الاعلام الرسالي في الثورة الحسينية
الإعلام الرسالي في الثورة الحسينية *
السيد محمد باقر الحكيم
يعدّ الإعلام من أهمِّ الأعمال السياسية والجهادية التي يقوم بها الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو أيضاً عمل رئيسي لكل الأنبياء كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ ... ) (1) . وهي أيضاً مهمّة النبي (صلّى الله عليه وآله) : ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ) (2) ، بل هي مهمّته الرئيسية ضمن مجمل مسؤولياته ؛ ولقد قال الله تعالى في سورة الجمعة : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ ) (3) .
تلاوة الآيات هي البلاغ وإيصال الرسالة وشرح مداليلها وأبعادها ؛ لذلك يحتاج البلاغ إلى دراسة تتناول مجمل أبعاده المختلفة وخصائصه الرسالية ، لأنَّه بلاغ رسالي يرتبط بالله تعالى وبالمبادئ الإلهية ، فهو عمل هادف ينزع لتحقيق أغراض خاصة ومحدَّده ، وبذلك افترق عن الإعلام الغربي وليد الحضارة المادية ، الذي تُشكِّل فيه الإثارة وتحريك العواطف والغرائز سبيلاً للارتباط بالمخاطب ، فكان مروِّجاً لنفسه قبل أيِّة قضية أخرى .
بَيْد أنَّ الإعلام الإسلامي هادف ، ويمكن أن تتجلَّى هدفيَّته إذا ما درسنا الثورة الحسينية كنموذج كما مارسها الإمام الحسين (عليه السلام) .
الثورة الحسينية والإعلام :
لقد كان للثورة الحسينية ـ كأيّ ثورة أخرى ـ بُعد إعلامي ذا طبيعة خاصة ، يمكن دراستها من زوايا ثلاث ، هي :
1 ـ الهدف الذي سعى إلى تحقيقه .
2 ـ الخطاب السياسي الذي اعتمده وصولاً إلى الهدف .
3 ـ الوسائل التي لجأ إليها لتبليغ الرسالة إلى الناس .
ولقد اهتمَّ الإمام الحسين (عليه السلام) بهذه الأبعاد في ثورته التصحيحية ، التي كانت سبيله لبلوغ الهدف وانجاز المهام التي رمت إليها الثورة . ولهذا فإنَّنا بدءاً نتسائل عن هذا الهدف الذي سعت الثورة إلى تحقيقه :
الهدف :
أ ـ إيقاظ ضمير الأُمَّة .س
ونحن نتسائل عن الهدف الذي حاول الإمام (عليه السلام) تحقيقه من خلال الثورة ، فإنّ أوَّل ما يطرأ على الذهن سؤال هو : هل سعى الإمام إلى الوصول إلى السلطة ، أم إنَّه لم ينزع إليها ؟ فإذا لم يهدف الوصول إليها فإلى أيّ هدف كان نزوعه ؟
من الواضح أنَّ الإمام لم يكن يروم الوصول إلى السلطة رغم شرعية هذا السعي والاستهداف ، بل وكونه واجباً ملقىً على عاتق الإمام وعاتق كل الدعاة إلى الله ؛ ولذا فهو حق للإمام (عليه السلام) باعتباره منصَّباً من الله تعالى لإقامة سلطة العدل والحق .
غير أنَّ الإمام أشاح عن هذه السيطرة ؛ لإدراكه العميق عدم إمكانية تحقيق الأمر في تلك الظروف . وقد شارك الإمام في إدراكه هذا كل الذين رافقوه ولحقوا بركبه وانضموا إلى ثورته ، وبعض أصحاب الرأي والبصيرة ، ممَّن يعرفون في اصطلاحنا الحاضر بـ ( الخبراء ) من ذوي الدراية ، أمثال : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر أو غيرهم ، كمحمد بن الحنفية .
هؤلاء أخبروا الإمام بما يعرفونه من أنَّ انتزاع السلطة من بني أُميَّة غير مقدور وغير ممكن في هذه الظروف ، والإمام نفسه كان أكثرهم خبرة ودراية بأوضاع زمانه ، وكان عالماً مسبَّقاً بعدم إمكانية إقصاء بني أُميَّة من على دفَّة السلطة في تلك الفترة بالذات .
هناك نصوص تدلِّل على إدراك الإمام هذه الحقيقة ، وتشير في نفس الآن إلى عدم استهداف السلطة بناءً على ذلك الإدراك ؛ ولهذا فإنَّ الهدف كان إيقاظ ضمير الأُمَّة الذي تخدّر وكاد يموت عند عامّة الناس . أو بتعبيرٍ آخر : كسر الأغلال وتحطيم القيود عن إرادة الأُمَّة ؛ تلك القيود التي صنعها معاوية وسار عليها ابنه يزيد ؛ قيود القهر والبطش والخدر الحضاري من كثرة الأموال ، وكثرة الشهوات ، وانشغال الناس بالدنيا ، والسعي للحصول على أكبر نصيب منها بعد إن فُتحت البلاد وجُبيت الأموال ، حتى أمست هذه هي هموم المسلمين التي تشغلهم وتفقدهم الحركة وتكبِّل إرادتهم .
ب ـ إثبات الحكم بوجوب القيام بوجه الظالم .
هناك جانب آخر يساوق ما ذكرناه في الثورة الحسينية ، وهو جانب إقامة الحجة الشرعية على المسلمين من خلال تجسيد النموذج وأداء القدوة . فالمسلمون الأوائل واجهوا حالة تُوجب الوقوف بوجه الحاكم الظالم ، وهي قضية طُرحت في تلك الفترة ولا زالت مطروحة إلى هذا اليوم : هل يجوز للمسلمين أن يقاوموا أو يقاتلوا الحاكم الظالم ؟ إذا بلغ الحاكم الظالم في ظلمه درجة معينة من الظلم ، وصفها بقوله (عليه السلام) : ( اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، ودين الله دغلاً ) (4) ففي حالة كهذه ما الذي يجب فعله ؟
طبعاً كانت السلطة تبثُّ مفهومها الخاص بهذه الحالة وتروِّج له ، حتى شاع عند العامة عدم جواز الخروج على الحاكم الظالم ، وتَنسب إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) روايات كثيرة بهذا المضمون ، يتعهَّد إشاعتها في أوساط المسلمين بعض المأجورين ممَّن يُسمُّون أنفسهم بالصحابة ، وينسبون أنفسهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . لقد نشروا بين الناس حرمة القيام بوجه الحاكم الظالم مهما تجبّر وتعدّى حدود الله ؛ بحجّة أنَّ ذلك شقَّاً لعصا المسلمين ، ويجب التسليم لظلم الحاكم مهما بلغ ؛ وأقصى ما يحق للمسلمين فعله هو النُّصح .
لقد وجد الإمام نفسه إزاء حكم شرعي يعجز عن تبليغه أحد سواه ، لِمَا كان ينفرد به من خصائص يفتقر إليها أمثال عبد الله بن عباس أو عبد الله بن جعفر أو أي إنسان آخر .
وتبليغ الحكم الشرعي لا يقل أهمية عن إيقاظ الأُمَّة ، بل إنَّهما يتكاملان .
وهناك أيضاً أهداف أخرى يطول الحديث عنها ، لكن إعلام الثورة ركّز على ما أسلفناه في مجمل حركته لِمَا له من أهمية كبيرة .
الخطاب السياسي :
أ ـ تجنُّب المفاهيم النظرية .
إنَّ اقتضاء الوصول إلى أهداف خاصة ، يستلزم امتلاك خطاب سياسي خاص أيضاً ؛ يُؤدِّي إلى خلق التفاعل بين الأُمَّة وحركة الإمام ، وينتهي إلى انجاز الأهداف .
وقد حرص الإمام في مجمل حركته على عدم طرح المفاهيم النظرية ، من قبيل الحديث عن إمامته وكونه منصوباً من قبل الله تعالى وقد نصَّت عليه أحاديث واردة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأحاديث عن أبيه (عليه السلام) .
فالنبي (صلّى الله عليه وآله) نصَّ على إمامة الحسين (عليه السلام) فقال : ( الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ) (5) ، وهناك أيضاً (حديث الثقلين) الذي تضمَّن تأكيد دور أهل البيت وإمامتهم ، وغير ذلك من النصوص الكثيرة الأخرى .
ويمكن أن نرى في خطابات الإمام التي ألقاها منذ بداية نهضته وحتى سقوطه صريعاً في أرض كربلاء تأكيداً على ضرورة إقامة الحكم العادل ، والحكم بالحق وبما أنزل الله سبحانه وتعالى ، بحيث استغرقتْ كل الخطاب السياسي وبرزت بقَّوة فيه .
ب ـ واقعية الخطاب السياسي .
ولمَّا تجنَّب الإمام المفاهيمية في الخطاب السياسي ، فإنَّه انتهج خطاباً واقعياً بعيداً عن الأبحاث النظرية ، فعندما تحدَّث في مكَّة وفي المدينة وفي الطريق إلى كربلاء ، وعندما واجه جيش ابن زياد ، كانت قضية ( العدالة ) هي محور الأحاديث ، مبرِّزاً ما تميَّّز به الحكم الأُموي من الظلم والاضطهاد ، وخصوصاً الفترة التي حكم فيها يزيد ، ملفِتاً أنظار الأُمَّة إلى ما يتوجَّب عليها إزاء حكم من هذا النوع ، ومبرِّزاً كل ذلك بقالب عاطفي مؤثِّر في نفوس وأحاسيس المسلمين التي سعت السلطة إلى فرض البلادة عليها .
ج ـ الإثارة في الخطاب السياسي .
إنَّ أهمَّ مسألة ركَّز عليها الإمام الحسين (عليه السلام) هي الرابطة التي تربطه برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وكونه ابنه وابن بنته . وأعاد على الأسماع قول الرسول (صلّى الله عليه وآله) : ( الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنَّة ) (6) ، بينما لم يُؤكِّد على قضية : ( الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ) (7) ؛ لأنَّ في الحديث الأول قدر أكبر من الإثارة .
وفي حديث الإمام مع أهل الكوفة ، كان يذكّرهم بالعهود التي قطعوها له ؛ ليثير فيهم القيم المركوزة في وعيهم ، القاضية بضرورة الوفاء بالعهود ، وأنَّ عدم الوفاء بهذه العهود يعدُّ خيانةً وغدراً . فكان (عليه السلام) يناغي هذه المرتكزات التي أصّلها الإسلام في المجتمع ، والتي لا شك تُؤجِّج عواطف إنسان ذلك الزمن .
هذا يلفت أنظارنا إلى ما يجب مراعاته في الممارسة الإعلامية التي يراد منها استنهاض الأُمَّة أو تعبئتها وتحريكها ، والانطلاق من الواقع المحسوس والملموس والمسلّم في الوسط الاجتماعي المخاطب بالرسالة . لا أن يتحدَّث عن المفاهيم والمبادئ النظرية حتى لو كانت مهمة .
وكل ذلك يحتاج إلى دراسة مستفيضة ونظريات من قبل العلماء والفضلاء ؛ من أجل الخروج بقواعد وقوانين يُؤدِّي مراعاتها إلى تعبئة الأُمَّة واستنهاضها ، وهكذا فعل الإمام الحسين ، إذ تجاوز كل المفاهيم والعقائد والأفكار التي قد تُؤدِّي إلى وضع الفكر أمام مداخلات فكرية وعقلية تعيق الوصول إلى الهدف .
لم يشغل الإمام (عليه السلام) نفسه بشيء من ذلك ، واتجه مباشرة إلى ما به يتحقَّق انجاز تعبئة الأُمَّة ؛ لذلك تأطّر الخطاب السياسي بكل ما يُثير عواطف الأُمَّة ؛ لعلم الإمام (عليه السلام) بأنَّ الأُمَّة لا زالت تقول : ( أشهد أنْ لا اله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله ) ، وأنَّ هذه الأُمَّة لا زالت تحترم بيعتها وتلتزم بها ، وتنظر باستصغار إلى مَن يبايع ويتخلَّى عن البيعة ، فهي عندما تبايع تلزم البيعة . لذلك وجدنا الذين بايعوا الإمام ونكصوا عن البيعة ، أنكروها وادَّعوا أنَّهم لم يبايعوا ، وصاروا يغيّبون وجوهم من ساحة المعركة ، ولا يجرؤن على النظر في وجه الإمام (عليه السلام) أو الاعتراف ببيعتهم له ونقضها ، لأنَّ ذلك يسقطهم من الاعتبار .
وقد ركّز الإمام على هذه القضية لأنَّها مركزية ، فهو إمام على كل حال ، ولا يستمد إمامته من بيعة الناس له ، لكنَّه كان يمر على كل فرد ويسأله : ألم تبايع ؟ ألم تقل كذا؟ وهذا السؤال كان يعني الاعتراف بإلقاء الحجّة على نفسه .
هذا الأسلوب استخدمه الإمام في خطابه السياسي لأنَّه قادر على تعبئة الأُمَّة .
الوسائل الإعلامية :
أمَّا بالنسبة للوسائل الإعلامية ، فإنَّ الإمام لجأ إلى المتاح منها في ذلك العصر . ويمكن أن نشير إلى جملة نقاط في هذا المجال ، هي :
1 ـ مراعاة الخط الإعلامي المضاد .
لقد حاولت السلطة فرض السرّية على تولية يزيد غير المؤهل ؛ لمباغتة الأُمَّة بالأمر الواقع ، وقطع الطريق على ردود الفعل أو حصرها في أضيق نطاق ممكن . وقد فَطن الإمام (عليه السلام) إلى البُعد الذي تتوخَّاه السلطة وسعى إلى اتخاذ مساراً مضاداً لمسارها .
فعبد الله بن عمر و عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر عندما أرسل يزيد إلى واليه على المدينة يأمره بأخذ البيعة له منهم فظنُّوا بالمراد من استدعائهم إلى دار الإمارة ، لزموا منازلهم واختفوا فيها ... فعبد الله بن الزبير خرج متخفّياً إلى مكّة لكي لا يبايع ... وبموقفه هذا سار في الإطار الذي تريده السلطة حتى وإنْ سعى للتخلُّص من الخضوع لطلبها بقبول البيعة .
أمّا الإمام (عليه السلام) ذو الرؤية الواضحة ، فقد اختار تحويل الصراع إلى صراع علني ؛ ليفوّت على السلطة هدفها ، ولينبّه الأُمَّة إلى ما يجري ؛ لهذا اختار مواجهة أمير المدينة في موكب من بني هاشم . لقد خطَّط لكي يعرف الناس أنَّه رفض البيعة ، فعندما أرسلوا في طلبه ، قال : ( أيُّها الأمير ، إنَّ البيعة لا تكون سرَّاً ، ولكن إذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم ) ، فقال مروان : ( لا تقبل عذره ، وإذا لم يبايع فاضرب عنقه ) ، فغضب الحسين ثمَّ قال : ( ويل لك يا ابن الزرقاء ، أنت تضرب عنقي ، كذبت والله ولؤمت ) . ثمَّ أقبل على الوليد ، فقال : ( أيُّها الأمير ، إنَّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة . وبنا فتح الله ، وبنا يختم . ويزيد رجل فاسق شارب للخمر ، قاتل للنفس المحترمة ، ومعلن للفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن تصبحون ونصبح ، وتنظرون وننظر : أيُّنا أحقُّ بالخلافة ) ثمَّ خرج (8) .
لقد شاء أن يُعلن رفضه وأن يُعلم الناس جميعاً بهذا الرفض ، ومروان المتحرّق لانجاز هدف السلطة كان يريد أن تتم البيعة بسرعة ، وكان يلحّ على الوالي لأخذ البيعة حتى لو كانت بقوة السيف .
2 ـ مخاطبة أوسع دائرة من المخاطبين .
لقد رمى الإمام إلى إشراك أكبر قدر من أفراد الأُمَّة من وراء الرفض العلني لمبايعة يزيد ؛ ولهذا فقد عاد في اليوم التالي وأعلن بشكل واضح وعلى رؤوس الإشهاد عن رفضه هذا ؛ وبذلك قطع على السلطة سعيها لحصر العلم بالبيعة في أضيق نطاق لتحقيق عنصر المباغتة .
وهذا يدلُّنا على أنَّ التحرُّك بمجمله كان عبارة عن ممارسة إعلامية محسوبة النتائج ؛ تهدف التوصُّل إلى تعبئة الأُمَّة في مواجهة الطغمة المتسلِّطة ، وبالتالي علينا أن نفكِّر مسبَّقاً بنتائج تحرُّكنا الجهادي بدقة وبمدى انفعال الأُمَّة به سلباً أو إيجاباً .
3 ـ مراعاة الزمان والمكان .
وقد دعم الإمام آثار رفض البيعة بالخروج العلني من المدينة ، واختار موسم الحج لهذا الخروج ؛ تقديراً للأثر الإعلامي الذي يُؤدِّيه الخروج في هذا الزمن بالذات .
كان يمكن للإمام أن يخرج قبل هذا التاريخ أو بعده ، لكنَّه اختار الثامن من ذي الحجة ، وأن يخرج في يومٍ تجمَّعَ فيه الناس ؛ من أجل أن يتحرَّكوا في اتجاهٍ خاص ، وهو الخروج إلى منى ؛ لأنَّ هذا اليوم هو يوم التروية ، يخرجون إلى منى ، ومنها في اليوم التاسع إلى عرفات صباحاً ، فيقفون في عرفات اليوم التاسع من ذي الحجة ، من بعد الظهر وحتى غروب الشمس ... .
الناس جميعاً خرجوا من مكَّة إلى منى ، وبالاتجاه المعاكس يتحرَّك الإمام أمام هذه الجموع الغفيرة . ولابد أن يثير فعله هذا التساؤل ... لم تكن في تلك الأيّام صحف أو منشورات أو إذاعة أو ميكرفون ... إلخ ، ولذلك فإنَّ الإمام مجبر على استخدام الوسائل المتاحة آنذاك ؛ ولذا اختار الخروج بركب ، وسار بعكس اتجاه مسير الناس . وحين يُسأل عن ذلك ، كان يُجيب بأنَّه يخرج لأنَّه ليس آمناً في مكَّة . وهذه قضية مثيره للعَجَب !! لأنَّ مكَّة حرمٌ آمن ، يأمن فيها المجرم ، فكيف لا يأمن ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟! هذه الواقعة لا بد أن تحرِّك عواطف الناس . إنَّها واقعة راسخة في العرف ، ولها جذر تاريخي يمتدّ إلى ما قبل الإسلام . كل مَن دخل مكة فهو آمن ، فلماذا لا يأمن ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟!
4 ـ الانطلاق من الثوابت والمسلّمات .
من هنا فإنَّنا نلاحظ أنَّ الإمام استخدم كل الوسائل المتاحة . ومَن يراجع خطب الإمام في طريقه إلى كربلاء ، ثمَّ في يوم عاشوراء ، خطبةً بعد خطبة ، يدرك أنَّ للإمام رسالة يريد أن يُؤدِّيها ويوصلها إلى إفهام الناس بكل مضامينها وشعاراتها وأسبابها ، مع الاستدلال على كل ذلك بكل ما يمكن الاستدلال به ؛ لكي تتجلَّى أمام الأعين والقلوب وتتَّضح لجميع الناس .
لقد استخدم الرسائل ، وصار يرسل الرُّسُل إلى جميع البلاد الإسلامية ، ويشرح لهم حركته وأبعادها وأهدافها ، فيقول : ( أيُّها الناس ، إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : ( مَن رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً لعهده ، مخالفاً لسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ) . ألا وإنَّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا عبادة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرموا حلاله ) (9) .
ثمَّ يقول : ( ما خرجتُ أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ؛ وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جدِّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . أُريد أن آمر بالمعروف وانهي عن المنكر ، وأسير بسيرة جدِّي وأبي ) (10) . كما ذكر ذلك في وصيَّته لأخيه ابن الحنفية وخاطب به جميع بلاد المسلمين .
وهنا برز فضل أهل العراق ، ذلك أنَّهم كانوا الوحيدين الذين استجابوا لهذه الرسائل . أمَّا بقية البلاد ، فلم تستجب للإمام ... . أمَّا أهل العراق ، فقد استجابوا ، غاية الأمر أنَّ الأُمَّة كانت مصابة بمرض الخدر الحضاري من ناحية ، وموت الضمير من ناحية أُخرى ، بحيث إنَّ الأُمَّة لم تواصل طريقها مع الإمام ، فتخاذلت ، ولم يستمر معه إلاّ نفر يسير من الأنصار .
لكن الأثر كان في العراق
وعند العراقيين ، ويمكن ملاحظة اتساع هذا الأثر في الفترات اللاَّحقة ، وفي العراق
أيضاً ، دون باقي بلاد المسلمين . واستمر هذا المد يتصاعد حتى انتهى إلى إسقاط
الحكم الأُموي . علماً بأنَّ العراق كان يشمل إيران أيضاً ، ففي تلك الفترة كانت
إيران ملحقة بالعراق
إدارياً .
وكل ذلك يدل على أنَّ الثورة أحدثت أثراً صار يتصاعد حتى انتهى بسقوط العهد الأُموي .
خاتمة :
لقد استهدف الإمام أهدافاً ، واستخدم خطاباً سياسياً ناجحاً قاده إلى انجاز أهدافه عبر الوسائل المتاحة له في ذلك العصر ،وتمكّن مَن تحطيم كل القيود التي حاولت السلطة تكبيل حركته بها .
وما كان له أن ينجح في ذلك لولا جمعه في تحرُّكه بين الهدف الرسالي واستخدام الوسائل المتاحة الموصلة إليه ، مستعيناً بخطاب سياسي مساوق لمجمل أبعاد تحرُّكه ... ولهذا أمكنه أنْ يخلق بشهادته هذا الأثر الضخم في الأُمَّة ، وأن يبقى في حياة المسلمين وعبر كل العصور ، بما فيها عصرنا الحاضر .
ـــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس وتصحيح وتحرير قسم المقالات في شبكة الحسنين ( عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ، المصدر : مجلة " الفكر الإسلامي " ، مجلة علمية تخصصية فصلية ، ع 20 ، السنة الخامسة ، شوَّال / ذو الحجة 1418 هـ ق .
(1) الأحزاب : 99 .
(2) المائدة : 99 .
(3) الجمعة : 2 .
(4) أخرجه الحاكم بالإسناد : 4 / 480 .
(5) بحار الأنوار : 43 / باب فضائلهما ومناقبهما / 264 / ح 4 / ط طهران ـ 1390 ، منشورات المكتبة الإسلامية . (قال أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) للحسن والحسين : ( أنتما إمامان بعقبي ، وسيِّدا شباب أهل الجنة ) ) (ح 18) . قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ( أبناي هذان إمامان قاما أو قعدا ) .
(6) يحيى بن الحسين الأسدي المعروف بابن البطريق ، عمدة عيون الأخبار في مناقب إمام الأبرار : ( إنِّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) / ح 48 / ص 68 / مؤسّسة النشر الإسلامي ـ جماعة المدرِّسين.
(7) محب الدين الطب