شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

ماذا فقدنا بعد الرسول صلى الله عليه وآله..؟

0 المشاركات 00.0 / 5

بين التراث والتاريخ

عن موقع أربعة عشر معصوم(عليهم السلام)

هناك فرق بيّن، بين التاريخ والتراث

التاريخ: ذاكرة الأمس، وحركة سائرة إلى الإمام لا تتوقف، ولا تتكرر أحداثها وإن بدت متشابهة في بعض أو أكثر ظواهرها، لذلك من الخطأ القول أن التاريخ يعيد نفسه، بل الصحيح أن نقول أن الأحداث والوقائع تتشابه في أطرها العامة، وبعض فروعها بنسب متفاوتة، وربما تتطابق في بعض الأحايين، ولكن يبقى منفذوها وصانعوها وأبطالها مختلفين..

ونستطيع أن نمثل لذلك بالأحداث التي جرت لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ولأمير المؤمنين(عليه السلام) عند توقيع وثيقة الصلح مع قريش (صلح الحديبية) وعقد الهدنة مع معاوية (بعد وقعة صفين)، وكيف أن قريشاً، ومعاوية أصرا على كتابة اسمي الرسول والإمام صلوات الله عليهم مجرداً عن الرسالة والإمامة، فالأحداث في مفصلها هذا تحديداً وإن بدت متشابهة إلى درجة التطابق، إلا أن مكانها وأطرافها تبقى مختلفة.

والتراث: هو محصلة مجموع العقائد، والعلوم، والقيم، والآداب، والتقاليد، والفنون التي تراكمت في ذاكرة التاريخ. وهو أيضاً محصلة جهود الماضين وإبداعاتهم، وأدوار العظماء وصياغاتهم، فإليهم يعود بناء مجد الأمة وتاريخها وعزّها، وعلى سيرتهم يأمل ترميم كيانها، فالبطل هو الذي يصنع تاريخ أمته، وهو الذي يسيطر على أكبر مساحة واقعية في ذاكرتها.

وإذا أريد لهذه الأمة أن تحصل على موضع قدم في عالم تتحكم في عمالقة، وتكتلات، فلا مفرّ إلا بالعودة إلى السيرة العطرة لرسول الإنسانية محمد(صلى الله عليه وآله) والتراث العظيم الذي تركه لنا والذي ينسجم مع نواميس الكون إلى قيام الساعة، فهو الوحيد الذي يمدنا بعناصر القوّة، ويرسم لنا الصورة المستقبلية لأمة الغد.

وإذا نظرنا إلى الحقبة آنفة الذكر ـ تحديداً ـ نظرة موضوعية، وحددنا مفاصلها الحية، وجوانبها المضيئة، وأخذنا بها وسرنا على نهجها لأمكننا ترميم الكثير من تداعياتنا، وعلاج العديد من عللنا.

ربما نختلف في نظرتنا للحكومات التي جاءت بعد حكومة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ولكننا نتفق على أن حكومة الرسول(صلى الله عليه وآله) هي المثال الذي لا يرقى إليه الشك، والمعيار الأول عند الحكم على الأشياء والنظائر، فالاقتداء يجب أن يقف عند حدود هذه الحقبة وإطارها التاريخي، ولا يتعداها إلى حدود مختلف عليها، كما أن أي استهانة بهذه السيرة، والسنّة لا يزيد وضعنا إلا سوءاً، ويضعنا أمام خيار الالتجاء إلى تقليد آخرين لا يمتّون إلى وقعنا الإسلامي بصلة قريبة أو بعيدة.

 

دعوة لإحياء الذاكرة أولا

كمرحلة أولى نحن بأمسّ الحاجة إلى تنشيط الذاكرة، وتخزينها بأكبر كميّة من المعلومات والأحداث وخصوصاً تلك التي ترتبط بواقع امتنا وتنمي فيها روح التحمل والمثابرة لتحقيق أهدافها.

فالغالبية ما زالت تجهل ابسط المعلومات عن رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله) ، وحتى الذين يفتخرون بأنهم يحيطون بكل الجوانب التي عاشها النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) كثيراً ما يبالغون فيما يحملون، ولو دققنا جيداً في جعبهم لرأيناها تحوي معلومات ضحلة أو محرفة صاغتها بعض الجهات الدخيلة والمريضة لتشويه الصورة النقية لنبي الإسلام محمد(صلى الله عليه وآله) .

فهذه مناهج مدارسنا، وجامعاتنا، وعقول رجال إعلامنا، وخطبائنا لو فتّشنا مخزونها، وتجولنا في ذاكرتها بتأنّي لما وجدنا فيها غير زوايا ضيقة جداً متناثرة هنا وهناك، لا تفتح إلا في مناسبات خاصة وخاطفة. في حين أننا لو بحثنا عن هوامش الأشياء، وطفيلياتها في ذاكرة عموم الأمة؛ لأمكننا الحصول على سيل عظيم من المعلومات، وبعض هذه المعلومات ساعدت بصورة أو بأخرى على عزل تاريخ الأمة الناصع في زوايا النسيان، وقلّبت الحقائق واخفت العديد من المعلومات الحيوية.

لذا يجدر بنا أولاً وقبل كل شيء تفتيت كتل المعلومات السلبية، والهامشية وإحياء ذاكرتنا، وتنشيطها بمعلومات إضافية دقيقة..

 

ودعوة للإقتداء ثانياً:

لا شك أن المعلومات جيدة إن هي صبت في اتجاه العمل والسلوك الحياتي، فالحق تعالى يقول: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) الأحزاب، 21، وفي آية أخرى يقول سبحانه عن لسان النبي(صلى الله عليه وآله) : ( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران 31، وإلا نكون كالذي يحمل أسفاراً وهو لا يعمل بها، أو ذلك الذي يحفظ القرآن ويتلوه بدون وعي، أو تدبّر واتباع؛ فيلعنه الله والتاريخ، ((رب تال للقرآن والقرآن يلعنه))(1).

المطلوب منّا جميعاً تلمس الضوء في حياة النبي(صلى الله عليه وآله)؛ لنقف عندها طويلاً قبل استنباط الأحكام، واتخاذ المواقف، فكل وقفه في حياته(صلى الله عليه وآله) فيها من العبر، والدروس الشيء الكثير، ولا يمكن تخطيها بسهولة، والعبور من حولها أو تركها جانباً ــ بحجة فيها ما يخالف أذواقنا وطموحاتنا ــ أنها سلسلة مترابطة تكمل بعضها البعض، إنها منهاج حياة علينا اقتناء أثرها، والتأسي بها، واتباعها خطوة خطوة دون التفريط بجزئياتها.

فالكثير من الجزئيات هي في الحقيقة قواعد ثابتة، وسنن خالدة، ترسم لنا طرق العمل، ومناهج التحرك على مختلف الصعد، فليس سنّة النبي(صلى الله عليه وآله) منحصرة في طريقته في الحياة الفردية والاجتماعية، أو أسلوبه في نظام الحكم فقط ، وإنما السنّة تشمل كل حركة وسكنة وهمسة، بل وحتى نظرات عينيه(صلى الله عليه وآله) وإشارات حاجبيه، وقصّته(صلى الله عليه وآله) مع عبد الله بن سعد درس عملي لكل القادة، وذلك عندما دخل عليه عبد الله بن سعد مع عثمان بن عفان وكان النبي قد أهدر دم عبد الله، فقال النبي لمن حوله:(( لماذا لم يقم بعضكم فيضرب عنقه))، فقال له رجل من الأنصار: فهلاّ أومأت يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله): ((إن النبي لا يقتل بالإشارة))(2) من عينيه أو حاجبيه، فخائنة الأعين محرمة على الأنبياء.

 

ما الذي نريده من السيرة؟

تحفل السيرة النبوية بصور رائعة، ومواقف جمّة في شتّى الجوانب الحيوية الشخصية والاجتماعية لنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله)، فما يتعلق بتكوينه الذاتي يتحدد في الأربعين سنة الأولى من حياته، وهي الأرضية التي منحته صفاته الخَلقية والخُلقية، وهيئاته لتحمل أعباء المسؤولية بجدارة وتفوّق، ونحن هنا لا نريد الخوض في هذا الفاصل الزمني مع سعته وتشعّبه، غير أن الذي يهمنا أكثر ونحن نمرّ في ظروف غير طبيعية، الفترة التي تعرف (بعد البعثة) لما تحتوي من دروس، وعبر لكل العاملين في الحكم، وخارجه أفراداً وجماعات.

وهذه تنقسم إلى قسمين قبل فتح مكة وبعدها، أو ما يعرف بفترة الجهاد التأسيسي، ومعارضة قريش، وفترة تسلّمه(صلى الله عليه وآله) قيادة الأمّة، وسوف نسلّط الأضواء على هذين المحورين بشيء من التفصيل.

 

النبي قبل فتح مكة

منذ أن جهر رسول الله(صلى الله عليه وآله) برسالته، وقريش وحلفاؤها أعلنت ضدّه حرباً لا هوادة فيها استعملت فيها جميع العيارات والأساليب والحيل والطرق.

تارة بالكلام: فقالوا عنه، شاعر ساحر، مجنون، ولعل كلمة ساحر أكثر الألفاظ التي راجت عند عموم قريش حيث جاءت بعد أن استمع الوليد بن المغيرة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يتلو القرآن، فقالوا له: ما تقول يا أبا عبد شمس، فقال: قولوا هذا سحر، وإلى هذا الحدث أشارت الآيات 11-28 من سورة المدثر فقالت عنه: ( فقال إن هذا إلا سحر يؤثر) .

وتارة بالإغراء: حيث عرضوا عليه مالاً وفيراً، وامتيازات عديدة مقابل تركه أمر تبليغ الرسالة، ووسطّوا في ذلك بدايةً عتبة بن ربيعة واتبعوه بعمّه (أبو طالب(عليه السلام) ) ولم يتركوا رسول الله حتى سمعوا قولته المشهورة التي نقلها لهم أبو طالب ((...يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه، أو أُقتل دونه...))(3).

وتارة بالاضطهاد: فقد استعملوا ضدّه شتّى ألوان الاضطهاد

رجموا بيته بالحجارة.

ألقوا رحم الشاة المذبوحة للأصنام عليه.

ألقوا النجاسات أمام داره.

وضعوا الشوك في طريقه.

ألقوا التراب على رأسه.

ضربوه وخنقوه أكثر من مرّة.

سلطوا الصبيان عليه يرمونه بالحجارة(4).

وتارة بالمقاطعة: فبعد أن أخفقت في أساليبها السالفة، أعلنت قريش مقاطعتها للنبي(صلى الله عليه وآله) وأصحابه، فكتبت صحيفة علقت داخل الكعبة تضمنت بنود مقاطعة بني هاشم جميعاً، وحصرتهم في شعب أبي طالب، وتجردت عن إنسانيتها فمنعت عنهم الطعام، وجرّاء هذه الشدّة، والقسوة توفي أبو طالب، وخديجة فعرف ذلك العام بعام الحزن.

ومع كل ذلك كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثابتاً على إيمانه، صابراً على الأذى يردّ الإساءة بالإحسان ((اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون)).

ينقل منيب بن مدرك بن منيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الجاهلية وهو يقول:(( يا أيها الناس! قولوا لا اله إلا الله تفلحوا)).

فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثى عليه التراب، ومنهم من سبّه، فأقبلت جارية بعس من ماء فغسل وجهه ويديه وقال:(( يا بنية! أصبري ولا تحزني على أبيك غلبة ولا ذُلّاً)). فقلت من هذه؟ فقالوا: زينب بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهي جارية وضيئه(5).

وعن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))(6).

وربما قوله(صلى الله عليه وآله) ((ما أوذي نبي بمثل ما أُوذيت))(7) لا يستثني أي أسلوب مورس ضده، كما أن كلامه(صلى الله عليه وآله) إلى الخبّاب بن الأرت عندما طلب منه أن يدعو على قومه فقال له: ((قد كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عزّ وجلّ، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))(8) يظهر قوة واستعداد النبي(صلى الله عليه وآله) لتحمل الأذى، والصبر على الناس، وطول البال، وضبط النفس وهي أمور فقدتها ساحاتنا الخاصة والعامة ولم تعد منظوره، أو مسموعة من أي جهة معارضة أو حاكمة.

 

أخلاقيات القيادة وفتح مكة

السيرة التي عهدناها عن أغلب القادة، والزعماء أنهم عندما يصلون للسيادة، والقيادة يفتكون أولاً برجالات العهد السابق، وثانياً يعمدون على غلق جميع النوافذ التي يمكن أن تتنفّس منها الأطراف المخالفة والمعارضة، ولكن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو المسدّد من قبل السماء، والمتقدم نحو مكة بجيش عظيم ماذا تراه فاعلاً بأقطاب الشرك والكفر؟ أيقتلهم ليكونوا عبرة لغيرهم، ويُسكت الأصوات المعارضة؟

لقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) حريصاً على أن لا تراق قطرة دم واحدة يومئذ، حتّى أنه خلع سعد بن عبادة من قيادة إحدى الفرق، لأنه توعد قريشاً(9). وطمأنهم بأن قال:(( من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن)). وقال لبعضهم:

(( ما تظنون؟ وما أنتم قائلون؟)) أي ماذا أفعل بكم بعد أن فتحت مكة؟

فقال سهيل بن عمرو ـ نيابة عن الجمع ـ نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن عمّ.

فقال(صلى الله عليه وآله) :(( فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف(عليه السلام) : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين.. اذهبوا فأنتم الطلقاء))(10).

هذه أخلاق القيادة التي غابت، وغيبت، ولم نرَ وجوداً لها اليوم إلا في كتب التاريخ، وتحديداً في هذه السيرة العطرة وسيرة خليفته أمير المؤمنين(عليه السلام) .

 

من أخلاقيات القيادة

1ـ التواضع: يقول ابن عباس (رض): (كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويحلب الشاة، ويجيب دعوة الحر والعبد، ولو على ذراع أو كراع)(11).

وعن أبي ذر (رض) (قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى النبي(صلى الله عليه وآله) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكاناً (دكة) من طين فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبيه)(12).

2ـ الزهد: كان(صلى الله عليه وآله) ينام على حصير ليس تحته شيء غيره، وكان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته ويجلس مع العبد، ويركب على الحمار، ويردفه ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع.

لقد اختار النبي(صلى الله عليه وآله) لنفسه معيشة الزهد والكفاف، لا عجزاً عن حياة الراحة والرفاهية، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت مغانمها حتى اغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد، ومع ذلك فقد كان الشهر يمضي، ولا توقد في بيته نار مع جوده وتصدّقه على الفقراء والمحتاجين والمحرومين بالهبات والهدايا، ولكن ذلك كان اختياراً للاستعلاء على متاع الدنيا الزائل، ورغبة خالصة فيما عند الله، رغبة الذي يملك ولكنه يزهد..

يقول ابن عباس: دخل عمر على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال: يا نبيّ الله لو اتخذت فراشاً! فقال(صلى الله عليه وآله) : ((مالي وللدنيا، وما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها))(13).

3ـ الرأفة والرحمة: كان(صلى الله عليه وآله) مثال الرحمة والرأفة، رفيق القلب، عطوف، لا يستطيع تحمل سماع بكاء طفل يبكي، فقد نقل عنه(صلى الله عليه وآله) أنه كان يصلّي فسمع بكاء صبي، فخفف صلاته لتعود إليه أمه، وعندما قيل له لماذا خففت صلاتك اليوم يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله) : ((إني سمعت بكاء صبي، فخشيت أن يفتن أمه))(14).

4ـ الحلم والعفو: عملية شاقة وصعبة ولا تتاح إلا لأولئك الذين مارسوا قدراً عظيماً من الرياضة النفسية، وضبط النفس، والضغط على المشاعر، والانفعالات الذاتية. ورسول الله(صلى الله عليه وآله) كان الرائد في هذا المضمار يقول عنه أنس بن مالك: (إن النبي(صلى الله عليه وآله) أدركه أعرابي فأخذ برداءه فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبة.

ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) فضحك وأمر له بعطاء)(15).

وفي غزوة (ذي أمر) عندما أصاب المطر ثوب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ونزعه وألقاه على الشجرة ليجف وكان بعيداً عن أصحابه، جاءه دعثور بن الحارث، وقام على رأسه بالسيف مشهوراً وقال: من ينجيك مني يا محمد؟، قال(صلى الله عليه وآله) :(( الله))! فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقام على رأسه فقال:(( من يمنعك مني))؟، قال جودك وكرمك! فتركه وقام وهو يقول: والله لأنت خير مني وأكرم(16).

وباختصار يقول عبيد بن عمير: بلغني أن رسول الله ما أُتي في غير حدٍّ إلا عفا عنه(17).

5ـ معايشة الناس: يلخص لنا الإمام الحسين(عليه السلام) ارتباط رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالمجتمع وتعامله الرفيع مع كل فئاته وأصنافه فيقول: ((سألت أبي عن مدخل رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: إذا آوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فيرد بذلك الخاصة على العامة، ولا يدّخر عنهم منه شيئاً، وكان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بأدبه، وقسّمه على قدر فضلهم في الدّين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني في حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته))(18).

6ـ الاستشارة: مع أن النبي(صلى الله عليه وآله) أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم نضجاً وتفكيراً، إلا أن ذلك لم يمنعه من مشاورة أصحابه، وأمر أصحابه بالاستشارة من أهل الخبرة، والدراية، والفضل، والمعرفة، فكان يريد من الأجيال اللاحقة أن تحذوا حذوه، وتتبع خطاه؛ لتشرك الآخر المخالف تحديداً عند صنع القرار وممارسته.

يقول أحد أصحابه: (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) )(19).

وجاء في كتاب الكافي: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا أراد الحرب دعا نساءه فاستشارهن(20).

7ـ التزام العدل: نقل ابن هشام في سيرته أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يعدّل صفوف أصحابه يوم بدر، وبيده قدح (سهماً) يعدل به القوم، فمرّ بسواد بن غزية وهو مستنتل (متقدم) من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال:

 ((استوِ يا سواد))؟!، فقال: يا رسول الله اوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن بطنه وقال:(( استقد))! فاعتنقه سواد فقبل بطنه، فقال:(( ما حملك على هذا يا سواد))؟ قال: حضر ما ترى (من الحرب) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك(21).

ذلكم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهذه بعض أخلاقه، وسجاياه التي طمستها الأيادي التي تحكمت على رقاب المسلمين، فنحن إنْ فقدنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) جسداً قبل حوالي 1400 عام فاليوم نفتقد تعاليمه وسننه، ولعل الذي أصاب ساحتنا الإسلامية الخاصة، والعامة في جميع الأصعدة، والمستويات؛ فقدانها الجانب الأخلاقي والقيمي، وسيطرة الدخيل الوارد على كل مقدراتها، وشعورها، وهذا ما يجب الالتفات إليه، وإبداله بتعاليمنا السامية.

فقد قال سبحانه: ( ولكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) .

الهوامش

ـــــــــــــــ

1 ـ سنن البيهقي، ج7، ص45.

2 ـ سنن النبي، ص56.

3 ـ سيرة ابن هشام، ج2، ص279.

4 ـ بحار الأنوار ج85، ص184.

5 ـ سيرة ابن هشام، ج4، ص52.

6 ـ مجمع البيان، ج8، ص465.

7 ـ السيرة الفوّاحة للإمام الشيرازي، ص20.

8 ـ ذلكم النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، ص177.

9 ـ نفس المصدر.

10 ـ بحار الأنوار، ج39، ص56.

11 ـ بحار الأنوار، ج18، ص210.

12 ـ أنظر السيرة الفوّاحة، ص48.

13 ـ السيرة الفوّاحة، عن البحار، ج21، ص132.

14 ـ السيرة الفوّاحة عن البحار، ج16، ص227.

15 ـ مكارم الأخلاق، ص16.

16 ـ المصدر نفسه، ص35.

17 ـ السيرة الفوّاحة، عن البحار، ج88، ص41.

18 ـ بحار الأنوار، ج16، ص230.

19 ـ بحار الأنوار، ج20، ص179، بتصرف.

20 ـ الطبقات الكبرى، ج1، ص368.

21 ـ السيرة الفوّاحة عن سنن النبي ص14.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية