الصوم.. من الطقوس إلى إشراقة الروح

 ليست هناك شعيرة من شعائر الأديان ألصق بالضمير الإنساني من شعيرة الصوم؛ لأن في وسعك أن توقف بعض الناس على صلاتك وزكاتك وحجك ونطقك بالشهادتين، ولكن كيف تثبت لواحد فقط من الناس أنك صائم؟
أجل إن في وسع معامل التحليل أن تثبت أنك بعيد عهد بطعام أو شراب أو جماع. ولكن كيف لهذه المعامل أن تثبت أنك قديم عهد بغش أو كذب أو غيبة أو نميمة أو رشوة، وكل تلك موبقات أخلاقية تفسد الصوم كما يفسده الطعام أو الشراب؟.

هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر"، إشارة تجمع بين الذكاء والشفافية، إلى أولئك الذين يضربون حول دنياهم إطارًا من الدين الشكلي فيفسدونها؛ لأن الدنيا تطلب بقوانينها، ويملئون دينهم بمحتوى دنيوي فيفسدونه، وتلحق بهذه الطائفة طائفة أخرى يريدون دنياهم بدينهم.
فإذا ما طاف بهم طائف من السوء فزعوا إلى الله بالأدعية والشعائر، حتى إذا ما انكشفت عنهم الغمة عاودوا دنياهم التي كانوا عليها. فالله ودينه في عرف هؤلاء ليس إلا "أداة" من أدوات الدنيا، والمنتمون إلى كلا الفريقين يخرجون صيامهم بأبدان قد أرهقها الصوم، وأرواح قد أجهدها الوزر، وعقول قد أثقلها التبلد أو مزقتها الحيرة،
فإذا هم أحق الناس بقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا   فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وبوحي من هذا نستطيع أن نفهم هذا الحديث القدسي الدال: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به".
صحيح أن كل عمل بن آدم له؛ لأنه إما أن يؤدى للآخر كالزكاة، أو يؤدى مع الآخر كالصلاة والحج، أو يمكن أن يؤدى أمام الآخر كالنطق بالشهادتين. أما في الصوم فإن الله جل شأنه هو الوحيد الذي تؤدى هذه الشعيرة له ومعه وأمامه.
وقوله: "وأنا أجزي به" إشارة إلى قصر خيال المتخيلين؛ لأنك لن تستطيع أن تتخيل شيئًا إلا وعطاء الله أكبر منه، خصوصًا إن وقر في قلبك أن العطاء على قدر المعطي. فيا لها من جوائز تلك التي قسمها الله بين الدنيا والآخرة؛ ليجعل الصائم بها في صفقة رابحة، حين يدفع قليلاً من الحرمان؛ ليصيب به ما لا حد له من العطاء.

 

ظل من ظلال الله

ويمكن أن أشير إلى نوعين من الجوائز، أحدهما تحصله في نفسك في الدنيا، والآخر في الآخرة. فأما الذي تحصله في نفسك في الدنيا، فهو شيء لا تستطيع أن تناله بحواسك ولا بعقلك.. أتدري ما ذلك الشيء؟
إنه تلك الومضة السماوية التي تتنزل على قلبك في لحظة غير منتظرة؛ لتملأ قلبك خشوعًا، وعينيك دموعًا، وروحك انتعاشًا، وبدنك ارتعاشًا، فإذا أنت أمام رحلة جديدة أنت فيها المسافر والطريق والبلد، أو ولادة جديدة أنت فيها الأم والألم والولد.
نعم، ومضة سماوية تتنزل على قلبك، فلا تكاد تبقي لك جنبًا تنام عليه، ولا ليلاً تسهره، بل تستعيرك من نفسك، وتردك إلى غيرك، فتذرك لا حيًّا صحيحًا، ولا ميتًا مستريحًا، فإذا أنت ظل من ظلال الله على الأرض، وإذا روح الله تتخلل حواسك، فلا تستطيع أن ترى الدنيا إلا بالله، وأنت أقدر أن تكون على أن ترى الله بمعزل عن الدنيا.
فإن طاب لك أن تقول إن الإيمان معنى من معاني العشق، فأنت من القريبين. وإن قلت إن العشق ثمرة من ثمرات الإيمان، فأنت يومئذ من الواصلين؟ نعم؛ لأنك لا بد أن تصدق قبل أن تحب، وهذا معنى قول سهل بن عبد الله التستري: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا".
ولك الآن أن تقول فما بال الصوم أحق بهذا من بقية الشعائر، وكلها طرق موصلة إلى الغاية نفسها؛ لأن مدار الصوم أساسًا على الحرمان. وما أجهل أولئك الذين يقولون لا أشعر في الصوم بالجوع أو العطش، فلو كان الصوم كالنوم لما امتاز مُجِد من كسول، ولا عُرِف مؤمن من مرتاب: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.