاسنها. وبديهي أن العقل لو لم يقع تحت هذا الضغط ولم يكن هناك مزاحم ومانع عن الحرية في التصرف، لم يحد عن الحرية المطلقة ولم يدع إلى اتباع القانون الذي هو بدوره تحديد للحرية.
فاذا لأننا لانرى العقل دائما يدعو إلى اتباع القانون نقول بأنه وحده لايكفي للهداية، بل نقول بضرورة اتباع الأنبياء والرسل، لأن الوحي دائم الدعوة إلى السير على ضوء القانون الالهي الذي يراقب الانسان في كل حالاته، فيثيب المحسن على احسانه ويعاقب المسيء على اساءته بدون تمييز بعض على بعض.
_______________

(54) سورة البقرة: 165.
(55) سورة آل عمران: 68.
(56) سورة البقرة: 257.
(57) سورة الأنعام: 122.
(58) سورة المجادلة: 22.
(59) سورة الحديد: 28.
(60) سورة آل عمران: 31.
(61) سورة الأعراف: 157.
(62) سورة الروم: 30.
(63) سورة الشمس: 7 ¬ 10.
(64) سورة يونس: 38.
(65) سورة هود: 13.
(66) سورة الاسراء: 88.
(67) سورة البقرة: 23.
(68) سورة النساء: 82.
(69) سورة البقرة: 97.
(70) الدر المنثور1/90، ونور الثقلين1/87 ¬ 89، وغيرهما.
(71) سورة الشعراء: 194.
(72) سورة التكوير: 19 ¬ 23.
(73) سورة المؤمن: 7.
(74) سورة النساء: 173.
(75) سورة عبس: 11 ¬ 16.
(76) سورة ص:83 ¬ 85.
(77) سورة سبأ: 20.
(78) سورة ابراهيم:22.
(79) سورة الأحقاف: 18.
(80) سورة الأحقاف: 29 ¬ 32.
(81) سورة الشمس: 7 ¬ 8.
(82) سورة الشمس: 9 ¬ 10.
(83) سورة الأنعام: 124.
(84) سورة طه : 51.
(85) سورة الاعلى : 2 — 3.
(86) سورة الدهر: 2 ¬ 3.
(87) سورة عبس: 19 ¬ 20.
(88) نريد من حكم العقل اداراك ضرورة الفعل أو الترك، أما الدعوة إلى فعل ما أو تركه انما هو من عمل العاطفة التي يسوقها العقل اليه، وهو الذي يميز بين النفع والضرر. نعم لما كانت هذه الادراكات اعتبارية فالحكم فيها واحد لايختلف ¬ فليلاحظ ملاحظة دقيقة.
(89) سورة الزخرف: 32.
(90) سورة ابراهيم: 32.
(91) سورة الأحزاب: 72.
(92) سورة عبس: 19 ¬ 20.
(93) سورة العلق: 6 ¬ 7.
(94) سورة البقرة: 212.
(95) سورة النساء: 165.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية