النبي محمد (صلى الله عليه وآله) حبيب الله

العالم قبل النبي محمد(صلى الله عليه وآله)

بعث الله موسى(عليه السلام) نبياً مرسلاً، يهدي الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويأمرهم بالعدل؛ لينقذهم من ظلم الفراعنة والطواغيت، فجاءهم بالتوراة، فيها ما لهم وما عليهم.

وبعد انتقال موسى(عليه السلام) إلى جوار ربه، راح أحبار اليهود يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويستغلّون الدين لأطماعهم الشخصيّة، ضاربين عرض الحائط بتعاليم موسى(عليه السلام)، خصوصاً ما بشّر به من نبي يأتي من بعده اسمه عيسى.

ولما بعث الله عيسى(عليه السلام)؛ لتهذيب الأخلاق، وتطهير النفوس، وزرع المحبّة بين أبناء البشر، في ظلال عقيدة التوحيد، وليبشر بنبيّ يأتي بعده اسمه أحمد، دخل جماعة من اليهود في الدين الجديد، وراحوا يعملون على تحريفه واستغلاله، تماماً كما فعلوا بدين موسى(عليه السلام)، حتى أصبح تحت تأثير رجال الكنيسة غير المؤمنين، سيفاً مصلتاً على رقاب الناس، خصوصاً المثقفين.

وهكذا، عاشت البشرية انحطاطاً مخيفاً، في شتّى شؤونها الحياتية، وساد الظلم والفساد، وعاد الناس إلى الشرك وعبادة الأصنام، وباتوا يؤمنون بالخرافات والأساطير، وكأني بهم يهربون من واقعهم الأليم.

وكان شأن سكّان الجزيرة العربية. شأن معظم الناس في ذلك العصر، فسيطر عليهم، ماسيطر على الناس، وسادتهم روح القبليّة والنزاع، وعمّهم الظلم والفساد والتردّي، وباتوا على شفا جرفٍ هارٍ.

 

الوليد المبارك

بعد ضياع وفساد استمرا ردحاً من الزمن، وفي العام الذي سمّي بعام الفيل، ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، في قبيلة قريش في العام سبعين وخمسمئة للميلاد. وكان ذلك الحدث العظيم بعد شهر تقريباً من حادثة أصحاب الفيل، المشهورة.

كان عبد الله بن عبد المطلب، والد محمد، يعمل في التجارة إلى الشام، فوافته المنية أثناء عودته من إحدى رحلاته، وكانت زوجته آمنة بنت وهب، من بني عدي بن النجار، حاملاً، فلم يقدر للوليد الجديد أن يرى أباه.

ولما كان من عادة العرب في مكّة أن يسترضعوا لأولادهم نساء أهل البادية، طلباً للفروسية والفصاحة، فقد عرض محمد على مرضعة من قبيلة بني سعد بن بكر اسمها حليمة، فتبرمت به، لكونه يتيماً، ويشاء الله ان ترضعه حليمة، إذ يشير عليها زوجها أن تأخذ الطفل، عسى أن يكون لهما في إرضاعه خير.. وفعلاً، فقد حلّت بركة الوليد المصطفى، في الحي الذي تسكنه حليمة، وعمّ الخير في ربوعه. ويوماً بعد يوم، كانت تظهر عظمة الطفل المبارك، حتى أن حليمة وزوجها كانا يودان أن يبقى محمد عندهما، حتى بعد مابلغ سن الفطام.

ولما بلغ محمد الخامسة من عمره، أعيد إلى حضن أمه آمنة، لترعاه أحسن ماتكون الرعاية. فتأخذه معها إلى أخواله بني النجّار في يثرب، حتى وافتها المنية وهي في طريق عودتها، ودفنت في الأبواء بين مكّة والمدينة، ومحمد لا يزال في السادسة من عمره، فعادت به أم أيمن جارية آمنة إلى جده عبد المطلب.

كفل عبد المطلب محمداً، ووفر له العطف والحنان والعناية اللازمة، لِما كان يتوسم فيه من الشأن العظيم، ولكنه توفي ومحمد لا يزال في الثامنة من عمره، فتولّى أبو طالب عمّ محمد رعايته، وأحاطه بعناية لم يحظَ بها أحد من أبنائه، حتى أنّه كان يصحبه معه في تجارته إلى الشام.

وزاد تعلق أبي طالب بمحمد، بعد أن قال له الراهب بحيرا، وكان عالماً بالتوراة والإنجيل، وقد رأى محمداً، قال له: إن ابن أخيك هذا نبي هذه الأمة، فاحذر عليه من اليهود.

بلغ محمد مبلغ الشباب، فكان مثالاً لكل الصفات الأخلاقية النبيلة، فوجدت فيه قريش، وكذلك أهل مكّة، سيداً من ساداتهم، ومرجعاً لهم في الملمات، وكانت له اليد الطولى في عقد حلف الفضول، لمناصرة المظلومين ومحاربة العدوان من أي مصدر كان.

 

علامات النبوة

سمعت خديجة بنت خويلد، وهي من أشراف قريش، سمعت بما يتمتع به محمد بن عبد الله، من الصدق والأمانة والأخلاق العالية، فأعجبت به، وودّت لو يبادلها محمد هذا الشعور، فدعته إلى الذهاب في تجارتها إلى الشام. لقاء أجر يعادل ضعفي ماكانت تعطيه للآخرين، فقبل محمد واتّجر لها، فنجحت الرحلة نجاحاً باهراً، وانتهى الأمر بعدها بزواج محمد من خديجة.

ورغم أن خديجة بنت خويلد كانت على أبواب الأربعين من عمرها، فيما كان محمد في ريعان الشباب، فإن زواجهما حقّق أروع تلاحم عاطفي أساسه الحب، والاحترام المتبادل، وأثمر عدداً من الأولاد، ذكوراً وإناثاً، إذ ولد لهما القاسم، وبه كان محمد يكنّى، ثم إبراهيم، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وعبد الله، وفاطمة. ولكن مشيئة الله سبحانه قضت أن لا يبقى منهم على قيد الحياة سوى فاطمة.

بعد أن تزوج محمد تركزت شخصيته الاجتماعية، وتعززت وتجلّت يوم اختلاف القبائل في وضع الحجر الأسود، بعد إعادة بناء الكعبة المشرفة، إثر السيل الجارف والحريق اللذين تعرضت لهما.. فما أن طلع عليهم محمد حتى قالوا: هذا الأمين رضينا به حكماً بيننا.. وقصوا عليه ماهم فيه من الخلاف، فما كان منه إلا أن وضع الحجر في ثوب، ثم أمرهم أن تأخذ كل قبيلة منهم بطرف، ليرفعوا الحجر ويضعوه في مكانه فيكون الجميع مشتركين في وضعه.

وبدأت علامات النبوة تظهر على محمد. فها هو ينقطع في غار حراء، شهراً كاملاً، من كل عام، يقضيه في التأمل والتفكر، بعيداً عن الصراعات القبلية والفساد. ولما بلغ الأربعين من العمر، أنزل الله سبحانه جبرائيل(عليه السلام) ليتلو على محمد(صلى الله عليه وآله) أول بيان من الرسالة الخاتمة: (إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الانسان مالم يعلم).

كان لهذا البيان العظيم أثره في قلب حبيب الله وفيه نفسه، وهو الذي لم يتعلّم القراءة ولا الكتابة، فعاد إلى بيته، وتدثر في فراشه، فأنزل الله عليه البيان الثاني: (يا أيها المدثّر قم فأنذر وربك فكبّر وثيابك فطهر والرجز فاهجر).

وهكذا كان الأمر الإلهي للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) واضحاً بحمل الرسالة، والقيام بأعباء الدعوة إلى الله.

 

النبي يدعو وقريش تراوغ

عرض رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) دعوته على زوجه خديجة (رضي الله عنه) وعلى ابن عمّه علي بن أبي طالب، فآمنا بها، وتابع النبي دعوته، فآمن معه أربعون شخصاً، أغلبهم من الشباب. فاتخذ النبي(صلى الله عليه وآله) دار الأرقم المخزومي، مركزاً يعلّم فيه المؤمنين القرآن.

وبعد ثلاث سنوات أمر الله سبحانه حبيبه محمداً (صلى الله عليه وآله) بأن (أنذر عشيرتك الأقربين) فدعا النبي عشيرته إلى طعام، وما أن أراد محمد (صلى الله عليه وآله) أن يحدّثهم، وكانوا قد علموا بأمره، حتى قاطعه عمّه أبو لهب، وحذّره من الاستمرار في دعوته.

وانفضّ الاجتماع، قبل أن يتم محمد كلامه، فعاد الأمر الالهي: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) فأعاد (صلى الله عليه وآله) الكرّة ثانية فدعا عشيرته وأولم لهم، وما كادوا يفرغون من الطعام، حتّى بادرهم عليه الصلاة والسلام بقوله: ((يابني عبد المطلب، إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة... وأنا أدعوكم الى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنّة، وتنجون من النار: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله... أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني))؟ قالوا: بلى. قال(صلى الله عليه وآله):(( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد... أنقذوا أنفسكم من النار)).

وقاطعة أبو لهب ثانية، وقال له: تباً لك، ألهذا دعوتنا! فأنزل الله سبحانه على حبيبه: (تبّت يدا أبي لهبٍ وتب* ماأغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى ناراً ذات لهب* وامرأته حمالة الحطب* في جيدها حبل من مسد).

دخل جماعة من قريش في الإسلام، وأخذت الدعوة المحمدية تشقّ طريقها في المجتمع، وراح أنصارها يزدادون يوماً بعد يوم؛ فاعتبر زعماء قريش أنّ ذلك خطر يتهدد مصالحهم الذاتية وزعاماتهم، وجاهروا بعدائهم للنبي وللإسلام، وسلكوا سبيل الحطّ من شأن الرسول وتكذيب دعوته، وراحوا يهزءون به قائلين:(لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى‏ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مِن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الْأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السّماءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى‏ فِي السّماءِ ).

ولم يكن هذا الأسلوب اللئيم في المحاربة، ليثني النبي العظيم عن تبليغ رسالة ربه، وواصل دعوته بإصرار غير مكترث بسخرية زعماء قريش؛ فعمدوا كما يعمد أعداء الله اليوم، إلى التضليل الإعلامي، وترويج الإشاعات الكاذبة، ضدّ النبيّ وأتباعه، فمرة يصفونه بالكذّاب، وأخرى بالشاعر، وثالثة بالساحر، حتى بلغت إشاعاتهم الحبشة وسواها، وهم يهدفون إلى عزل جبيب الله عن المجتمع، وإبعاد القاعدة الشعبية عنه وعن الدين الجديد.

ولم تنفع كل تلك الإشاعات والإفتراءات وأساليب التضليل، وظلَّ الناس يتهافتون على النبي(صلى الله عليه وآله) تهافت الفراش على النور، فلجأ زعماء قريش إلى أسلوب الإغراء والمساومة، فأرسلوا عتبة بن ربيعة ليقول للنبي(صلى الله عليه وآله): يابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد بما جئت به شرفاً، سوّدناك علينا، حتى لا ينقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا.

وجاء الردّ من النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: ((أفرغت يا أبا الوليد))؟ قال: نعم. فقال(صلى الله عليه وآله):(( فاسمع مني: ( حم* تَنزِيلٌ مِنَ الرّحْمنِ الرّحِيمِ* كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ* وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ).

وتابع النبي(صلى الله عليه وآله) حتى بلغ موضع السجدة فسجد، وعتبة يسمع ويرى، ثم قال عليه الصلاة والسلام:(( قد سمعت يا أبا الوليد ماسمعت، فأنت وذاك)).

عاد عتبة مرتبكاً، فرآه أصحابه فقالوا: لقد عاد أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال لهم: (إني قد سمعت وقولاً، والله ماسمعت مثله قط... والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة). وراح عتبة يدعوهم إلى التخلي عن مواجهة النبي، وتركه وشأنه، فقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

ثم إنّ زعماء قريش أرسلوا إلى النبي(صلى الله عليه وآله) وفداً منهم، ليعرضوا عليه المغريات فما كان قوله إلا أن قال:((ماجئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم)).

 

قريش تؤذي النبي وأصحابه

لم تؤثر إغراءات زعماء قريش في النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وتابع دعوته وتهزئ أوثانهم، فلجأوا إلى أسلوب الضغط والحصار... فجاؤوا إلى عمّه أبي طالب وقالوا له: والله لا نصبر على تسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنّا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.

وفاتح أبو طالب ابن أخيه بالأمر فقال النبي(صلى الله عليه وآله): (( يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري. على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه)).

رأى زعماء قريش صلابة موقف النبي واستعداده للتضحية، حتى بحياته في سبيل الله، فرجموا بيته بالحجارة، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا التراب على رأسه، وسلطوا صبيانهم ومجانينهم عليه، يلاحقونه، كما عمدوا إلى إيذاء أصحابه(رضي الله عنه) وملاحقتهم، فألقوا القبض على بلال الحبشي، مؤذن النبي، وألقوه على ظهره عارياً فوق رمال الصحراء الحامية، ووضعوا حجراً ثقيلاً على بطنه قائلين له: لاتزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللاّت والعزّى.

كذلك ألقوا القبض على ياسر وزوجته وانبهما عمّار، وراحوا يعذبونهم حتى يردّوهم عن دينهم، دون جدوى.

واحتمل النبي(صلى الله عليه وآله) كل ذلك بالصبر، واحتسبه عند الله، وكان صلوات الله عليه يقول: ((ماأوذي نبي مثل ماأوذيت)) ويأمر أصحابه بالصبر والثبات، حتى يأتي الله بأمره ويقول لهم: ((قد كان من قبلكم لتمشط بأمشاط الحديد مادون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه... وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما يخاف إلا الله عزوجل)).

 

الهجرة إلى الحبشة ثانية

ولما زادت مضايقات قريش للنبي وأتباعه، رأى النبي(صلى الله عليه وآله) أن يأذن لبعض أتباعه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وظلوا هناك ثلاثة أشهر، عادوا بعدها إلى مكّة، ولكن المشركين كانوا لهم بالمرصاد، فعاودوا ملاحقتهم، وآذوهم أشد الإيذاء، فأمرهم بالهجرة مجدداً إلى الحبشة، وكانوا هذه المرّة ثمانين رجلاً يتقدمهم جعفر بن أبي طالب، وثماني عشرة امرأة تتقدمهن أسماء زوج جعفر، فلما وصلوا إلى الحبشة، استقبلهم ملكها النجاشي النصراني وأحسن معاملتهم.

وحاول القرشيون استرجاع المهاجرين، إمعاناً في التضييق عليهم فأرسلوا إلى النجاشي مبعوثين هما عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، وحمّلوهما الهدايا، فاستدعى النجاشي المهاجرين فجاؤوا وجاء معهم جعفر بن أبي طالب، فقال للنجاشي: أيها الملك، كنّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار... فبعث الله فينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله... وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار.. فصدّقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا، ليردونا إلى عبادة الأصنام، واستحلال الخبائث.. فلما قهرونا وظلمونا، خرجنا إلى بلادك... ورجونا ألاّ نظلم عندك.

فلما سمع النجاشي قول جعفر هذا، التفت إلى عمرو وعمارة وقال لهما: هذا والذي جاء به عيسى ابن مريم يخرج من مشكاة واحدة..

وشعر عمرو وعمارة بالخيبة والهزيمة، فحاولا إثارة فتنة طائفية بين المسلمين والنجاشي، فقالا: إنّ هؤلاء يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد لإلههم.. فسأل النجاشي المسلمين عن هذا الأمر، فأجابه جعفر بن أبي طالب: (ما نقول فيه إلا الذي جاء به نبينا، من أنه عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول). فما كان من النجاشي إلا أن طرد عمراً وعمارة وأبقى المسلمين في بلاده.

 

حصار المشركين للنبي وبني هاشم

حين فشلت قريش في التضييق على أتباع حبيب الله محمد(صلى الله عليه وآله) من المسلمين، وبعد طرد النجاشي لمبعوثيها عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، صبّت حقدها على المسلمين في مكّة، واتخذ كبار المشركين، فيما بينهم قراراً يقضي بمقاطعة بني هاشم، ومحاصرتهم في شعب أبي طالب، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في الكعبة، ونصّت على عدم مبايعة بني هاشم أو الزواج منهم أو تزويجهم، وطالبوهم بتسليم النبي محمد(صلى الله عليه وآله) يساندهم في ذلك عمه أبو لهب.

ورفض أبو طالب عم النبي وحاميه أن يسلّم لهم ابن أخيه، وأمر بحراسته، فبقي بنو هاشم وحبيب الله محمد معهم في الضيق والعذاب ثلاثة أعوام، شاء الله تعالى أن يمتحنهم بها، حيث أرسل بعدها أرضة أكلت الصحيفة ولم تبق منها غير عبارة: باسمك اللهم.

وأوحى الله سبحانه إلى حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) ينبئه بالأمر، فأخبر النبي عمه أبا طالب، فأخبر أبو طالب قريشاً بأمر الصحيفة، فدبّ النزاع بينهم، ولم ينته إلا بفك الحصار عن بني هاشم.

 

النبي (صلى الله عليه وآله) في الطائف

توفي أبو طالب (رضي الله عنه) وبعده بأيام توفيت خديجة زوجة الرسول ففقد حبيب الله بفقدهما سندين قويين لرسالته، فسمّى ذلك العام عام الحزن، واغتنم المشركون الفرصة فزادوا من إيذائهم للنبي، فذهب النبي ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف، لعله يجد فيها مجالاً لنشر الدين الجديد.

وفي الطائف التقى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالزعماء وأصحاب النفوذ فلم يجد منهم إلا كما وجد من زعماء قريش، بل أكثر، فقد سبّوا حبيب الله، وشتموه، وسلّطوا عليه الصبيان يرشقونه بالحجارة، حتى أدموا رجليه وشجّوا رأسه الشريف، وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: (( إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي)).

ورجع النبي(صلى الله عليه وآله) إلى مكّة، وراح يلتقي وفود القبائل التي كانت تأتي للحج، ويعرض عليهم الإسلام، ويتلو عليهم من القرآن الكريم، فيسلم بعضهم ويعودون إلى يثرب يدعون إقاربهم وأصحابهم إلى الإسلام، حتى انتشر الدين الجديد في قومهم، فجاؤوا في العام التالي وبايعوا النبي في العقبة.

وأسرى الله بحبيبه محمد(صلى الله عليه وآله) ليلاً من المسجد الحرام في مكّة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف، وعاد النبي صباحاً يحدث بما رآه أثناء رحلة الإسراء، واجتمع المشركون عليه يسألونه أن يصف لهم المسجد الأقصى، فيصفه لهم وصفاً دقيقاً. ثم إنه أخبرهم عن قافلة سوف تصل إليهم عند طلوع شمس اليوم التالي.

وتحقق ما أنبأ به الرسول الكريم، ولكن المشركين جحدوا، وأصروا على مضايقاتهم للمسلمين، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) أصحابه بالهجرة إلى يثرب التي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

 

الهجرة إلى يثرب

عرف المشركون بهجرة أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) إلى يثرب، فتآمروا ليقتلوا النبي(صلى الله عليه وآله) ليلاً، وأنبأ الله حبيبه بما يبيّته المشركون، فأمر(صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بالمبيت في فراشه، لإيهام المشركين بأن النبي باقٍ في مكّة، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه خرج ليلاً يرافقه أبو بكر، قاصدين يثرب، وفي الطريق لجأ إلى غارٍ أمر الله سبحانه العنكبوت أن تنسج خيوها على بابه، وأرسل حمامة باضت على تلك الخيوط، حتى بدا الغار وكأنه مهجور منذ زمن بعيد.

وعند الصباح، وبعد ما أفشل الله خطّة المشركين لقتل حبيبه محمد، وعلموا بخروجه من مكّة، لاحقوه إلى خارجها، ولكنهم لم يعثروا له على أثر، حتى وقفوا على باب الغار متحيرين لا يعرفون في أي جهة يبحثون، والنبي(صلى الله عليه وآله) وأبو بكر في الغار، وقد تسرب الخوف والحزن إلى قلب أبي بكر، فقال له النبي(صلى الله عليه وآله): ((لاتحزن إن الله معنا)).

ووصل رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى قبا بالقرب من يثرب، وانتظر قدوم علي بن أبي طالب مع بعض النسوة، وفيهن الزهراء بضعة الرسول(صلى الله عليه وآله)، ودخل الجميع المدينة (يثرب) وهناك بنى النبي مسجده المبارك، وخصّص أمكنة لسكن أصحابه، وآخى بينهم وبين الأنصار، وأشاع مفهوم الأخوة في الله، بقوله (صلى الله عليه وآله): (( إنَّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء... أنتم بنو آدم وآدم من تراب )).

واتخذ النبي(صلى الله عليه وآله) ابن عمه عليّ بن أبي طالب أخاً له قائلاً: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة)) وراح (صلى الله عليه وآله) يمارس في المسجد العبادة والاجتماع وإدارة شؤون الأمّة والفصل في الخصومات، ووضع الخطط العسكرية، والتعليم وغيرها من الأمور.

 

معارك النبي وغزواته :

معركة بدر

كان اليهود يعيشون في المدينة فهادنهم النبي(صلى الله عليه وآله) حتى يتفرّغ لبناء دولة الإسلام، ونشر الدين الجديد، وفي السنة الثانية للهجرة المباركة، وبعد أن وطّد رسول الله(صلى الله عليه وآله) أركان الدولة، سعى لمحاربة المشركين، فالتقاهم عند بئر بدر حيث دارت بينه، وبينهم معركة بدر الكبرى التي استغاث خلالها المسلمون بربهم، فأغاثهم كما حكى ذلك القرآن الكريم: ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ).

وخسر المشركون أيما خسارة، ومرّغ المسلمون أنف قريش بوحل الهزيمة.

 

معركة أُحد

شعر اليهود والمنافقون بأن المسلمين ازدادوا قوّة بعد انتصارهم في بدر، فأخذوا يتحرشون بهم في المدينة، وقد خافوا على سلطانهم وزعاماتهم. ولما ازدادت تحرشاتهم، حذّرهم النبي(صلى الله عليه وآله) فاستكبروا، مما اضطر الرسول الكريم لمحاربتهم وإخراجهم من المدينة.

أما قريش فلم تتعظ من معركة بدر، فأخذت تعد العدة لمعركة جديدة، فأمر النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه بالخروج إليهم، ودارت بينهم وبين المسلمين معركة في جبل أُحد بالقرب من المدينة، أدّت إلى هزيمة المسلمين وإضعافهم، وتشجيع الأعداء عليهم، وأفسح في المجال لليهود؛ لحيك مؤامراتهم ودسائسهم.

فقد خرج زعماء اليهود إلى مكّة، وحرّضوا المشركين على قتال المسلمين، وراحوا يقولون للمشركين: ( دينكم خير من دين محمد، وأنتم أولى بالحق)؛ فأنزل الله فيهم: ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا).

 

معركة الأحزاب (الخندق) وصلح الحديبية

واصل اليهود تأليب قبائل العرب على النبي، والمسلمين فأقنعوا بني فزارة، وأشجع، ومرّة، وبني سعد، وبني أسد وغيرهم، بمحاربة النبي وأصحابه، فاجتمع عشرة آلاف منهم تحت راية أبي سفيان...

علم النبي(صلى الله عليه وآله) بالأمر، فتشاور مع أصحابه، فأشار سلمان الفارسي قائلاً: ( إنا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا)، فاستصوب النبي رأي سلمان وبادر مع أصحابه إلى حفر خندق على عجل، حتى أنجزوه في ستة أيام، وعسكروا على مقربة منه، وعسكرت الأحزاب من المشركين واليهود في الجهة المقابلة، دون أن يجرؤوا على اقتحامه.

وطال الحصار، فبدأ السأم والملل يتسربان إلى نفوس المشركين، وأرادوا العودة إلى مكّة، فعرف اليهود بذلك، فتوجه زعيمهم حيي بن أخطب إلى يهود بني قريظة في المدينة، وأقنعهم بأن ينقضوا ما كانوا عاهدوا النبي عليه، ويدخلوا الحرب ضده مع المشركين.

عرف الرسول(صلى الله عليه وآله) بالأمر فأرسل وفداً من المسلمين ليتأكد منه، ولكن اليهود أساؤوا الأدب مع الوفد، وراحوا يشتمون النبي ودينه،... واستبدّ الفزع بالمسلمين: ( واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر)، وبدأ هجوم الأحزاب، فعبر عمرو بن عبد ود العامري الخندق مع نفر من المشركين، فتصدى له علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأرداه قتيلاً، وبعد مقتل عمرو تطور سير المعركة، وامتنع اليهود عن مساعدة المشركين خوفاً وهلعاً، فاستولى الرعب على المشركين وولوا الأدبار هاربين.

إنتصر المسلمون، ولم تعد قريش تفكر بمهاجمتهم، وظلَّ اليهود يتحينون الفرص للغدر، وطعن المسلمين من الخلف، فما كان من النبي إلا أن حاصر بني قريظة، وقضى عليهم بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، ثم إنه (صلى الله عليه وآله) عقد مع قريش صلح الحديبية لمدة عشر سنوات، ليتفرد بيهود خيبر الذين كانوا يعدون العدة للإنقضاض على المسلمين وهكذا تمّ للنبي (صلى الله عليه وآله) ما أراد من القضاء على اليهود، وضمان حرية المسلمين في الحج إلى بيت الله في مكّة.

 

فتح مكّة

إستتبّ الأمر لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فبدأ بمكاتبة ملوك الدول المجاورة، فكتب إلى قيصر ملك الروم، وكسرى ملك فارس، وزعيم الأقباط بمصر وإلى النجاشي ملك الحبشة، والحارث الغساني ملك دمشق وإلى ملك صنعاء، وملك عُمان وملك البحرين، وغيرهم، فمنهم مَن استجاب لدعوة الله ورسوله إلى الإسلام كالنجاشي ملك الحبشة، وملك البحرين وملك اليمن، ومنهم من رفضها علواً واستكباراً، كملك الروم وملك الفرس وملك دمشق.

وبعد انتشار الإسلام بين العرب وغيرهم، اعتدت قبيلة محالفة لقريش على قبيلة محالفة للنبي(صلى الله عليه وآله) فقرّر النبي مقاتلة القرشيين فاستولت المخاوف عليهم، وأرسلوا أبا سفيان لتدارك الأمر، وتقوية العهد مع المسلمين، فلم تفلح جهود أبي سفيان، وعاد يجرجر أذيال الخيبة والخسران.

وأرسلت قريش عمّ النبي(صلى الله عليه وآله) العبّاس بن عبد المطلب، ليستطلع الأمر، وكان العبّاس (رضي الله عنه) يبطن الإسلام ويتظاهر بالكفر، فعاد إليهم قائلاً لهم: هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فقال أبو سفيان: فما ترى؟ قال: تطلبون الأمان من محمد.

قدم أبو سفيان ثانية ومعه العبّاس على النبي(صلى الله عليه وآله) يطلبان الأمان لقريش، فعرض عليهما الإقرار بأن: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلم يكن أمام أبي سفيان إلا الإقرار.

وأعلن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أماناً عاماً لأهل مكّة: ((مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن))، ثم إنه (صلى الله عليه وآله) دخل مكّة ووقف على باب الكعبة قائلاً: ((لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده... يا معشر قريش، ماذا تظنّون أني فاعل بكم))؟ قالوا: خيراً... أخٌ كريم وابن أخٍ كريم! فقال(صلى الله عليه وآله):(( أقول كما قال أخي يوسف: (لاتثريب عليكم اليوم يغفر لكم وهو أرحم الراحمين) إذهبوا فأنتم الطلقاء)).

وهكذا فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكّة، وبادر إلى تكسير الأصنام وهو يتلو قوله تعالى:

( جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا).

 

معركة حنين

بلغت أصداء نصر المسلمين في مكّة قبيلة هوازن، وعلموا أن النبي(صلى الله عليه وآله) سيتوجه لفتح الطائف، فنظّم زعيمهم جيشاً كبيراً لصدّ المسلمين، واتخذوا مواقع لهم على قمم جبال حنين، وعند مضيق الوادي، وفاجأوا النبي وجيشه بالنبال، فاستولى الرعب على قلوب الكثيرين من المسلمين ففروا راجعين، ولم يبقَ مع النبي إلا عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، والعباس بن عبد المطلب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، ونفر من بني هاشم.

وتحول النبي وأصحابه إلى الهجوم، وقاتلوا ببسالة نادرة، وثقةٍ بنصر الله لا تتزعزع، فانهزم بنو هوازن، ودخل النبي ومن بقي معه الطائف، حيث أعلن زعيم هوازن مالك بن عوف إسلامه، وتتابعت جموع هوازن لاعتناق الإسلام، فردّ النبي عليهم أموالهم وأطلق أسراهم، ثم إنه(صلى الله عليه وآله) واصل مسيره إلى مكّة حيث قضى فيها عمرته وعاد إلى المدينة المنورة.

وإغتنم الروم فرصة انشغال النبي والمسلمين في المعارك الداخلية؛ فراحوا يجهّزون الجيوش لغزو الأجزاء الشمالية من الجزيرة العربية، فما كان من النبي(صلى الله عليه وآله) إلا أن استنفر المسلمين، وسار بنفسه على رأس جيش لقتال الروم، فما أن وصل إلى تبوك على الحدود الإسلامية الرومانية حتى هربت جموع الروم وولّوا إلى داخل بلادهم.

وعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى مدينته المباركة، فأنزل الله سبحانه عليه سورة التوبة، يفضح فيها المنافقين والمتواطئين معهم، ويكشف خططهم للنيل من الإسلام والمسلمين، فأمر النبي(صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) بتبليغها في مكّة، ثم إنّه (صلى الله عليه وآله) أمر بإحراق مسجد الضرار الذي كان المنافقون قد بنوه قاعدة للنفاق، وبذلك طويت آخر صفحة للشرك في مكّة المكرّمة في تلك الأيام.

 

إلى الرفيق الأعلى

حلَّ موسم الحج من السنة العاشرة للهجرة المباركة، فدعا خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) الناس إلى الحج، وسار بهم قاصداً حجَّ بيت الله الحرام، وبعد أن أدّوا مناسكهم وتوجهوا إلى عرفة، وقف حبيب الله فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: (( أما بعد أيها الناس... لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا... إنّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد... أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئٍ مال أخيه إلا عن طيب خاطر، فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب)).

وفي طريق العودة إلى المدينة نزل الوحي على رسول الله(صلى الله عليه وآله): ( يا أيها النبي بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته)، فاستوقف النبي الناس عند غدير خم ووقف على أعواد نصبت له، بحيث يراه جميع الحاضرين، وأخذ بيد علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(( أيها الناس، يوشك أن أدعى فأجيب... أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين... فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيفما دار...))، فقال عمر بن الخطاب: (بخٍ بخٍ لك ياعلي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة).

وعاد خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، وراح يجهّز الجيوش للفتح، ولكن المرض داهمه، واشتدّ عليه، ولم يلبث أن انتقل إلى جوار بارئه، ودفن في الحجرة التي توفي فيها.

وهكذا خسرت الإنسانية بوفاة حبيب الله، شخصيَّةً ملأت الدنيا نوراً وعطاءً، فسلام على خاتم الأنبياء حبيب الله محمد وعلى آله الطاهرين،

والحمد لله رب العالمين.