فاطمة الزهراءعليها السلام ذكرى وفاتها‏

وحينما زوّجها من عليٍّ عليه السلام قال لها: ((إنّي زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً)).

((فاطمة بضعة منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها)).

عن عائشة قالت: دعا النبيّ فاطمة ابنته في شكواه الذي قُبض فيها، فسارّها بشي‏ء فبكت، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت، قالت: فسألتها عن ذلك، فقالت: ((سارّني النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأخبرني: أنّه يقبض في وجعه الذي توفّي فيه، فبكيتُ، ثمّ سارّني فأخبرني: أنّي أوّل أهل بيته أتبعه، فضحكتُ)).

وفي رواية أُخرى عن عائشة: اجتمع نساء رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) عند رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فلم تغادر منهنّ امرأة، فجاءت فاطمة تمشي، ما تخطئ مشيتها مشية أبيها صلوات اللَّه عليه فقال: ((مرحباً يا بنتي، فأقعدها عن يمينه - أو عن شماله - فسارّها بشي‏ء فبكت، ثمّ سارّها بشي‏ء فضحكت، فقلت لها: خصّك رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) من بيننا بالسّرار فتبكين؟ فلمّا قام، قلت لها: أخبرني بما سارّك، فقالت: ما كنت لأفشي على رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) سرّه، فلمّا توفّي (صلى الله عليه وآله) قلت لها: أسألك بما لي عليك من حقّ لمّا أخبرتني، فقالت: أمّا الآن فنعم، قالت: سارّني فقال: إنّ جبرئيل‏ عليه السلام كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة، وإنّه عارضني العام مرّتين، ولا أرى ذلك إلّا عند اقتراب الأجل، فاتّقي اللَّه واصبري، فنعم السلف أنا لك، فبكيتُ، ثمّ سارّني فقال: أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين، أو قال: سيّدة نساء هذه الاُمّة؟)).

((فاطمة أحبّ إليّ منكَ، وأنت أعزّ عليَّ منها (قاله لعليٍ ‏عليه السلام)،)).

((فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني)).

((فاطمة بضعة منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها، وإنّ الأنساب تنقطع به يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري)).

((فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، إلّا مريم بنت عمران)).

 

موقفان: نور، ونار!:

بيت أذن اللَّه أن يرفع فيه اسمه، بيت عريق بالشرف والطهارة والعفّة، والسمعة الطيّبة والمكانة العالية، لطالما وقف على عتبته رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وهو ينادي: ((السلام عليكم أهل البيت))، ثمّ يقرأ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) هذا موقف لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، موقف إكبار لهم وتقدير وإظهار لأحقّيتهم ولفضلهم على من سواهم.

وموقف آخر للخليفة الثاني، أراد به أن يطفئ نور هذا البيت، وأن يؤذي أهله، ويغيضهم، وأضرم ناراً حوله، وكأنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) لم يوص بعدم أذيّتهم، وأنّ أذاهم أذى له وأنّ بغضهم بغضٌ له!

يقول أبو قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة: وإنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرّم اللَّه وجهه، فبعث إليهم عمر (وفي رواية أنّ عمر جاء إلى بيت فاطمة في رجالٍ من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين)، فجاء فناداهم وهم في دار عليٍّ، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجن أو لأحرقنّها على من فيها.

فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة؟!

فقال: وإن...

 

وهنا وقفت فاطمة رضي اللَّه عنها على بابها، فقالت: ((لا عهد لي بقوم حضروا أسوء محضر منكم، تركتم رسول اللَّه جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردوا لنا حقّاً)).

 

فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟

 

فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له: اِذهب فادع لي عليّاً.

 

فذهب إلى عليّ، فقال له: ((ما حاجتك؟

 

فقال: يدعوك خليفة رسول اللَّه.

 

فقال عليّ: لسريع ما كذبتم على رسول اللَّه)).

 

فرجع فأبلغ الرسالة.

 

قال: فبكى أبو بكر طويلاً.

 

فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة.

 

فقال أبو بكر لقنفذ: عد إليه، فقل له: خليفة رسول اللَّه(وفي نسخة أمير المؤمنين‏) يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ، فأدّى ما أُمر به، فرفع عليّ صوته فقال: ((سبحان اللَّه لقد ادّعى ما ليس له)).

 

فرجع قنفذ، فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلاً، ثمّ قام عمر، فمشى معه جماعة، حتّى أتوا باب فاطمة، فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: ((ياأبت يارسول اللَّه، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة!))

 

فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها، انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر. وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليّاً، فمضوا به إلى أبي بكر... وفي رواية سُليم بن قيس: ... ولمّا رأى منهم الامتناع (من عليّ ومعه جماعة) أضرم النار في الحطب (الذي جاء به عمر أو جاء بقبس من النار كما في العقد الفريد 2: 197، وهو شعلة نار مضرمة...) ودفع الباب وكانت ابنة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) خلفها... فركل الباب برجله وألصقها إلى الجدار... وقالت: ((لقد قتل ما في بطني من حمل....))

 

 

الزهراء ومسؤولياتها الشرعيّة:

 

لقد جسّدت فاطمة الزهراء ما تتحمّله من مسؤولية شرعيّة، فكانت أوّل امرأة - بعد وفاة أبيها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) - تواجه كلّ ما أحدثه الآخرون من مشاكل، واغتصاب حقوق، فرأت أنّ الذي لا يستطيع حفظ الحقوق، بل يتعدّى عليها، ليس جديراً بحفظ الأمانة العظمى والمسؤولية الكبرى، التي أناطتها السماء بأنبياء اللَّه تعالى والأئمّة الصالحين، فوقفت من هذا الانحراف موقفاً يتّسم بالمنطق والصلابة والحزم، وبالوعي لما يدور في ساحتها ولما ستؤول إليه الأحداث حتماً من نتائج وخيمة على المجتمع المسلم ونظامه وإدارته.

 

لهذا وانطلاقاً من مسؤوليتها تلك ووعيها لما يفعله هؤلاء بدءاً بتجاوزهم أحاديث رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ووصاياه المتعدّدة المتمثّل بمؤتمر السقيفة وما تمخّض من نتائج بحجج واهية، وإلحاقها بمنع الزهراء حقّها المتجسّد في فدك، التي كانت ملكاً لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وقصّتها باختصار أنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) لمّا فتح خيبر، قال لأهل (فدك): ((ما يأمنكم في هذا الحصن، أو أمضي إلى حصونكم فأفتحها؟!

 

قالوا: إنّها مقفلة ومفاتيحها محرزة.

 

فقال (صلى الله عليه وآله): لقد دفعت إليّ مفاتيحها ثمّ أخرجها إليهم.

 

ولمّا راجعوا من ائتمنوه عليها ولم يجدوا المفاتيح في السفط المحرزة فيه، عرفوا أنّ الأمر عظيم، فسألوه عمّن سلّمها إليه، قال (صلى الله عليه وآله): أعطانيها الذي أعطى الألواح لموسى بن عمران)).

 

فأسلم جماعة منهم، وخضع من لم يسلم لحكم النبيّ (صلى الله عليه وآله) على البقاء فيها وأخذ الخمس منهم، فكانت فدك خالصةً لرسول اللَّه؛ لأنّها لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب.

 

ولمّا نزلت آية: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) دعا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فاطمة، وقال لها: ((إنّ فدكاً لك ولعقبك من بعدك جزاء عمّا كان لاُمّك خديجة من الحقّ، وهذه فدك نحلة لك بذلك، وأمر أمير المؤمنين ‏(عليه السلام) أن يكتب لفاطمةعليها السلام بها، فكتب (‏عليه السلام) وشهد هو ومولى لرسول اللَّه وأُمّ أيمن كانوا حضوراً.

 

وهنا قالت فاطمة لأبيها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((لست أحدث فيها حدثاً ما دمتَ حيّاً، فأنت أولى بها ومن نفسي ومالي، وهنا عرّفها النبيّ (صلى الله عليه وآله) عواقب الاُمور، وقال: أكره أن أجعلها سبّة فيمنعوك إيّاها من بعدي)) فخضعت لأمره، وجمع الناس في منزله فأعلمهم بما نزل عليه من القرآن الحاكم بأنّ فدكاً لفاطمة، فكان وكيلها يجبي لها غلّتها البالغة كلّ سنة أربع وعشرين ألف دينار أو سبعين ألف دينار.

 

فكانت تقوم(عليها السلام) بتفريقها على الفقراء من بني هاشم والمهاجرين والأنصار حتّى لم يبقَ عندها ما يسع نفقة اليوم لها ولولدها، ولا بدع فيه بعد أن كانت بضعة من الرسول الأعظم، وشأنها هذا شأن أبيها وزوجها فقد وهبوا أنفسهم للَّه ولرعاية الناس وقضاء حوائجهم.

 

إذن هذه سيرتها (عليها السلام) في واردات فدك، وما كانت محاججتها للخليفة الأوّل مرّات إلّا لتعريف المسلمين وكشف المتسلّطين عليهم في تعدّيهم على حقّها من أبيها، وبالتالي تجرّدهم عن الجدارة في رعاية الاُمّة وحفظ حقوقها.

 

والهدف واضح جدّاً فهو هدف سياسي أرادوا إبعاد هذا المورد عن يد الزهراء وبالتالي عن عليّ‏ (عليه السلام) لينصرف عنه الناس.

 

 

المؤامرة!:

 

بإشارة من الخليفة الثاني بعد بيعة الأوّل بالخلافة أن يمنع عليّاً(عليه السلام) وأهل بيته الخمس والفي‏ء وفدكاً، فإنّ أتباعهم إذا علموا أنّ أيديهم خالية من فدك وغيرها، انفضّوا عنهم وأقبلوا إليك.

 

وهنا استجاب الأوّل إلى ما قاله الثاني فصرف عنهم ذلك، وأمر بإخراج وكيل فاطمة من فدك.

 

فجاءته الزهراءعليها السلام، قائلةً:(( لِمَ أخرجت وكيلي من فدك، وقد تصدّق النبيّ (صلى الله عليه وآله) بها عليَّ؟))

 

وهنا طالبها الخليفة بالبيِّنة، فجاءته بأمير المؤمنين والحسنين وأسماء بنت عميس وأُمّ سلمة، ولم تشهد أمّ أيمن إلّا بعد أن استشهدت أبا بكر بما سمعه من رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) بأنّها من أهل الجنّة، فلمّا اعترف أبو بكر بذلك اعترفت هي قائلة: أشهد أنّ رسول اللَّه أعطى فاطمة فدكا.

 

وكان عمر حاضراً فبادر قائلاً:

 

أمّا علي فزوجها، والحسنان ابناهما وهم يجرّون إلى أنفسهم، وفي رواية أمّا عليّ فيجرّ النار إلى قرصه.

 

وأسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم.

 

واُمّ سلمة تحبّ فاطمة فتشهد لها.

 

وأمّا أُمّ أيمن فامرأة أعجميّة لا تفصح.

 

ومعنى هذا أنّهم أقدموا على غير الحقّ وطالبوا بما لم يكن لهم، وحاشاهم من ذلك إن هو إلّا ظلم لهم وتهمة (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) وما زال قول رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) حيّا:ً ((عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ لا يفترقان أبداً)).

 

وهذا الفخر الرازي الذي ذكر في تفسيره بعد أن أدرك حقيقة أنّ عليّاً مع الحقّ والحقّ مع عليّ، فعند بيان الجهر بالبسملة، قال:

 

إنّه ثبت بالتواتر جهر عليّ بن أبي طالب بالبسملة، ومن اقتدى في دينه بعليّ ابن أبي طالب، فقد اهتدى، والدليل عليه قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): ((اللّهمَّ أدر الحقّ مع عليّ حيث دار)).

 

 

وقفة قصيرة:

لابدّ لنا من وقفة قصيرة: إنّ الزهراء كانت تتصرّف بفدك في زمن أبيها وبعده حتّى وضع الخليفة يده عليها، فهي إذن كانت صاحبة اليد، فوكيلها يعمل في فدك على مسمع ومرأى من الناس، وصاحب اليد لا يحتاج إلى بيِّنة لإثبات حقّه، وأنّ البيّنة تُطلب من المدّعي إذا احتمل في مدعاه أنّه خلاف الواقع.

 

وإن تنازلنا وقلنا إنّها مدّعية، فيستحيل في حقّها أن تدّعي باطلاً أو تحدوها المطامع الدنيويّة وحبّها لثروة فدك، فتطلب شيئاً ليس لها ولا تقرّه الشريعة المقدّسة أو مخالفاً لها.

 

ثمّ هي ومَن شهد معها، ألا تعدل شهادتهم جميعاً شهادة خزيمة وجعلها كشهادتين، وفيهم مَن هو أرقى فضلاً من خزيمة كفاطمة وعليّ والحسنين (‏عليهم السلام)... هذا إذا لم يرق للخليفة أن نقول له: أليس فيهم من يساوي خزيمة فضلاً ولو يكون واحداً منهم، فتعدل شهادته شهادتين؟

 

أيّ ظلمٍ هذا؟:

ولمّا رأت فاطمة إصرار الخليفة على موقفه، وأنّه لا يعيد لها فدكاً، وأنّ دعوى النحلة لم تجد عند الخليفة قبولاً، انتقلت تطالب بإرثها، وهنا رفض الخليفة هذه الدعوى أيضاً بحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: ((لا أُورث)) بشهادة كلّ من عائشة وحفصة ورجل من العرب يقال له أوس بن الحوثان.

 

قالت الزهراء: ((هذه أوّل شهادة زور، كيف لا أرث أبي وورث سليمان داود وورث يحيى زكريا؟!)).

 

وللقارئ أن يقارن بين هؤلاء الشهود الذين أتى بهم الخليفة على مدّعاه، وبين أولئك الشهود الذين أتت بهم الزهراء على مدّعاها؟ فلماذا قبل هؤلاء ورفض شهادة أولئك؟ وبأي مرجح أقرّ هؤلاء ولم يقرّ شهادة أولئك؟ أليس هذا ترجيح بلا مرجّح؟ ألا يكونوا عندهم ولو بمنزلة واحدة، فيقرّ شهادتهم كما أقرّ شهادة ابنته ومن معها؟ أي ظلم هذا؟!...

 

لا ندري هل هناك حكم شرعي كان من مختصّات النبيّ خصّ به أبو بكر وعائشة وحفصة وأوس بن الحدثان ولم يعلمه أمير المؤمنين عليّ‏ (عليه السلام)؟

 

وهل يعقل أنّ عليّاً وهو باب مدينة علم رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وهو الذي قال عنه عمر: لولا عليّ لهلك عمر، أقضانا عليّ...، فهل يعقل أنّ عليّاً الذي كان أقضاهم وأفقههم لا يعلم بحكم كهذا (النبي لا يورث) وهو واحد من الأحكام الفقهيّة؟ فكيف يكون أقضاهم باعترافهم جميعاً وهو لا يعرف حكماً كهذا؟!

 

وكيف يدّعي خلاف الشرع، ويساعد زوجته على طلب ما ليس حقّاً لها؟

 

ثمّ كيف لم ينبّه رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ابنته بذلك، وهو يعلم بأنّهاوحيدته وأنّها قد تدعي يوماً بالإرث، فكان عليه أن يخبرها بأنّ الأنبياء لا يورثون ما تركوه صدقة، حتّى لا يدعها ولا يدع عليّاً الذي هو بمنزلة هارون من موسى كما قال (صلى الله عليه وآله) يدّعون شيئاً لا أساس له شرعاً؟!

 

ثمّ أليس رسول اللَّه علّمه ألف باب يفتح له من كلّ باب ألف باب، فكيف غابت عنه مسألة الإرث هذه؟! أمسألة كثيرة..

 

 

مع البيان المبين!:

 

هذا وممّا قالته الزهراء في خطبتها الأولى، التي تعدّ من المحاسن والبدائع بخصوص موضوع فدك:

 

((ثمّ أنتم تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من اللَّه حكماً لقومٍ يوقنون، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

 

إيهاً معشر المسلمين أأبتزّ إرث أبي يا ابن أبي قحافة، أبى اللَّه أن ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئاً فرياً، جرأةً منكم على قطيعة الرحم ونكث العهدة، فعلى عمد تركتم كتاب اللَّه بين أظهركم ونبذتموه، إذ يقول: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد(َ  وفيما اقتصّ من خبر يحيى وزكريا، إذ يقول: (فَهَبْ لِي مِن لّدُنكَ وَلِيّاً«5» يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً) وقال عزّوجلّ: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وقال تعالى: (إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).

 

وزعمتم أن لا حظّ لي ولا إرث من أبي، أفخصّكم اللَّه بآية أخرج أبي منها، أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة، أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم ممّن جاء به؟ فدنكموها مرحولة مزمومة، تلقاكم يوم حشركم، فنعم الحكم اللَّه، ونعم الخصم محمّدصلى الله عليه وآله، والموعد القيامة وعمّا قليل تؤفكون، وعند الساعة ما تخسرون، ولكلّ نبإ مستقرّ وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم)).

 

ثمّ التفتت إلى قبر أبيها، وتمثّلت بأبيات صفيّة بنت عبد المطّلب أو صفيّة أو هند بنت أثاثة على اختلاف في المصادر:

 

قد كان بعدك أنباء وهنبثة  *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واجتث أهلك مذ غيبت واغتصبوا

أبدت رجالٌ لنا فحوى صدور*** هم‏ لمّا نأيت وحالت بيننا الكثب‏

تهجمتنا رجال واستخف بنا *** دهر فقد أدركوا منّا الذي طلبوا

قد كنت للخلق نوراً يستضاء به‏ *** عليك تنزل من ذي العزّة الكتب‏

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا ***  فغاب عنّا فكلّ الخير محتجب‏

 

فكثر البكاء من الحاضرين..

 

ثمّ ردّت قول الخليفة الأوّل: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) بقولها: ((هذا كتاب اللَّه حكم عدل، وقائل فصل عن بعض أنبيائه إذ قال: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وفصل في بريته الميراث ممّا فرض من حظّ الذكور والإناث، فلِمَ سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل واللَّه المستعان على ما تصفون، قد زعمت أنّ النبوّة لا تورث، وإنّما يورث ما دونها، فمالي أمنع إرث أبي أأنزل اللَّه في كتابه إلّا فاطمة بنت محمّدصلى الله عليه وآله فدلّني عليه أقنع به؟!)).

 

وإليكم خطبتها في مسجد النبي بحضور الخليفة الأوّل وجمع غفير من المسلمين :

 

احتجاج فاطمة الزهراء (عليه السلام ) على القوم لما منعوها فدك و قولها لهم عند الوفاة بالإمامة

 

روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليه السلام ) أنّه لما أجمع أبو بكر و عمر على منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً و بلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها و أقبلت في لمة من حفدتها و نساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله ) حتى دخلت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فأرتج المجلس ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد الله و الثناء عليه و الصلاة على رسوله فعاد القوم في بكائهم فلما أمسكوا عادت في كلامها فقالت (عليها السلام): ((الحمد لله على ما أنعم و له الشكر على ما ألهم و الثناء بما قدم من عموم نعم ابتداها و سبوغ آلاء أسداها و تمام منن أولاها جم عن الإحصاء عددها و نأى عن الجزاء أمدها و تفاوت عن الإدراك أبدها و ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها و استحمد إلى الخلائق بإجزالها و ثنى بالندب إلى أمثالها و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة جعل الإخلاص تأويلها و ضمن القلوب موصولها و أنار في التفكر معقولها الممتنع من الأبصار رؤيته و من الألسن صفته و من الأوهام كيفيته ابتدع الأشياء لا من شي‏ء كان قبلها و أنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها كونها بقدرته و ذرأها بمشيته من غير حاجة منه إلى تكوينها و لا فائدة له في تصويرها إلا تثبيتا لحكمته و تنبيها على طاعته و إظهارا لقدرته تعبدا لبريته و إعزازاً لدعوته ثم جعل الثواب على طاعته و وضع العقاب على معصيته ذيادة لعباده من نقمته و حياشة لهم إلى جنته و أشهد أن أبي محمداً عبده و رسوله اختاره قبل أن أرسله و سماه قبل أن اجتباه و اصطفاه قبل أن ابتعثه إذ الخلائق بالغيب مكنونة و بستر الأهاويل مصونة و بنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بم‏آيل الأمور و إحاطة بحوادث الدهور و معرفة بمواقع الأمور ابتعثه الله إتماما لأمره و عزيمة على إمضاء حكمه و إنفاذا لمقادير رحمته فرأى الأمم فرقا في أديانها عكفا على نيرانها عابدة لأوثانها منكرة لله مع عرفانها فأنار الله بأبي محمد (صلى الله عليه وآله ) ظلمها و كشف عن القلوب بهمها و جلى عن الأبصار غممها و قام في الناس بالهداية فأنقذهم من الغواية و بصرهم من العماية و هداهم إلى الدين القويم و دعاهم إلى الطريق المستقيم ثم قبضه الله إليه قبض رأفة و اختيار و رغبة و إيثار فمحمد (صلى الله عليه وآله ) من تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار و رضوان الرب الغفار و مجاورة الملك الجبار صلى الله على أبي نبيه و أمينه و خيرته من الخلق و صفيه و السلام عليه و رحمة الله و بركاته ثم التفتت إلى أهل المجلس و قالت أنتم عباد الله نصب أمره و نهيه و حملة دينه و وحيه و أمناء الله على أنفسكم و بلغاءه إلى الأمم زعيم حق له فيكم و عهد قدمه إليكم و بقية استخلفها عليكم كتاب الله الناطق و القرآن الصادق و النور الساطع و الضياء اللامع بينة بصائره منكشفة سرائره منجلية ظواهره مغتبطة به أشياعه قائدا إلى الرضوان اتباعه مؤد إلى النجاة استماعه به تنال حجج الله المنورة و عزائمه المفسرة و محارمه المحذرة و بيناته الجالية و براهينه الكافية و فضائله المندوبة و رخصه الموهوبة و شرائعه المكتوبة فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك و الصلاة تنزيها لكم عن الكبر و الزكاة تزكية للنفس و نماء في الرزق و الصيام تثبيتا للإخلاص و الحج تشييداً للدين و العدل تنسيقاً للقلوب و طاعتنا نظاما للملة و إمامتنا أمانا للفرقة و الجهاد عزاً للإسلام و الصبر معونة على استيجاب الأجر و الأمر بالمعروف مصلحة للعامة و بر الوالدين وقاية من السخط و صلة الأرحام منسأة في العمر و منماة للعدد و القصاص حقنا للدماء و الوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة و توفية المكاييل و الموازين تغييراً للبخس و النهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس و اجتناب القذف حجاباً عن اللعنة و ترك السرقة إيجاباً للعفة و حرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية فاتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلاّ و أنتم مسلمون و أطيعوا الله فيما أمركم به و نهاكم عنه فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء ثم قالت أيها الناس اعلموا أني فاطمة و أبي محمد (صلى الله عليه وآله ) أقول عودا و بدوا و لا أقول ما أقول غلطا و لا أفعل ما أفعل شططا (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم و أخا ابن عمي دون رجالكم و لنعم المعزى إليه (صلى الله عليه وآله ) فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم آخذا بأكظامهم داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة يجف الأصنام و ينكث الهام حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر حتى تفرى الليل عن صبحه و أسفر الحق عن محضه و نطق زعيم الدين و خرست شقاشق الشياطين و طاح وشيظ النفاق و انحلت عقد الكفر و الشقاق و فهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص و كنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب و نهزة الطامع و قبسة العجلان و موطئ الأقدام تشربون الطرق و تقتاتون القد أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك و تعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله ) بعد اللتيا و التي و بعد أن مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه و يخمد لهبها بسيفه مكدودا في ذات الله مجتهدا في أمر الله قريباً من رسول الله سيداً في أولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً لا تأخذه في الله لومة لائم و أنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر و تتوكفون الأخبار و تنكصون عند النزال و تفرون من القتال فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه و مأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الأقلين و هدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين و للعزة فيه ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم و وردتم غير مشربكم هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجرح لما يندمل و الرسول لما يقبر ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين فهيهات منكم و كيف بكم و أنى تؤفكون و كتاب الله بين أظهركم أموره ظاهرة و أحكامه زاهرة و أعلامه باهرة و زواجره لائحة و أوامره واضحة و قد خلفتموه وراء ظهوركم أ رغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون بئس للظالمين بدلا و من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها و يسلس قيادها ثم أخذتم تورون

 

وقدتها و تهيجون جمرتها و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي و إطفاء أنوار الدين الجلي و إهمال سنن النبي الصفي تشربون حسوا في ارتغاء و تمشون لأهله و ولده في الخمرة و الضراء و يصير منكم على مثل حز المدى و وخز السنان في الحشا و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أ فحكم الجاهلية تبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون أ فلا تعلمون بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته أيها المسلمون أ أغلب على إرثي يا ابن أبي قحافة أ في كتاب الله ترث أباك و لا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و قال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) و قال: (وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ و قال يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) و قال: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) و زعمتم أن لا حظوة لي و لا إرث من أبي و لا رحم بيننا أ فخصكم الله ب‏آية أخرج أبي منها أم هل تقولون إن أهل ملتين لا يتوارثان أ و لست أنا و أبي من أهل ملة واحدة أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله و الزعيم محمد و الموعد القيامة و عند الساعة يخسر المبطلون و لا ينفعكم إذ تندمون و لكل نبأ مستقر و سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم، ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت: يا معشر النقيبة و أعضاد الملة و حضنة الإسلام ما هذه الغميزة في حقي و السنة عن ظلامتي أ ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله ) أبي يقول المرء يحفظ في ولده سرعان ما أحدثتم و عجلان ذا إهالة و لكم طاقة بما أحاول و قوة على ما أطلب و أزاول أ تقولون مات محمد (صلى الله عليه وآله ) فخطب جليل استوسع وهنه و استنهر فتقه و انفتق رتقه و أظلمت الأرض لغيبته و كسفت الشمس و القمر و انتثرت النجوم لمصيبته و أكدت الآمال و خشعت الجبال و أضيع الحريم و أزيلت الحرمة عند مماته فتلك و الله النازلة الكبرى و المصيبة العظمى لا مثلها نازلة و لا بائقة عاجلة أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم و في ممساكم و مصبحكم يهتف في أفنيتكم هتافاً و صراخاً و تلاوة و ألحاناً و لقبله ما حل بأنبياء الله و رسله حكم فصل و قضاء حتم (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) إيها بني قيله أ أهضم تراث أبي و أنتم بمرأى مني و مسمع و منتدى و مجمع تلبسكم الدعوة و تشملكم الخبرة و أنتم ذوو العدد و العدة و الأداة و القوة و عندكم السلاح و الجنة توافيكم الدعوة فلا تجيبون و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون و أنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير و الصلاح و النخبة التي انتخبت و الخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت قاتلتم العرب و تحملتم الكد و التعب و ناطحتم الأمم و كافحتم البهم لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام و در حلب الأيام و خضعت ثغرة الشرك و سكنت فورة الإفك و خمدت نيران الكفر و هدأت دعوة الهرج و استوسق نظام الدين فأنى حزتم بعد البيان و أسررتم بعد الإعلان و نكصتم بعد الإقدام و أشركتم بعد الإيمان بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدءوكم أول مرة أ تخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين

 

ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض و أبعدتم من هو أحق بالبسط و القبض و خلوتم بالدعة و نجوتم بالضيق من السعة فمججتم ما وعيتم و دسعتم الذي تسوغتم فإن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ألا و قد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم و الغدرة التي استشعرتها قلوبكم و لكنها فيضة النفس و نفثة الغيظ و خور القناة و بثة الصدر و تقدمة الحجة فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر نقبة الخف باقية العار موسومة بغضب الجبار و شنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فبعين الله ما تفعلون و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون و أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون و انتظروا إنا منتظرون فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان و قال يا بنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما رءوفا رحيما و على الكافرين عذابا أليما و عقابا عظيما إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء و أخا إلفك دون الأخلاء آثره على كل حميم و ساعده في كل أمر جسيم لا يحبكم إلا سعيد و لا يبغضكم إلا شقي بعيد فأنتم عترة رسول الله الطيبون الخيرة المنتجبون على الخير أدلتنا و إلى الجنة مسالكنا و أنت يا خيرة النساء و ابنة خير الأنبياء صادقة في قولك سابقة في وفور عقلك غير مردودة عن حقك و لا مصدودة عن صدقك و الله ما عدوت رأي رسول الله و لا عملت إلا بإذنه و الرائد لا يكذب أهله و إني أشهد الله و كفى به شهيداً أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله ) يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً و لا فضة و لا داراً و لا عقاراً و إنما نورث الكتاب و الحكمة و العلم و النبوة و ما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه و قد جعلنا ما حاولته في الكراع و السلاح يقاتل بها المسلمون و يجاهدون الكفار و يجالدون المردة الفجار و ذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي و لم أستبد بما كان الرأي عندي و هذه حالي و مالي هي لك و بين يديك لا تزوى عنك و لا ندخر دونك و إنك و أنت سيدة أمة أبيك و الشجرة الطيبة لبنيك لا ندفع ما لك من فضلك و لا يوضع في فرعك و أصلك حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذاك أباك (صلى الله عليه وآله ) فقالت(عليها السلام): سبحان الله ما كان أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله ) عن كتاب الله صادفاً و لا لأحكامه مخالفاً بل كان يتبع أثره و يقفو سوره أ فتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور و هذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته هذا كتاب الله حكماً عدلاً و ناطقاً فصلاً يقول: (يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) و يقول: (وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُد(َ و بين عز و جل فيما وزع من الأقساط و شرع من الفرائض و الميراث و أباح من حظ الذكران و الإناث ما أزاح به علة المبطلين و أزال التظني و الشبهات في الغابرين كلا بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون فقال: أبو بكر صدق الله و رسوله و صدقت ابنته معدن الحكمة و موطن الهدى و الرحمة و ركن الدين و عين الحجة لا أبعد صوابك و لا أنكر خطابك هؤلاء المسلمون بيني و بينك قلدوني ما تقلدت و باتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر و لا مستبد و لا مستأثر و هم بذلك شهود فالتفتت فاطمة (عليه السلام ) إلى الناس و قالت: معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل المغضية على الفعل القبيح الخاسر أ فلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم فأخذ بسمعكم و أبصاركم و لبئس ما تأولتم و ساء ما به أشرتم و شر ما منه اغتصبتم لتجدن و الله محمله ثقيلاً و غبه وبيلاً إذا كشف لكم الغطاء و بان بإورائه الضراء و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون و خسر هنا لك المبطلون ثم عطفت على قبر النبي (صلى الله عليه وآله ) و قالت: قد كان بعدك أنباء و هنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏إنا فقدناك فقد الأرض وابلها و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب‏ و كل أهل له قربى و منزلة عند الإله على الأدنين مقترب‏أبدت رجال لنا نجوى صدورهم لما مضيت و حالت دونك الترب‏تجهمتنا رجال و استخف بنا لما فقدت و كل الأرض مغتصب‏و كنت بدرا و نورا يستضاء به عليك ينزل من ذي العزة الكتب‏و كان جبرئيل بالآيات يؤنسنا فقد فقدت و كل الخير محتجب ‏فليت قبلك كان الموت صادفنا لما مضيت و حالت دونك الكثب))‏.

 

 

وَلَاتَ حِينَ مَندمٍ!:

وجاء كلّ من أبي بكر وعمر لعيادتها معتذرين نادمين، دون أن يعيدا لها حقّها، فاستئذنا للدخول عليها، فأبت أن تأذن لهما، فحلف أبو بكر أن لا يظلّه سقف حتّى يدخل عليها ويترضّاها، وبات ليلة في البقيع لم يظلّه شي‏ء، فجاء عمر إلى أمير المؤمنين، وقال له: إنّ أبا بكر شيخ رقيق القلب، وله مع رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) صحبة في الغار، وأتينا فاطمة غير مرّة نريد الإذن عليها، فأبت، فإن رأيت أن تستأذن منها فأجابه ‏(عليه السلام)، ودخل على فاطمة، فعرّفها بما يريد الرجلان، فأبت أن تأذن لهما فقال (عليه السلام): إنّي ضمنت لهما، فقالت: البيت بيتك، والنساء تبع للرجال، لا أُخالف عليك شيئاً، فأدخلهما عليها.

 

فلمّا قعدا عندها، حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها، فلم تردّ عليهما السلام.

 

فقال أبو بكر: يا بنت رسول اللَّه إنّما أتيناك ابتغاء مرضاتك واجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا، وتصفحي عمّا كان منّا إليك.

 

قالت: ((لا أكلّمكا من رأسي كلمة واحدة حتّى ألقى أبي وأشكوكما إليه، وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما منّي.

 

قالا: إنّا جئنا متعذرين مبتغين مرضاتك، فاغفري واصفحي عنّا ولا تؤاخذينا بما كان منّا.

 

فقالت: أرأيتكما، إن حدّثتكما حديثاً عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟

 

قالا: نعم.

 

فقالت: ((نشدتكما اللَّه ألم تسمعا رسول اللَّه يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟

 

وفي رواية أُخرى: ((فاطمة بضعة منّي وأنا منها، من آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى اللَّه، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، ومَن آذاها في حياتي، كان كمن آذاها بعد موتي.

 

قالا: نعم سمعناه من رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله).

 

قالت: فإنّي أشهد اللَّه وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيتُ النبيّ لأشكونكما إليه)).

 

فقال أبو بكر: أنا عائذ باللَّه تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثمّ انتحب أبو بكر يبكي، حتّى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: واللَّه لأدعونّ اللَّه عليك في كلّ صلاة أصلّيها، ثمّ خرج باكياً، فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كلّ رجل منكم معانقاً حليلته، مسروراً بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي.

 

قالوا: يا خليفة رسول اللَّه، إنّ هذا الأمر لا يستقيم وأنت أعلمنا بذلك، إنّه إن كان هذا لم يقم للَّه دين.

 

فقال: واللَّه لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة، ما بتّ ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة.

 

خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار عند احتضارهاعليها السلام :

 

و قال سويد بن غفلة لما مرضت فاطمة (سلام الله عليها ) المرضة التي توفيت فيها دخلت عليها نساء المهاجرين و الأنصار يعدنها فقلن لها كيف أصبحت من علتك يا ابنة رسول الله فحمدت الله و صلت على أبيها ثم قالت: ((أصبحت و الله عائفة لدنياكن قالية لرجالكن لفظتهم بعد أن عجمتهم و سئمتهم بعد أن سبرتهم فقبحا لفلول الحد و اللعب بعد الجد و قرع الصفاة و صدع القناة و ختل الآراء و زلل الأهواء و بئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون لا جرم لقد قلدتهم ربقتها و حملتهم أوقتها و شننت عليهم غاراتها فجدعا و عقرا و بعدا للقوم الظالمين ويحهم أنى زعزعوها عن رواسي الرسالة و قواعد النبوة و الدلالة و مهبط الروح الأمين و الطبين بأمور الدنيا و الدين ألا ذلك هو الخسران المبين و ما الذي نقموا من أبي الحسن (عليه السلام ) نقموا و الله منه نكير سيفه و قلة مبالاته لحتفه و شدة وطأته و نكال وقعته و تنمره في ذات الله و تالله لو مالوا عن المحجة اللائحة و زالوا عن قبول الحجة الواضحة لردهم إليها و حملهم عليها و لسار بهم سيرا سجحا لا يكلم حشاشه و لا يكل سائره و لا يمل راكبه و لأوردهم منهلا نميرا صافيا رويا تطفح ضفتاه و لا يترنق جانباه و لأصدرهم بطانا و نصح لهم سرا و إعلانا و لم يكن يتحلى من الدنيا بطائل و لا يحظى منها بنائل غير ري الناهل و شبعة الكافل و لبان لهم الزاهد من الراغب و الصادق من الكاذب و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون و الذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و ما هم بمعجزين ألا هلم فاسمع و ما عشت أراك الدهر عجبا و إن تعجب فعجب قولهم ليت شعري إلى أي سناد استندوا و إلى أي عماد اعتمدوا و بأية عروة تمسكوا و على أية ذرية أقدموا و احتنكوا لبئس المولى و لبئس العشير و بئس للظالمين بدلا استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم و العجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون ويحهم أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوا مل‏ء القعب دما عبيطا و ذعافا مبيدا هنالك يخسر المبطلون و يعرف الباطلون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن دنياكم أنفسا و اطمأنوا للفتنة جاشا و أبشروا بسيف صارم و سطوة معتد غاشم و بهرج شامل و استبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا و جمعكم حصيدا فيا حسرتى لكم و أنى بكم و قد عميت عليكم أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون قال سويد بن غفلة فأعادت النساء قولها (عليه السلام ) على رجالهن فجاء إليها قوم من المهاجرين و الأنصار معتذرين و قالوا يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد و يحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره فقالت (عليها السلام ): إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم و لا أمر بعد تقصيركم)).

 

 

رحلتها إلى حيث أبيها:

ولم تمكث بعد أبيها إلّا خمساً وسبعين ليلة على المشهور عند الإماميّة، وإن اختلفوا في وفاتهاعليها السلام وكم عاشت بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله).

 

قال الواقدي: (توفّيت بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بستّة أشهر، وتوفّيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها).

 

وما زالت فاطمة الزهراء تقول في أيّام مرضها: ((يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث فأغثني، اللهمَّ زحزحني عن النار، وأدخلني الجنّة، وألحقني بأبي محمّد)).

 

فإذا قال لها أمير المؤمنين: ((عافاك اللَّه وأبقاك، تقول له: يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق برسول اللَّه)).

 

وقالت أُمّ سلمى زوجة أبي رافع: كنت أُمرّض فاطمة في شكواها التي ماتت فيها، فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها، فقالت لي: ((يا اُمّاه اسكبي لي غسلاً، فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثمّ قالت لي: يا اُمّاه أعطيني ثيابي الجدد فلبستها، وأمرتني أن أقدّم فراشها وسط البيت، ففعلت ونامت(عليها السلام) مستقبلة القبلة، وقالت: يا اُمّاه إنّي مقبوضة الآن، فلا يكشفني أحد))، فقبضت مكانها، قالت: فجاء عليّ، فأخبرته.

 

وأمّا أسماء بنت عميس فتقول: لمّا دخلت فاطمة البيت انتظرتها هنيئة، ثمّ ناديتها، فلم تجب، فناديت يا بنت محمّد المصطفى، يا بنت أكرم من حملته النساء، يا بنت خير من وطأ الحصا، يا بنت من كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، فلم تجب، فدخلت البيت وكشفت الرداء عنها، فإذا بها قد قضت نحبها شهيدةً صابرةً مظلومةً محتسبةً ما بين المغرب والعشاء.

 

وقد تولّى أمير المؤمنين عليّ تغسيلها، وعلّل هذا الإمام الصادق ‏(عليه السلام): ((بأنّها صدّيقة فلا يغسلها إلّا صدِّيق كما أنّ مريم لم يغسّلها إلّا عيسى)).

 

وهو يقول: ((اللّهمَّ إنّها أمَتك وبنت رسولك وخيرتك من خلقك، اللّهمَّ لقنها حجّتها، وأعظم برهانها، وأعل درجتها، واجمع بينها وبين محمّدصلى الله عليه وآله..))

 

ولمّا وضعها في لحدها، قال: ((بسم اللَّه الرحمن الرحيم بسم اللَّه وباللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه محمّد بن عبداللَّه سلمتك أيّتها الصدِّيقة إلى من هو أولى بكِ منّي، ورضيت لك بما رضي اللَّه لك))، ثمّ قرأ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).

 

وفي الإصابة 4: 478 بترجمة عروة بن مسعود، في حديث عند الإماميّة، أنّ أمير المؤمنين لمّا أنزلها في القبر وسوّاه عليها، سألها الملكان من ربّك؟ قالت: اللَّه ربّي، قالا: ومَن نبيّك؟ قالت: أبي محمّد، قالا: ومَن إمامك؟ قالت: هذا القائم على‏ قبري عليّ.

 

وما إن أتمّ أمير المؤمنين عليّ دفنها حتّى هاجت في قلبه آلام وأحزان، فراح يرسل دموعه حتّى ابتلّت لحيته الكريمة، فأنشد:

 

لكلّ اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ وكلّ الذي دون الفراق قليل‏

وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليل‏

 

 

ثمّ أنشد أبياتاً أخرى:

 

نفسي على زفراتهامحبوسة ياليتها خرجت مع الزفرات‏

لا خير بعدك في الحياة وإنّما أبكي مخافة أن تطول حياتي.‏

 

ثمّ أرسل نظراته هناك حيث قبر رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، وقال:

 

السلام عليك يارسول اللَّه منّي ومن ابنتك وحبيبتك وقرّة عينيك، وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار لها اللَّه سرعة اللحاق بك، ثمّ راح يبيّن ما تركه عليه فراقها من آثار وآلام قائلاً:

 

قلّ يارسول اللَّه عن صفيتك صبري، وضعف عن سيّدة النساء تجلّدي، إلّا أنّ لي في التأسّي بسنّتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزّي، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمضتك بيدي، وتولّيت أمرك بنفسي، نعم وفي كتاب اللَّه أنعم القبول إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

 

فبعين اللَّه تدفن ابنتك سرّاً ويهتضم حقّها قهراً، ويمنع ارثها جهراً، ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، فإلى اللَّه المشتكى، وفيك أجمل العزاء، وصلوات اللَّه عليك وعليها ورحمة اللَّه وبركاته)).

 

ولأي الأمور تدفن ليلاً بضعة المصطفى ويعفا ثراها

ومضت وهي أعظم وجداً في فم الدهر غصّة من جواها

وثوت لا يرى مثواها!

 لها الناس مثوى‏

أي قدس يضمّه

 

فاطمة الزهراءعليها السلام

ذكرى وفاتها‏

(موقع الشيخ آية الله اللنكراني)

 

إنّ التحليق حول حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعوالمها، يعدّ من الأُمور المهمّة، التي لابدّ للإنسان المؤمن الإلمام بها؛ لمعرفة منزلتها المباركة ومكانة المرأة المؤمنة في الإسلام ووظيفتها المناطة بها على مرّ الأجيال، فالقدوة الصالحة التي تعهّدت السماء بإعدادها لتربية الأجيال المؤمنة تارةً تكون رجلاً وأُخرى تكون امرأةً، وكما تشيد السماء بمواقف رجال صالحين، تشيد أخرى بمواقف نساء صالحات، فهذا كتاب اللَّه ينطق بالحقّ، وليس هذا فقط، فقد راح يرسم لنا نماذج خالدة من الصالحين والصالحات إلى جانب ذكره لنماذج سيّئة رجالاً كانت هذه النماذج أم نساءً.

 

فتراه يذكر فرعون وهامان وقارون أمثلة للشرّ والطغيان، تراه يذكر الأنبياء والذين آمنوا معهم أمثلة للخير والعطاء، وكما يذكر لنا امرأة نوح ولوط وتمرّدهما يذكر امرأة فرعون آسية، ومريم بنت عمران أمثلة للإيمان والعفّة والتقوى:

 

 

(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).

 

وهكذا كان منهج القرآن في تربية أتباعه، يميّز الخبيث من الطيّب، ويرسم لنا أُسوته الحسنة، التي يرغّب أتباعه ويحثّهم على اتّباعها.

 

فالزهراء سلام اللَّه عليها لم تكن واحدةً من النساء ا لصالحات اللواتي ذكرهنّ القرآن الكريم فحسب، بل كانت سيّدتهن وهو ما صرّح به رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((فاطمة سيّدة نساء العالمين))، فقد حظيت بمكانة عظيمة ومنزلة رفيعة ممّا جعلها محطّ إعجاب واحترام وتقدير عند المسلمين جميعاً، فقد كانت وما زالت وستبقى مثال المرأة التي تريدها السماء، وستبقى بضعة من رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معان الطهارة والقداسة والإيمان والإسلام المجاهد القائم بالحقّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والرافض للظلم والطغيان.

 

لقد أبت الزهراء إلّا أن تكون قدوة صالحة في كلّ مفاصل حياتها على قصرها للإنسان الموحِّد وللمرأة الموحِّدة.

 

فتراها قدوةً في بيتها مع زوجها وأولادها وخدمها والناس جميعاً، قدوة في أخلاقها، في سيرتها، في عبادتها، في زهدها، في عطائها، في كلّ ما تحمّلته من مسؤوليات، وفي كلّ ما قدّمته من خيرٍ وعطاء، أبت إلّا أن تعيش للَّه وحده وللإسلام وللناس جميعاً.

 

إنّ من يريد معرفة الزهراء، فلينظر إلى كلمات رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فيها، ومواقفه منها، ولينظر إلى كلماتها وخطبتيها أمام مجمع كبير من المسلمين في مسجد أبيها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، فيجد كلامها لوحات مضيئة رائعة الجمال والفنّ والبلاغة والبيان العربي المبين، وهي تدوّي بالحقّ وللحقّ لا لشي‏ءٍ آخر، يجدها العالمة المدافعة عن الحقّ والعدل، الرافضة للظلم والتسلّط والتجاوز.

 

لقد كانت الزهراء (عليها السلام) مدرسة في كلّ شي‏ء؛ مدرسة مليئة بجمٍّ غفير من القيم والمبادئ ومعاني الخير والعطاء، ولهذا ولغيره من الخصائص والصفات والمناقب راحت كلمات رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) تلاحقها وتشيد بها وتكشف عن منزلتها وسموّها ورفعتها:

 

 

((فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيّ‏)).

 

((فاطمة بضعةٌ منّي، مَن آذاها فقد آذاني، ومَن أحبّها فقد أحبّني)).

 

((فاطمة سيّدة نساء العالمين)).

 

((إنّ اللَّه ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)).

 

((إنّها أوسمة عظيمة كانت فاطمة جديرة بحملها)).

 

درر عظيمة ساقها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ليزيّن بها صدر فاطمة.

 

 

إنّها كلمات السماء نطق بها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) الذي قال: (ومَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى).

 

وقال كلّ ذلك وغيره لا لأنّها ابنته دماً ونسباً، فله بنات أُخريات، بل لأنّها صناعة سماوية خاصّة، ظلّت تستحقّ كلّ هذا وغيره، وحاشى لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) أن يجامل أو يداهن أو يتبع عواطفه الأبويّة ومشاعره وحنانه...

 

لقد كان حبّه لها كحبّ يعقوب لابنه يوسف دون إخوته لحبّ اللَّه تعالى له واصطفائه إيّاه، ومحبوب المحبوب محبوب.

 

يحدّثنا التاريخ ومصادره أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يقول عنها: ((فاطمة أُمّ أبيها))، وهي ما زالت في عمر الورد، كان يناديها ((يا حبيبة أبيها)) وكان يكثر تقبيلها، ويشمّ رائحتها كلّما اشتاق إلى رائحة الجنّة، وكان يكثر من قوله:

((فاطمة بضعةٌ منّي، مَن سرّها فقد سرّني، ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعزّ الناس إليّ)).

 

كان يقبّل يدها، كما يقبِّل الولد يد أُمّه، كان بيتها الأوّل عند سفره والأوّل عند عودته، يودّعها حينما يسافر أو يقاتل، يزورها حينما يعود، ففاطمة مثابة منها الانطلاقة وإليها العودة، كان يأمر أتباعه بأن يخاطبوه برسول اللَّه، فيما كان (صلى الله عليه وآله) يمنعها من ذلك ويطلب أن تدعوه ب (يا أبه).

 

كان لا يجد لتعبه وآلامه مستقرّاً وراحةً إلا عندها، تضمّد جراحه، وتخفّف آلامه، وتمسح جبينه. كانت (عليها السلام) أُمّه وابنته بكلّ ما تعنيه هذه الكلمات من معان.

 

إنّ الحديث عن الزهراء تستعذبه الأرواح، وتأنس به النفوس، وتطيب به القلوب؛ لأنّه عظيم المنفعة، غزير الفائدة، فحياتها سلام اللَّه عليها - على قصرها مليئة بالدروس والحكم والعِبر؛ قمّة الفضيلة وذروة الشرف، وأوج العفّة والعظمة.

 

وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن أولياء اللَّه الصالحين وأحبّائه المنتجبين وخاصّته المقرّبين؟!

 

وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن امرأة الإسلام الأولى، وسيّدة نساء العالمين، وابنة خاتم المرسلين؟!

 

وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن سيّدة كانت وما زالت وستبقى أعظم قدوة عرفتها الدُّنيا، وظلمها التأريخ الذي سطّرته أيدي الظالمين؟!

 

وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن القلب الطاهر، الذي ينبض عفّةً وبراءةً، ويخفق حبّاً للَّه ولرسوله؟!

 

وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن الزهراء، القمّة السامقة في تسليمها للَّه وانقيادها له، فكانت الإيمان كلّه، وكانت الغاية في الإخلاص والغاية في الصدق؟!

 

لتبقى، نعم لتبقى الزهراء شاخصاً ورمزاً حيّاً أمامنا بكلّ ما تحمله من قيم السماء ومبادئ الدِّين الحنيف، وبكلّ ما تتحلّى‏ به من إيمانٍ ثابت، وإسلام وثيق، وزهد مرير، وتضحية جسيمة، وأدب جميل، وعلمٍ غزير، وسيرة عطرة حسنة، تمنّى هذه الخصال كلّ من حولها والذين جاؤوا من بعدهم - فعصت هذه الصفات عليهم، وأبت إلّا أن تكون قلادةً لصدر الزهراء دون غيرها من العالمين، فكانت بحقّ إسلاماً يتحرّك في الوجود، وقرآناً ناطقاً يخرس ألسنة الظالمين والمغتصبين، مهما تظاهروا بالعدل والإخلاص... وإيماناً حيّاً يجسّد كلّ معاني السماء، معاني الخير والعطاء.

 

حقّاً سيّدتي، فأنتِ ابنت مَن، خليلة مَن، أُمّ مَن؟!

 

فماذا عساني أن أقول فيكِ، وأنا أعجز من أن أتفوّه بكلمة مدح أو ثناء، أو ذِكر وصف أو منقبة لسيّدة الكون كلّه والعفّة كلّها والطهارة كلّها؟!

 

لم يصبروا قليلاً، لتغادري الدُّنيا - وما أسرع رحيلكِ عنها - بقلبٍ راضٍ عنهم. سوء حظّهم العاثر، أكبّهم على وجوههم، وزهو الدُّنيا أضلّهم، وحبّها جعلهم يغضبونك فينالوا جزاءهم عند مليكٍ مقتدر، وأضاعوا بذلك حسناتهم، إن كانت عندهم حسنات، وساءت عاقبتهم، فسحقاً للقوم الظالمين، آذوك ((ومَن آذاها فقد آذاني)) ترنّ في آذانهم، ولا يبالون!

 

أغضبوك ((ومن أغضبك فقد أغضبني ...)) فتعساً لقومٍ يكون رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) غداً خصمهم!

 

أمّا أنت فكفى أنّك سيّدة النساء وسيّدة أهل الجنّة!

 

 

ذريّة بعضها من بعض:

 

الزهراء من سلالة ذريّة طيّبة، وعائلة كريمة، فهي من بني هاشم، سادة قريش بل سادة الدّنيا.

 

يقول الجاحظ عنهم (ملح الأرض، وزينة الدُّنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ جوهر كريم، وسرّ كلّ عنصرٍ شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، والمعدن الفهم، وينبوع العلم...).

 

أبوها: أكرم خلق اللَّه تعالى على الإطلاق، وخاتم رسله، وسيّد خلقه، وأعظم الناس فضلاً، حبيب اللَّه تعالى محمّد بن عبداللَّه... القرشيّ الهاشميّ.

 

أُمّها: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة... من قريش، فهي من بني أسد، وهي خديجة القرشيّة الأسديّة، تلتقي نسباً مع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) في جدّه الرابع قصيّ، فهو محمّد بن عبداللَّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ... وهي بالتالي أقرب نسائه إليه.

 

كانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وسيّدة نساء قريش، وسيّدة قريش، وهي يومئذٍ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، وأحسنهنّ جمالاً..

 

وفي لفظ كان يقال لها أوسط نساء قريش؛ لأنّ الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل، يقال: فلان أوسط القبيلة أعرقها في نفسها....

 

من بركات اللَّه تعالى الخاصّة بهذه المرأة العاقلة في أمورها، الشريفة في قولها، أن مَنّ عليها بأن اختارها لتكون أوّل نساء العالمين إسلاماً، وأسبقهنّ تصديقاً برسول اللَّه ودعوته، بل أسبق الجميع بعد الإمام عليّ‏ (عليه السلام) في إسلامها واعتناقها للدِّين الجديد، كما كانت أخلص نسائه (صلى الله عليه وآله) جهاداً، وبذلاً، وعطاءً، وأعظمهنّ وفاءً وطاعةً له، وأصبرهنّ تحمّلاً لما لاقاه رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) من ضروب الأذى والتضييق والحصار، وأكثرهنّ بذلاً وعطاءً في سبيل اللَّه ورسوله..

 

وما فدك التي وهبها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) لفاطمة - واغتصبها قوم آخرون - إلّا وفاءً منه لما قدّمته خديجة للإسلام. فقد وضعت كلّ أموالها - وكانت كثيرة جدّاً - تحت يدي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، التي قيّضها اللَّه لخدمة دينه، حتّى قال عنها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((ما نفعني مالٌ قطّ مثل ما نفعني مال خديجة))، ((ما قام ولا استقام الدِّين إلّا بسيف عليّ ومال خديجة)).

 

كانت نِعمَ الزوجة الصالحة لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، كان إذا ذكرها أو ذُكرت عنده بعد وفاتها ترحَّم عليها، وانكسر قلبه لها، وربما جرت دموعه على‏ خدّيه حزناً عليها.

 

وكثيراً ما كانت عائشة تغار من ذكرها، فكانت تقول لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): عجوز... قد أبدلك اللَّه خيراً منها!

 

فيقول لها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((ما أبدلني خيراً منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني اللَّه ولدها وحرمني ولد غيرها)).

 

إذن فقد حظيت هذه المرأة الطاهرة بمكانة عظيمة، وذكرى طيّبة في قلب رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، وتركت في نفسه آثاراً جميلة، راح يذكرها طيلة حياته المباركة، ويكثر من الترحّم عليها.

 

 

إطلالة مباركة:

ذهبت الإمامية إلى أنّ سيّدتنا فاطمة الزهراء ولدت بعد البعثة النبويّة بخمس سنين، وبعد الإسراء بثلاث سنين، هذا قول، وقول آخر: إنّها ولدت سنة اثنتين من المبعث، في العشرين من جمادى الآخرة، وذهب إلى هذا الشيخ المفيد في كتاب (حدائق الرياض).

 

فيما ذهب علماء السنّة إلى أنّها (عليها السلام) ولدت قبل البعثة، وقريش تبني الكعبة.

 

وفي قصّة ولادتهاعليها السلام:

قالت أُمّ المؤمنين خديجة(عليها السلام): فلمّا قربت ولادتي، أرسلت إلى القوابل من قريش، فأبين عليَّ لأجل (محمّد صلى الله عليه وآله)، فبينما أنا كذلك، إذ دخل عليَّ أربع نسوة، عليهنّ من الجمال والنور ما لا يوصف، فقالت إحداهنّ: أنا أُمّكِ حوّاء، وقالت الاُخرى‏: أنا آسية، وقالت الاُخرى‏: أنا أُمّ كلثوم (كلثم) أُخت موسى‏، وقالت الأُخرى: أنا مريم، جئنا لنلي أمرك.

 

وفي رواية ثانية: أنّ خديجة لمّا أرادت أن تضع، بعثت إلى نساء قريش ليأتينّها، فيلين منها ما تلي النساء ممّن تلد، فلم يفعلن، وقلن: لانأتيك، قد صرت زوجة محمّد (صلى الله عليه وآله).

 

فبينما هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة، عليهنّ من الجمال والنور ما لا يوصف، فقالت لها إحداهنّ: أنا أُمّك حوّاء، وقالت الاُخرى: أنا آسية بنت مزاحم، وقالت الاُخرى: أنا كلثم أُخت موسى، وقالت الاُخرى: أنا مريم بنت عمران (أُم عيسى‏)، جئنا لنلي من أمرك ما يلي النساء، قال: فولدت فاطمة، فوقعت حين وقعت على الأرض، ساجدةً رافعةً إصبعها.

 

هذا ما رواه ومع تفصيل أكثر المفضّل بن عمرو عن الإمام الصادق ‏عليه السلام.

 

وروى ابن عساكر في التأريخ الكبير... وكانت خديجة إذا ولدت ولداً، دفعته لمن يرضعه، فلمّا ولدت فاطمة، لم ترضعها غيرها.

 

وأيضاً رواه ابن كثير في البداية والنهاية.

 

 

أسماؤها وكناها:

 

كان لفاطمة الزهراء تسعة أسماء، فقد روي عن يونس بن ظبيان أنّه قال: قال أبو عبداللَّه‏ عليه السلام: ((لفاطمة تسعة أسماء عند اللَّه عزّوجلّ: فاطمة، والصدِّيقة، والمباركة، والطاهرة، والزكيّة، والراضيّة، والمرضيّة، والمحدّثة، والزهراء...)).

 

ولها كُنى متعدِّدة، فهي أمّ الحسن وأُمّ الحسين وأُمّ المحسن وأُمّ الأئمّة، وأُمّ المؤمنين. ولكنّها اشتهرت بكنيتها التي أطلقها عليها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): أُمّ أبيها.

 

 

زواجها المبارك:‏

كانت بضعة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء ذات منزلة عظيمة، فطالما تمنّى التشرّف والاقتران بها كبار الصحابة، ومن أهل السابقة في الإسلام والفضل والشرف والمال؛ لأنّها بنت رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، ولكثرة ما كانوا يسمعون منه (صلى الله عليه وآله) في ثنائه عليها واحترامها وتقديرها، ولموقعها العظيم منه (صلى الله عليه وآله) ومن الرسالة.. فقد راحت نفوسهم تطمح للاقتران بها، وكانوا كلّما تقدّم واحد منهم لم يجد عنده (صلى الله عليه وآله) إلّا أن يعرض بوجهه الكريم، حتّى يخرج منه القادم وهو يظنّ أنّه صلى الله عليه وآله ساخط عليه وغير راضٍ عنه، وإلّا الرفض، وأنّه ينتظر في زواجها أمر اللَّه وقضاءه.

 

وإذ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ينتظر أمر السماء فيها، تقدّم عليّ‏عليه السلام بخطواته المعهودة بالحياء، وهذا شأنه إزاء رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) في كلّ أُموره، فكيف به وهو آتٍ في أمر آخر، الاقتران بفاطمة الزهراء، فراحت نظراته عليه السلام تتوزّع هنا وهناك، تارةً إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وأُخرى نحو السماء، وثالثة يرسلها بعيداً، ورابعة إلى ما بين يديه، فقد جاء لمشروع زواج وبناء بيت ويده خالية.

 

وهنا حانت نظرة من رسول الرحمة محمّدصلى الله عليه وآله إلى عليّ، وقد عرف أنّه قادم - هذه المرّة - بشي‏ء جديد، وفي أمر على‏ غير عادته، فبادره رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) مشجّعاً له وكأنّه يستحثّه على النطق، وما إن نطق حتّى كان ذلك البيت في ذي الحجّة من السنة الثانية للهجرة النبويّة، الذي أرادته السماء، من أبهى بيوت الدُّنيا وأزهاها وأزكاها وأعظمها، بل وأغناها إيماناً وطهارةً، وأثراها أخلاقاً وعلماً...

 

إنّه بيت رفعته السماء، ورفع فيها ذكر اللَّه تعالى، بل وظلّلته رحمته، وحلّ فيه رضوانه، إنّه بيت فاطمة وعليّ، ثمّ الحسن والحسين والذريّة الصالحة والأئمّة الأطهار، أئمّة الهدى والخير والعطاء.

 

يقول الإمام عليّ‏ (عليه السلام) عن خطبته للزهراء :(عليها السلام) كما في السنن الكبرى:

 

((لقد خُطبت فاطمة بنت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقالت لي مولاة:

 

هل علمت أنّ فاطمة تُخطب؟

 

قلت: لا - أو نعم - .

 

قالت: فاخطبها إليك.

 

قال: قلت: وهل عندي شي‏ء أخطبها عليه؟ قال: فواللَّه ما زالت ترجيني حتّى دخلتُ عليه، وكنّا نجلّه ونعظّمه، فلمّا جلستُ بين يديه أُلجمت حتّى ما استطعت الكلام.

 

قال: هل لك من حاجة؟ فسكتُ، فقالها ثلاث مرّات.

 

قال: لعلّك جئت تخطب فاطمة!؟

 

قلت: نعم يارسول اللَّه.

 

قال: هل عندك من شي‏ء تستحلّها به؟

 

قال: قلت: لا واللَّه يارسول اللَّه.

 

قال: فما فعلت بالدرع، التي كنتُ سلّحتكها؟

 

قال عليّ: واللَّه إنّها درع حُطميّة ما ثمنها إلّا أربعمائة درهم.

 

قال: اذهب فقد زوّجتكها، وابعث بها إليها فاستحلّها به)).

 

وقال رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((إنّ اللَّه أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ)).

 

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: ((واللَّه ما ألوت (أي ما قصّرت في أمرك وأمري) أن أزوّجك خير أهلي)).

 

وأمّا ما روته كلّ من عائشة وأُمّ سلمة فهو: أمرنا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) أن نجهّز فاطمة حتّى ندخلها على‏ عليٍّ، فعمدنا إلى البيت، ففرشناه تراباً ليّناً من أعراض البطحاء، ثمّ حشونا مرفقتين ليفاً، فنفشناه بأيدينا، ثمّ أطعمنا تمراً وزبيباً وسقينا ماءً عذباً، وعمدنا إلى عود، عرضناه في جانب البيت؛ ليلقى عليه الثوب، ويعلّق عليه السقاء، فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة.

 

 

الزهراء وآيات قرآنية:

إضافةً إلى أحاديث نبويّة وردت فيها وأقوال عظيمة تشيد بمكانتها ومنزلتها وعلوّ قدرها، ومواقف جليلة راحت تبيّن قوّة شخصيّتها، وعظمة إيمانها، ورسوخ عقيدتها، وثقتها بحقّها.. هناك آيات قرآنية نزلت، وقد انضمّت إليها فيها نفوس طاهرة أخرى: الإمام عليّ بن أبي طالب، وولداهما سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليهم السلام).

 

نأتي على ذكر آيات ثلاث كريمة؛ وهو ما يتناسب وهذه المقالة المختصرة جدّاً البعيدة عن الإطالة والتفصيل، الذي يتطلّبه الخوض في مثل هذه الآيات وفي مواردها وما أُثير حولها أو حول بعضها من إيرادات وإشكالات والإجابة عنها، فقد تكفّلت بها كتب ومصادر مطوّلة، ولم تنجو هذه الفئة المؤمنة الصادقة من شبهات وأقاويل، غرضها إبعاد أيّ فضيلة لها وأيّ منقبة تتّصف بها أو منزلة لها، فراحت أقلامهم وآراؤهم وأقاويلهم تختلق منهجاً آخر بين الحين والحين بحسب ما تقتضيه الظروف والأحوال، لمحاربتهم والنيل من مكانتهم، إن لم يكن هذا بغضاً لهم فهو بغض لعليّ‏عليه السلام يقيناً ولأتباعهم ومريديهم على مرّ التأريخ، فراحوا بأقلامهم الحاقدة والمأجورة يحرِّقون الكلم من بعد مواضعه، ويبدّلون قولاً غير الذي قيل لهم وغير الذي سمعوه بل وعقلوه أوّل أمرهم... وليس هذا غريباً عليهم في محاربة أهل البيت‏عليهم السلام حسداً وبغضاً، وكيف يكون غريباً وهو أمر ورثوه من آبائهم وتعبّدوا به.. إنّها أحقاد قديمة لم تمحَ حتّى بعد إعلانهم الشهادتين... وراحوا يلتزمون بروايات مختلقة أو ضعيفة للوصول إلى أهدافهم في طمس فضائل أهل البيت‏عليهم السلام أو تقويضها أو إلغاء أو تهميش دورهم ومواقفهم الرسالية أوالتعتيم عليها.. فبعيداً عن كلّ هذا، وهو أمر مؤلم حقّاً، نشير باختصار إلى ثلاث آيات فقط راحت تبيِّن طهارتهم ومنزلتهم ومواقفهم:

 

 (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين).

 

إنّ الجدال أو النقاش قد ينتهي إلى باب أو طريق مسدود، فيقف كلا الطرفين متمسِّكاً بما يملكه من آراء، وبما يتمسّك به من مواقف، وهنا قد يبادر أحدهما خاصّة من يعتقد جازماً بقوّة أدلّته ورصانتها، وحرصاً منه على النتيجة وثمرة ذلك، فيعلن شيئاً - بعيداً عن الأدلّة التي بيده؛ لأنّ الحجج والأدلّة لم تؤدِّ إلى نتيجة مع خصمه - يحسم ذلك النزاع، وثوقاً منه بأحقّانيّته وصواب موقفه، وهو ما فعله رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) - المتيقّن للحقّ الذي بين يديه - في نقاشه الحادّ مع نصارى نجران، الذين راحوا يتمسّكون بباطلهم، ولم يرضخوا للحقّ وإن استيقنته قلوبهم، وحتّى يكشف القناع عن وجوههم وعنادهم، فدعاهم إلى المباهلة بأن يدعو كلّ فريق أحبّاءَه الخلّص، بل أعزّهم وأفضلهم، ثمّ يتوجّه إلى اللَّه تعالى ويدعوه بأن يصبّ لعنته وغضبه على الكاذب منهما وأن يطرده من رحمته، وهو أمر خطير جدّاً وعظيم، ولكنّه حدث بالفعل حين دعا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين لا غيرهم.

 

الواحدي في أسبابه عن جابر بن عبداللَّه أنّه قال: قدِمَ وفد أهل نجران على النبيّ (صلى الله عليه وآله): العاقب والسيّد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا قبلك، قال: ((كذبتما، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام.

 

فقالا: هات شيئاً.

 

قال: حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير.

 

(وفي رواية أُخرى عن الحسن أنّه ‏(عليه السلام) قال لهما: ((كذبتما يمنعكما من الإسلام )): سجودكما للصليب، وقولكما: اتّخذ اللَّه ولداً، وشربكما الخمر، فقالا: ما تقول في عيسى‏؟

 

قال: فسكت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ونزل القرآن: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ* إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...).

 

فدعاهما رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) إلى الملاعنة، فوعداه إلى الملاعنة على أن يغادياه في الغداة، فغدا رسول اللَّه فأخذ بيد عليّ وفاطمة، وبيد الحسن والحسين، ثمّ أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، فأقرّا له بالخراج، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): ((والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لمطر الوادي ناراً)).

 

قال جابر: فنزلت فيهم هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ).

 

قال الشعبي: أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه.

 

وفي الكشّاف: ... فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى! إنّي لأرى وجوهاً - وهو ينظر إلى رسول اللَّه وعليّ وفاطمة والحسن والحسين - لو شاء اللَّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

 

 (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

 

إنّ موضوع طهارة الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين ‏(عليهم السلام) أمرٌ متّفق عليه عند جميع المسلمين، بل حتّى عند من ناوؤهم وخالفوهم، فهو يعدّ أمراً واضحاً لا لَبَس فيه ولا غموض، ولا شكّ يعتريه، وأمامك التأريخ والتراجم، فلا تجد شخصاً إلّا ويقول بتزكيتهم وطهارتهم، بل لم يذكر لنا التأريخ عيباً فيهم أو خطأً ارتكبوه أو شططاً وقعوا فيه، فيما كثرت زلّات غيرهم وعظمت أخطاؤهم وكبرت معاصيهم سواءً كانوا رجالاً أم نساءً...

 

فسيرتهم‏ عليهم السلام صالحة، ونفوسهم طاهرة، وحياتهم مباركة... نعم اختلفوا معهم، ناصبوهم العداء، ثاروا عليهم، غصبوا حقوقهم، تمرّدوا عليهم، افتروا عليهم... ولكن لا شكّ في طهارتهم، وإنّما هي الدُّنيا ومطامعها وإنّه المُلك لو نازعتني عليه، لأخذت الذي فيه عيناك.

 

ثمّ إنّ عدل القرآن كالقرآن في طهارته ونقائه وصفائه: ((... إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي...)).

 

فقد راح رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يعدّهم؛ ليكونوا منهلاً عذباً تنتهل منه الاُمّة، ومصدرَ خيرٍ وعطاء للناس، ومنبع تبليغ لدّين اللَّه وأحكام وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله)، ومرجعاً للاُمّة تعود إليهم دائماً في تلقّي الأحكام وفي اتّخاذ المواقف... فهم القدوة الصالحة والأُسوة الحسنة والمثال الرائع..

 

فلابدّ - إذن - من أن يكونوا (عليهم السلام) على‏ درجة عالية وفي الذروة والقمّة في تزكية النفوس وطهارتها، وعلى يقينٍ وبصيرة بدين اللَّه وسنّة نبيّه الأكرم، فطهارتهم وعصمتهم هبة إلهيّة اختصّهم بها اللَّه تعالى دون العالمين، ودون نسائه بالذات اللواتي كنَّ يتمنين هذه المنزلة، وطالما اشرأبت أعناقهنّ لها، فهذه أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة التي نزلت الآية في بيتها، تتمنّى أن تكون من أهل هذه الآية من أهل البيت، الذين كانوا في منزلها مجتمعين تحت كساء واحد.

 

فقد جمع رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين تحت كساء واحد وقال: ((اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)).

 

فتقول أُمّ سلمة لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): فأنا معهم يا نبيّ اللَّه؟!

 

فيقول لها: ((أنت على مكانك، وأنتِ على خير)).

 

اُنظر الواحدي في أسبابه بسنده عن أُمّ سلمة:

 

إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي اللَّه عنها بِبُرمة فيها خزيرة، فدخلت بها عليه، فقال لها: ((ادعي لي زوجك وابنيك.

 

قالت: فجاء عليّ والحسن والحسين، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له، وكان تحته كساء خيبريّ، قالت: وأنا في الحجرة أُصلّي، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

 

قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج يديه فألوى بهما إلى السماء ثمّ قال: اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي (وحاميتي)‏ فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)).

 

قالت: فأدخلت رأسي البيت، فقلت: وأنا معكم يارسول اللَّه؟! قال: إنّك إلى خير.

 

ونقل أيضاً عن أبي سعيد أنّ هذه الآية (نزلت في خمسة، في النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان اللَّه عليهم أجمعين).

 

 

 

 (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً).

 

نفوس في ذروة الزهد والعفّة، وقلوب في منتهى الشعور بالبرّ والعطف على الآخرين، فهي لا تحبّ الطعام من أجل الطعام بل بقدر ما يقرّبها إلى اللَّه، وبقدر ما ينقذها من ذلك اليوم الموعود ومن شروره.

 

لقد كانت هذه النفوس صائمةً للَّه تعالى، ولهذا كانت بحاجة إلى طعام يسدّ عليها رمقها وقت الإفطار، لتواصل صومها أيّاماً أخرى، ومع هذا قدّمت لقمة إفطارها لفئات من الناس ولضعاف محاويج منهم، أصناف ثلاثة تتوالى على هذا البيت الذي هو من البيوت التي أذِن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، بيت علي ّ‏وفاطمة، بيت العفّة والطهارة، بيت الإيمان والقرب من اللَّه تعالى، بيت أحبّاء اللَّه وأودّائه، باب تطرق في اليوم الأوّل، إنّه مسكين، فيقدّم كلّ ما عندهم من طعام على حبّهم له، لأنّه طعام إفطارهم لا غيره عندهم، ولكنّه البرّ وحبّهم لهم (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

 

ولكنّه وجه اللَّه وحبّهم وتفانيهم من أجله.

 

وهكذا في اليوم الثاني فإذا به يتيم، وهكذا في اليوم الثالث وإذا به أسير.

 

إنّها الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة بعباد اللَّه، التي قدّمت كلّ شي‏ء، بل وجودها كلّه من أجل اللَّه وعباده.

 

إنّها نفوس تتّجه بكلّ أعمالها إلى اللَّه حيث رضاه، وجنّته، بعيداً عن طلب الجزاء من الخلق ولا الشكر، ولا تقصد بعملها هذا استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء، إنّما تتّقي به يوماً عبوساً شديد العبوس، كانت على قدسيّتها وطهارتها وإيمانها تخشاه، وأيّ خشية! وتتّقيه بهذا الوقاء وبكلّ عطاء وبرٍّ.

 

وقبلهم كان رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يربّيهم ويربّي من حوله أن: ((اتّقِ النار ولو بشقّ تمرة)).

 

إنّه الرغبة في الخير ابتغاء وجه اللَّه، والتجرّد من الأهداف الدنيويّة من نفع أو شكر أو جزاء هكذا كانت فاطمة وكان عليّ وكان الحسن وكان الحسين، إذ كان بيت عامر بالخير والعطاء حتّى لمن ناصبوهم العداء.

 

قال عطاء عن ابن عبّاس: وذلك أنّ عليّ بن أبي طالب نوبةً أجّر نفسه يسقي نخلاً في شعير ليلةً، حتّى أصبح وقبضَ الشعير وطحن ثلثه، فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه، يقال: الخزيرة.

 

فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين، فأخرجوا إليه الطعام، ثمّ عمل الثلث الثاني، فلمّا تمّ إنضاجه أتى يتيم، فسأل فأطعموه، ثمّ عمل الثلث الباقي، فلمّا تمَّ إنضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه، وطووا يومهم ذلك. فأنزلت فيه هذه الآيات.

 

 

الزهراء في عبادتها:

لقد عاشت الزهراء وجودها كلّه من أجل اللَّه تعالى، انطلاقاً من سموّها الروحي والفكري، فظلّت تعيش الطهر بكلّ معانيه، والعصمة بكلّ معانيها، والإنسانيّة بكلّ معانيها وعطائها؛ فقد كانت تعيش مشاكل المسلمين وهمومهم وآلامهم قبل همومها وآلامها ومتاعبها، وكانت في عبادتها تخشى عظمة اللَّه وتستحضر ألطافه ونعمه.

 

لهذا نجد الزهراء سلام اللَّه عليها في عبادتها كما يقول عنها ولدها الإمام الحسن‏عليه السلام فيما كان يحدث: أنّها كانت تقوم الليل حتّى تتورّم قدماها، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقال لها: يا أُمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك؟

 

فقالت: يا بُني ((الجار قبل الدار))، وهو قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).

 

وتقول أُمّ المؤمنين عائشة عن الزهراء:

 

* (ما رأيت أصدق منها إلّا أباها).

 

* (ما رأيت في هذه الاُمّة أحداً أعبد من فاطمة إلّا أباها).

 

وقد قيل في عبادتها:

 

قال الحسن البصري: ما كان في هذه الاُمّة أعبد من فاطمةعليها السلام، كانت تقوم حتّى تتورّم قدماها.

 

وقال الحسن بن علي ّ‏عليه السلام: ((رأيت أُمّي فاطمةعليها السلام، قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعةً ساجدةً حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدُّعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشي‏ء، فقلت لها: يا أُمّاه، لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بُنيّ الجار ثمّ الدار)).

 

وكانت تتشوّق إلى ساعات العبادة وأفضلها حتّى قالت: ((سمعت رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ في الجمعة ساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه عزّوجلّ فيها خيراً إلّا أعطاه إيّاه، قالت: فقلت: يارسول اللَّه أيّة ساعة هي؟ قال: إذا تدلّى نصف عين الشمس للغروب، فكانت فاطمةعليها السلام تقول لغلامها: اصعد إلى الضراب، فإذا رأيت نصف عين الشمس تدلى للغروب، فاعلمني حتّى أدعو)).

 

 

فاطمة سيّدة بيتها!:

ومع كلّ هذه العبادة المتواصلة والواعية، لم تترك وظيفتها كزوجة، وأُمّ أولاد، وربّة بيت، حتّى قال عنها علي ّ‏(عليه السلام) لرجل من بني سعد: ((ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة، إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله إليه، وأنّها استقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد..

 

وأنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) رأى فاطمة وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدُّنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يارسول اللَّه الحمد للَّه على نعمائه والشكر للَّه على آلائه)).

 

ولمّا ذكرت حالها لأبيها - يوماً - وسألت جارية تعينها، بكى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وقال:(( يا فاطمة، والذي بعثني بالحقّ إنّ في المسجد أربعمائة رجل، ما لهم طعام ولا ثياب، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت، يا فاطمة إنّي لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية....)).

 

 

تسبيح الزهراء:

وفي رواية أنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) قال: ((أفلا أعلّمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟

 

إذا أخذتما - والخطاب كان لعليّ وفاطمة، وبالتالي فهو لجميع المؤمنين - منامكما، فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمداً ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين...))

 

وقد استفاضت أخبار أهل البيت في الحثّ على الإتيان به حتّى قال الإمام الباقرعليه السلام:((ما عبد اللَّه بشي‏ء أفضل من تسبيح فاطمة كلّ يوم دبر كلّ صلاة، ولو كان شي‏ء أفضل منه لنحله رسول اللَّه فاطمة، ويقول الصادق: تسبيح فاطمة كلّ يوم دبر كلّ صلاة أحب إليّ من صلاة ألف ركعة كلّ يوم، وإنّا لنأمر صبياننا به كما نأمرهم بالصلاة)).

 

فقالت(عليها السلام):(( رضيت عن اللَّه ورسوله ثلاث دفعات)).

 

إذن فهي القدوة في عبادتها، وهي القدوة في بيتها، وهي القدوة في علاقتها بزوجها، ولا تريد إلّا رضا اللَّه وكفى بذلك خيراً لها في الدُّنيا وخيراً لها في الآخرة، لقد ذابت في اللَّه تعالى فذاب كلّ ما عندها فيه وله... ولهذا كانت الأحبّ إلى قلب رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله).

 

جاء عليّ والعبّاس يستأذنان - للدخول على رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)- فقالا: يا أُسامة! استأذن لنا على رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، فقلت: يارسول اللَّه! علي والعبّاس يستأذنان، فقال: ((أتدري ما جاء بهما؟ قلت: لا، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): لكنّي أدري، ائذن لهما، فدخلا، فقالا: يارسول اللَّه! جئناك نسألك أيّ أهلك أحبّ إليك؟

 

قال: فاطمة بنت محمّد....)).

 

وعن ابن عبّاس أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: ((خلق اللَّه الناس من أشجار شتّى وخلقت أنا وعليّ بن أبي طالب من شجرة واحدة، فما قولكم في شجرة أنا أصلها وفاطمة فرعها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمارها وشيعتنا أوراقها)).

 

فمن تعلّق بغصن من أغصانها ساقه إلى الجنّة، ومن تركه هوى في النار، وفي هذا يقول أبو يعقوب البصري:

 

يا حبّذا دوحة في الخلد نابتة ما مثلها أبداً في الخلد من شجر

المصطفى أصلها والفرع فاطمة ثمّ اللقاح عليّ سيّد البشر

والهاشميان سبطاه لها ثمرٌ والشيعة الورق الملتفّ بالثمر

هذا مقال رسول اللَّه جاء به‏ أهل الرواية في العالي من الخبر

إنّي بحبّهم أرجو النجاة غداً والفوز في زمرة من أفضل الزمر

 

عفّتها وصدقها:

 

كانت سلام اللَّه عليها في ذروة العفّة والطهارة، فقد سألها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يوماً: ((أيّ شي‏ء خيرٌ للمرأة؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل.

 

وهنا ضمّها إليه وقال: ذرّيّةٌ بعضها من بعض)).

 

وفي صدقها تقول عائشة: ما رأيت أحداً قط أصدق من فاطمة غير أبيها.

 

وروي أنّه كان بينهما شي‏ء، فقالت عائشة: يارسول اللَّه سلها فإنّها لا تكذب.

 

 

فاطمة الزهراء في كتبهم‏:

 

ممّا ورد في شأنها على لسان رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) في كتب ومصادر أحاديث الفرق الإسلامية المتعدّدة:

 

((من عرف هذه فقد عرفها،ومن لم يعرفها، فهي بضعة منّي، هي قلبي وروحي التي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذاني)).

 

((فاطمة بضعة منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)).

 

((فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني)).

 

((إنّ اللَّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك)).