وما أدراك ما زينب
قال تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً، فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى، وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه:129-132].
نزلت هذه الآيات في أجواء التحدي الكبير الذي عاشه النبي صلى الله عليه وآله في مكة المكرمة. وكأنها تتساءل: أليس هذا الجبروت بمستوى جبروت الأمم الماضية مع أنبيائهم؟ فلم لا ينزل العذاب ليخلّص النبي والمؤمنين؟
المشيئة الإلهية:
وتقدِّم الآيات الصورة الإجمالية للمشهد.. لقد شاءت الإرادة الإلهية أن لا يُهلِك هذه الأمة، بل أريد للتجربة أن تمتد مع النبي صلى الله عليه وآله. والمطلوب منك ـ يا رسول الله ـ أن تتطلع إلى المستقبل الذي سيتحقق فيه للإسلام ما لن يتحقق بإهلاك هؤلاء.. والأمر صعب وفوق حد التحمل البشري في نوعه وفي تراكماته، ولذا تقدّم لك الآيات الوصفة الناجعة التي تعينك في مواجهة هذا الظرف الأمر العصيب:
1ـ الصبر أمام سخريتهم وإهاناتهم التي يلجؤون إليها تنفيساً عن غيظهم، ويهربون فيها من إحساسهم بالعجز. ولكنهم لن يحققوا بذلك شيئاً كبيراً لأن الحقيقة ستفرض نفسها على الحياة، ولو بعد حين.. إنهم بصبرك سيستهلكون كل وسائلهم، وستتساقط بأجمعها أمام الرسالة في نهاية المطاف، وسيدخل الجميع، بعد ذلك، في دين الله أفواجاً عندما ينقشع الضباب عن عيون السائرين.
تسبيح وحمد:
2ـ التزام التسبيح الذي ترفعه إلى الله تعظيماً وتنزيهاً له عن كل ما يلصقه به المشركون، وعندما تقرن الحمد بالتسبيح، فإنه سوف يرسخ في وجدانك كل صفةِ كمالٍ وجلالٍ لله، ويجعلك تتلمس كل مواطن النعم التي تحيط بك وتمنحك القوة والأمل في المسيرة. ولهذا كله آثار:
أـ سيجعلك تشعر بالقوة المستمدة من الله المنزّه عن كل عيب وتحتقر كل من عداه مهما بلغت قوته.
ب ـ سيخفف من أثقال الجَهد الشديد الذي قد يُعييك ويُثقل حركتك، أو قد يجعلك تنسحب.
جـ تسبيحٌ أول اليوم لتكون البداية من موقع الاستعداد ليومِ عملٍ رسالي جديد.
دـ تسبيح قبل أن تبدأ ليلتك، لتنفض عنك سلبيات ما عانيته في يومك من صدمات وتحديات.
هـ تسبيح في امتداد الليل حيث تخلو بربك، لتعيش الصفاء الروحي الذي ينفذ إلى فكرك وقلبك ووجدانك.
وـ تسبيح موزع خلال النهار، ليكون الله حاضراً في وجدانك طوال الوقت.
3ـ إن هذا سيفتح لك طريقَ الرضا بقضاء الله والتسليم به، وهو من أعلى درجات الإيمان والعبودية. فعن الإمام الصادق عليه السلام: (اعلموا أنّه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به على ما أحبّ وكره). وعنه عليه السلام: (إنّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله).
4ـ لا تغرك مظاهر القوة المادية نوعاً وعدداً وامتداداً زمنياً مما يرفل بها هؤلاء الظالمون.. فهي كالزهرة سرعان ما تذبل وتفسد وتتحلل وتذروها الرياح.
5ـ اصطبر على الصلاة، فلا يكفي أن يصلي الإنسان، بل لابد وأن يعيش أجواءها وعطاءاتها الروحية في معاني الخشوع والخضوع. كما لا يكفي أن تصلي وحدك ومَن حولك بعيدون عن الارتباط بالله، فأْمُر المجتمع المحيط بك كي يلتزموا الصلاة إذ يراد لهم أن يراقبوا الله في سرهم ويتّقوه في علانيتهم، ليكونوا لك عوناً في مسيرتك.
في مدرسة الرسالة:
هذا مشهد من زمن الرسالة، ويطالعنا مشهدٌ آخر لعقيلة الهاشميين ربيبة مدرسة رسول الله صلى الله عليه وآله زينب بنت الإمام علي عليهما السلام والذي يعود ليجسد ما جاء في الآية القرآنية. وكأني بها عليها السلام قد استوعبت هذا الدرس الإلهي جيداً، فتجلت معالمه في كربلاء وفي رحلة الأسر. فأمام تلك التحديات التي تهد الجبال، عاشت العقيلة آفاق التسبيح والحمد والدعاء.
عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام: (أما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة) أي ليلة العاشر (في محرابها تستغيث إلى ربها، فما هدأت لها عين ولا سكنت لها رنة). وكانت معرفة الحسين عليه السلام بها عظيمة، ولذا فقد قال في وداعها: (يَا أُخْتَاه، لا تَنْسِيني فِي نَافِلَةِ اللَيْل)
وقد استعانت في تحمل مصابها في كربلاء بالصلاة، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: (رَأَيْتُها تِلْكَ اللَيلَة تُصَلِّي مِنْ جُلوس) لقد اصطبرت العقيلة زينب على الصلاة.. ولكنها صلتها من جلوس.. وما اختارت الجلوس إلا لشدة مصابها، وهي التي كانت تعشق الوقوف بين يدي الله.. وأطلِق لخيالك العنان في تصور حجم ذلك المصاب.. ولكنها لم تنسَ الصلاة.. ولم تنسَ أن تتنفّل.. ولو من جلوس، لأنها تعلمت من القرآن أن هذا الذكر وهذه الصلاة هي زادها في الصبر والتحمّل.
صبر ورضا:
ولذا كان صبرها جميلاً مقروناً بالرضا بقضاء الله وقدره، وهي التي تقدمت إلى جسد أخيها الحسين عليه السلام المضرج بدمائه، لتضع يديها تحته وترفع طرفها إلى السماء قائلة: (اللهم تقبل منّا هذا القربان). وقد أوصاها أخوها من قبل بالصبر الجميل: (يا أخية، إني أقسم عليك فأبرّي قسمي، لا تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت) فكانت عند حسن ظنه. وحين سعى ابن زياد أن يسخر منها في قوله: (كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟) تجلى رضاها بقضاء الله حيث قالت: (ما رأيت إلا خيراً) أو (ما رأيت إلا جميلاً).
وواجهت العقيلة زينب ابنَ زياد، ومن بعده يزيد، بنفس المنطق القوي والحجة البالغة والبصيرة النافذة حتى دكدكت على رؤوس الظالمين حصون باطلهم وزخارفه، ولم تغرها زهرة الحياة الدنيا التي كانوا يتمتعون بها، فقد كانت على يقين أن الباطل لابد وأن يزول مهما امتد به الزمن، ومهما تكاثَر أنصاره، وقويت أدواته، فوقفت لتقول ببصيرتها القرآنية: (أظننت يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمُخت بأنفك، ونظرت في عِطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكُنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: “وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ”؟… فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جَهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارُها، وهل رأيك إلا فنَد، وأيامك إلا عدد، وجمعُك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة الله على الظالمين؟).
أي صبر جميل هذا وأي رضا بقضاء الله وقدره وأي وعي وبصيرة امتازت بها العقيلة في كل مفردات التحدي الكبير الذي عاشته من موقع رعايتها لموكب الأسرى والسبايا؟ ومن موقع تحملها للمسؤولية الرسالية في الدفاع عن أهداف النهضة الحسينية؟! هكذا كان رسول الله.. وهكذا كان أهل بيِته، وهكذا ينبغي أن يكون الرساليون الذين يريد الله لهم أن يكملوا مسيرة النبي وآله في كل مواقع التحدي للظلم والباطل والفساد.