مدينة كربلاء والمرقد الحسيني اطلالة تاريخية مدعمة بالرسوم والصور
مدينة كربلاء والمرقد الحسيني
إطلالة تاريخية
مدعمة بالرسوم والصور *
إعداد :
قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام )
تمهيد :
كربلاء مدينة تقع في وسط العراق .
تعتبر أحد المدن المقدّسة لدى المسلمين الشيعة ، حيث يرقد فيه حفيد رسول الله ( صلَّى الله عليه واله ) ، الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) , وحدثت فيها واقعة الطّف الشهيرة .
وسنستعرض تاريخ المدينة
وأهم ملامحها ، وتاريخ المرقد الحسيني ، من خلال النقاط التالية :
1ـ الموقع .
2ـ التأسيس والتسمية .
3ـ التوسعة والإعمار .
4ـ المعالم .
5ـ تاريخ تشييد المرقد الحسيني .
1 ـ الموقع :
تقع المدينة على بعد 105 كم إلى الجنوب الغربي من العاصمة العراقية بغداد ، على حافة الصحراء في غربي الفرات ، وعلى الجهة اليسرى لجدول الحسينية . و تقع المدينة على خط طول 44 درجة و40 دقيقة وعلى خط عرض 33 درجة و31 دقيقة . ويحدُّها من الشمال محافظة الأنبار ، ومن الجنوب محافظة النجف ، ومن الشرق محافظة الحلّة وقسم من محافظة بغداد ، ومن الغرب بادية الشام وأراضي المملكة العربية السعودية .
2 ـ التأسيس والتسمية :
يعود تاريخ المدينة إلى العهد البابلي ، وكانت هذه المنطقة مقبرة للنصارى قبل الفتح الإسلامي ، ويرى بعض الباحثين أنَّ كلمة كربلاء تعني ( قرب الإله ) ، وهي كلمة أصلها من البابلية القديمة .
ورأى بعضهم أن التوصُّل إلى معرفة تاريخ ( كربلاء ) القديم ، قد يأتي من معرفة نحت الكلمة وتحليلها اللغوي ، فقيل : إنَّها منحوتة من كلمة ( كور بابل ) العربية ، بمعنى مجموعة قرى بابلية قديمة ، منها : نينوى القريبة من سدَّة الهندية ، ومنها : الغاضرية ، وتسمَّى اليوم ( أراضي الحسينية ) ، ثمَّ كربلاء أو عقر بابل ، ثم النواويس ، ثمَّ الحير الذي يعرف اليوم بالحائر ؛ إذ حار الماء حول موضع قبر الإمام الحسين ( ع ) عندما أمر المتوكِّل العبَّاسي بهدم وسقي القبر الشريف .
ويرى آخرون أنَّ تاريخ كربلاء يعود إلى تاريخ مدن طسوح النهرين ، الواقعة على ضفاف نهر بالأكوباس ( الفرات القديم ) ، وعلى أرضها معبد قديم للصلاة . إنَّ لفظ كربلاء مركَّب من الكلمتين الأشوريتين : ( كرب ) أي حرم ، و(أيل ) أي الله ؛ ومعناهما : ( حرم الله ) .
وذهب آخرون إلى أنَّها كلمة فارسية المصدر ، مركَّبة من كلمتين هما : ( كار ) أي عمل ، و(بالا ) أي الأعلى ؛ فيكون معناهما ( العمل الأعلى ) . ومن أسمائها ( الطف ) .
ويحتمل أنَّ كلمة كربلاء مشتقَّة من الكربة بمعنى الرخاوة . فلمَّا كانت أرض هذا الموضع رخوة ، سمِّيت كربلا ... ، أو من النقاوة ، ويقال: كربلت الحنطة إذا هززتها ونقيتها . وهذا ما ذهب إليه ياقوت الحموي ، وإليك نص ما ذكره في معجمه :
( كَرْبَلاءُ : بالمدّ: وهو الموضع الذي قُتل فيه الحسين بن عليّ (رضي الله عنه) في طرف البرّية عند الكوفة . فأما اشتقاقه ، فالكربلة رخاوة في القدميّن ، يقال: جاء يمشي مُكَرْبِلاً . فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رَخْوة فسمِّيت بذلك ؛ ويقال: كَرْبَلْتُ الحنطة ، إذا هَذّبْتها ونقيتها [ ... ] فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض مُنْقاة من الحصى والدَّغَل فسميّت بذلك ) (1) .
3 ـ التوسعة والإعمار :
في 12 محرَّم عام 61 هـ بدأ تاريخ عمران مدينة كربلاء ، بعد واقعة الطف بيومين ، حيث دفن بنو أسد رفات الإمام الحسين ( ع ) وأخيه العبَّاس (ع) وصحبه الميامين ( عليهم السلام ) .
سنة 247 هـ أعاد المنتصر العبَّاسي بناء المشاهد في كربلاء ، وبنى الدور حولها بعد قتل أبيه المتوكِّل الذي عبث بالمدينة وهدم ما فيها ، ثمَّ استوطنها أوَّل علوي مع ولده ، وهو السيد إبراهيم المجاب الضرير الكوفي ، بن محمد العابد ، بن الإمام موسى الكاظم ( ع) .
سنة 372 هـ شُيِّد أوَّل سور للحائر ، وقد قُدِّرت مساحته 2400 م2 .
سنة 412 هـ أقام الوزير ( الحسن بن الفضل بن سهلان الرامهرمزي ) السور الثاني للمدينة ، ونصب في جوانبه أربعة أبواب من الحديد .
سنة 941 هـ زار الشاه إسماعيل الصفوي كربلاء ، وحفر نهراً دارساً وجدَّد وعمَّر المشهد الحسيني .
سنة 953 هـ أصلح سليمان القانوني الضريحين ، فأحال الحقول التي غطتها الرمال إلى جنائن .
في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي زار أحد ملوك الهند كربلاء ( بعد حادثة الوهَّابيين سنة 1216 هـ ) ، وبنى فيها أسواقاً جميلة وبيوتاً ، اسكنها بعض مَن نكبوا ، وبنى سوراً منيعاً للبلدة .
سنة 1217 هـ تصدَّى السيد علي الطباطبائي ( صاحب الرياض ) لبناء سور المدينة الثالث بعد غارة الوهَّابيين ، وجعل له ستة أبواب عرف كل باب باسم خاص .
سنة 1860م تمَّ إيصال خطوط التلغراف واتصال كربلاء بالعالم الخارجي .
في سنة 1285 هـ 1868م وفي عهد المصلح ( مدحت باشا ) بُنيت الدوائر الحكومية ، وتمَّ توسيع وإضافة العديد من الأسواق والمباني ، وهدَّم قسماً من سور المدينة من جهة باب النجف ، وأضاف طرفاً أخر إلى البلدة سمِّيت بمحلَّة : ( العبَّاسية ) .
سنة 1914م وبعد الحرب
العالمية الأُولى أُنشئت المباني العصرية ، والشوارع العريضة ، وجُفِّفت أراضيها ،
وذلك بإنشاء مبزل لسحب المياه المحيطة بها .
4 ـ المعالم :
تبلغ مساحة مدينة كربلاء نحو 52856 كم مربعاً ، وأرضها رخوة نقيّة ( منقَّاة من الحصى والدغل ) ، تحيط بها البساتين الكثيفة ويسقيها ماء الفرات . وثَمَّة طريقان يُؤدِّيان إلى المدينة المقدَّسة ، طريق تربطها بالعاصمة بغداد مروراً بمدينة المُسيَّب ، وطولها 97 كم ، وطريق آخر تصلها بمدينة النجف الأشرف .
وأيَّا كان السبيل الذي يسلكه المسافر ، فإنَّه سيتَّجه إلى مرقد الإمام الحسين ( ع ) ومثوى شهداء الطف الكرام ، فلا بد له في كلتا الحالتين من المرور بطريق مَخْضَرَة ، تحفها بساتين الفاكهة ومزارع النخيل الكثيفة .
وتقسم المدينة من حيث
العمران إلى قسمين ، يُسمَّى الأوَّل ( كربلاء القديمة ) ، وهو الذي أُقيم على
أنقاض كربلاء القديمة ، ويُدعى القسم الثاني ( كربلاء الجديدة ) . والبلدة الجديدة
واسعة البناء ذات شوارع فسيحة ، وشُيِّدت فيها المؤسسات والأسواق والمباني العامرة
والمدارس الدينية والحكومية الكثيرة ، ويصل المدينة الخط الحديدي الممتد بين بغداد
والبصرة بفرع منه ينتهي بسدة الهندية طوله 36 كم ، وتربطها بالعاصمة وبسائر الأطراف
طرق مبلَّطة حديثة .
ومن أشهر المعالم في المدينة هو مرقد الإمام الحسين ، وسنتعرض لتاريخ بناء المرقد
مع الصور التوثيقية لذلك .
يُذكر أنَّ مرقد أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) يقع بجانب مرقد أخيه الإمام
الحسين ( عليه السلام ) ، وقد استشهد مع أخيه في نفس الواقعة ، ويُعتبر مرقده
الطاهر من المعالم البارزة في المدينة أيضاً .
ـ المرقد الحسيني :
الحسين هو ابن علي وفاطمة ( عليهم السّلام ) ، وسبط محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) وخديجة ( رضي الله عنها ) ، وأبو الأئمّة التسعة المعصومين ( عليهم السّلام ) ، ريحانة الرسول وقرّة عين البتول ، خامس أفضل مَن خلقه الجليل ، المولود في المدينة في الثالث من شعبان عام 4 هـ ، والمقتول بكربلاء في العاشر من محرم عام 61هـ . فضائله أكثر من أن تُحصى ، ولا يختلف اثنان على أنَّه أعلم أهل عصره وأفضلهم على الإطلاق . ومرقده هذا أشهر من أن يُشكّك فيه المشكّكون ، حيث توافد على زيارته أئمّة المسلمين وتبعهم الأصحاب والأعلام وأيَّدتهم كتب السيرة والتاريخ .
والحسين نسيج وحده ، لا يمكن وصفه بما يوصف به عباقرة التاريخ ولا أعلام الأُمم . إنَّه من المصطفى وهو منه ، وحبّه علامة للإيمان بالله وبرسوله ، وإنَّه من نورٍ أبى الله إلاَّ أن يُتمّه ويشعّه ولو كره الكافرون والمنافقون .
لولا جهاد الحسين ، لَمَا بقيَ للإسلام باقية ، ولَمَا ظلّ للإنسانية مفهوم . لم يَتَوانَ عن دعم دين الإنسانية لمحة بصر وخفقة خافق ، حتّى أصبح يملك القلوب والعقول ، ويهواه كلُّ مَن يحمل حرفاً من الإنسانية ويتشبّث بكلمة الدين وتعاليمه القيِّمة .
إنَّه بَشر مَلِك ، بل مَلَكٌ بشر ، بل أعظم من أن يُوصف بهما وأجلّ مِن أن يُقرن بهما . إنَّه من طينة لا تُنعت بالنعوت البشرية ؛ فقد كرّمها خالقها فأحسن تكريمها ، حيث لم يخلق خلقاً إلاَّ تكريماً له ولجدِّه وأبيه وأمِّه وأخيه .
إنَّ مرقده الشريف ظل منذ أن احتضنته أرض كربلاء قِبلةً لملايين الأُباة والأحرار ، ومهوى لجميع المؤمنين والموالين باختلاف ألسنتهم وقوميَّاتهم على مر العصور . ورغم محاولات الطغاة لطمسه ، إلاّ أنَّه بقي مركز إشعاع للعالَم ، حيث مكروا ومكر اللهُ واللهُ خير الماكرين.
لقد أصبح المرقد الحسيني
الشريف حربة ذات حدَّين ، يستخدمهما السلاطين والأمراء ، والرؤساء والوزراء ، كأداة
داعمة من جهة ، ووسيلة دامغة من جهة أخرى . وعلى أثره صنع تاريخ مرقده الشريف ،
الذي نحاول إلقاء الضوء عليه قدر المستطاع ، واستعراض ما يمكن استعراضه ولو بشكل
موجز وسريع ، آملين أن يحوز رضى القارئ الكريم بعد أن يحوز رضى صاحبه الذي رِضاه من
رضى جدِّه الأمين ورضى الله جلَّ وعلا.
5 ـ تشييد المرقد الحسيني :
إن الحديث عن تأريخ تشييد الروضة الحسينية المطهَّرة وتطوُّرها بالشكل الذي عليها الآن ، يجرُّنا إلى الحديث عن تأريخ طويل يمتد إلى أربعة عشر قرناً ، فقد ذكر المؤرِّخون أنّ بناء الروضة الحسينية يبدأ منذ دفن الأجساد الطاهرة من قبل أفراد من عشيرة بني أسد .
قال الإمام علي بن الحسين
زين العابدين (عليه السلام) : ( أخذ الله ميثاق أُناس من
هذه الأُمَّة ، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، هم معروفون في أهل السماوات ، يجمعون
هذه الأعضاء المتفرِّقة والجسوم المضّرجة ، وينصبون بهذا الطف علماً على قبر سيد
الشهداء لا يُدرس أثره ، ولا يعفو رسمه على مرور الليالي والأيَّام )
(2).
العمارة الأولى :
لمَّا ولي المختار بن أبي عبيدة الثقفي الكوفة في عام (65 هـ) مطالباً بثأر الحسين
بن علي (عليه السلام) ، وقام بتعقُّب قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) وصحبه
الكرام ، وحاكمهم ومن ثمَّ قتلهم ، بعد ذلك بنى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)
في كربلاء ، وشيّد له قبَّة من الآجر والجص ، وهو أوَّل مَن بنى عليه بناءً أيَّام
إمرته (3) .
وكانت على القبر سقيفة وبنى حوله مسجد ، ولهذا المسجد بابان ، أحدهما نحو الجنوب ، والآخر نحو الشرق . ويُؤيِّد ذلك القول الوارد عن الأمام الصادق (عليه السلام) في كيفية زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فقد قال : ( إذا أتيت الباب الذي يلي الشرق ، فقف على الباب ، وقل : ... ) ، وقال كذلك : ( ثمَّ تخرج من السقيفة وتقف بإزاء قبور الشهداء ) . وما زال هذا المسير قائماً حتى الآن ، فالجهة المحاذية لقبور الشهداء حتى الشرق ، ومرقد الشهداء يقع في شرقي مرقد الإمام وابنه علي الأكبر (عليهما السلام) .
وبقيت تلك السقيفة والمسجد طيلة فترة العهد الأُموي وسقوط دولتهم (123هـ) وقيام دولة بني العبَّاس . وفي عهد هارون الرشيد العبَّاسي ـ الذي ناصب العداء للعلويين ـ سعى إلى هدم تلك القبور العلوية الطاهرة ، مؤمِّلاً أن يمحو ذكر آل محمد وعترته (عليهم السلام) التي كانت فضائلهم تسمو على المخلوقين في حياتهم وبعد وفاتهم ، فأرسل أناساً طبع الله على قلوبهم فنسوا ذكر الله العظيم ، فقدموا إلى المرقد الحسيني لتهديم منار الهدى ونبراس النجاة للأمَُّة ، فهدموا المسجد في حرم الحسين (عليه السلام) والمسجد المقام على قبر أخيه العباس (عليه السلام) ، كما دمّروا وخرّبوا كل ما فيهما من الأبنية والمعالم الأثرية ، وأمرهم الرشيد بقطع شجرة السدرة التي كانت نابتة عند القبر وخرَّبوا موضع القبر ، ثمَّ وضع رجالاً مسلَّحين يمنعون الناس من الوصول إلى المرقد المعظّم والمشهد المكرَّم حتى وفاة الرشيد عام (193 هـ) (4) .
انظر هذه الرسوم التوضيحية التي تبيِّن تطوُّر البناء على المرقد الشريف بحسب النقولات التاريخية :
العمارة الثانية :
لأسباب سياسية تقرَّب المأمون العبَّاسي للعلويين ، إذ عقد ولاية العهد للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، فتظاهر بالتقرُّب والميل إلى العلويين باعتبارهم أصحاب حق بالخلافة ، فأسند ولاية العهد إلى الإمام الرضا (عليه السلام) واستبدل شعار العبَّاسيين بشعار العلويين وذلك (عام 193هـ) ، وأمر ببناء قبر الحسين (عليه السلام) وفسح المجال للعلويين وغيرهم بالتنقل وزيارة قبور الأئمة ، فتنفَّس الشيعة نسيم الحرية وعبير الكرامة وذاقوا طعم الاطمئنان .
ففي عهد المأمون أُعيد البناء على القبر الشريف ، وأقيم عليه بناء شامخ بقي على هذه الحال إلى سنة (232 هـ) ، حيث جاء دور المتوكِّل العبَّاسي الذي دفعه حقده وناصبـيته لأهل البيت (عليهم السلام) إلى تضييق الخناق على الشيعة وشدَّد عليهم الخناق .
فقد أمر بتتبُّع الشيعة
ومنعهم من زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، ولم يكتف بوضع المسالح ومراقبة
الزائرين ومطاردتهم مطارده شديدة دامت طيلة خمس عشرة سنة من حكمه ، بل أمر بهدم قبر
الحسين (عليه السلام) خلال تلك الفترة أربع مرات ، وكربه وخرّبه وحرثه وأجرى الماء
على القبور.
أورد الطبري في حوادث (سنة 236 هـ) أنَّ المتوكِّّل أمر بهدم قبر الحسين (عليه
السلام) وهدم ما حوله من المنازل والدور ، ومنع الناس من إتيانه ، فذكر أنَّ عامل
الشرطة نادى في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيِّام بعثناه إلى المطبق
(وهو سجن تحت الأرض) . وهرب الناس وأقلعوا من المسير إليه ، وحرث ذلك الموضع وزرع
ما حواليه (5) .
وفي رواية أوردها الطوسي في الأمالي عن عبد الله بن دانية الطوري ، قال: حججتُ سنة 247هـ ، فلمَّا صدرتُ من الحج إلى العراق ، زرتُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على حال خفية من السلطان ، ثمَّ توجَّهتُ إلى زيارة الحسين (عليه السلام) ، فإذا هو قد حَرَث أرضه وفجّر فيها الماء ، وأُرسلت الثيران والعوامل في الأرض ، فبعيني وبصري كنتُ أرى الثيران تساق إلى الأرض ، فتساق لهم ، حتى إذا حاذت القبر حادت عنه يميناً وشمالاً ، فتُضرب بالعصي الضرب الشديد ، فلا ينفع ذلك ، ولا تطأ القبر بوجه ، فما أمكنني الزيارة ، فتوجَّهت إلى بغداد وأنا أقول:
تالله إنْ كانت أُميَّة قد أتتْ = قتْلَ ابن بنتِ نبيِّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلِه = هذا لعَمرِك قبرُه مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا = في قتله فتتبَّعوه رميما
ولمَّا وصلتُ بغداد ، سمعت الهائعة ، فقلت: ما الخبر ؟ قالوا سقط الطائر بقتل
المتوكِّل ، فعجبت لذلك ! وقلت : إلهي ليلة بليلة (6)
.
العمارة الثالثة :
وصل المنتصر إلى سدة الخلافة وتولَّى أمر السلطة في دولة العبَّاسيين في أواخر عام 247 هـ ، فأصاب العلويين الفرج وزالت عنهم الكربة ورفع عنهم المنع ، وأمر بتشييد قبة على قبر الحسين (عليه السلام) ، وركّز عليها ميلاً ليرشد الناس إلى القبر ، وعطف على العلويين ووزع عليهم الأموال ، ودعا إلى زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فهاجر إلى كربلاء جماعة منهم من أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وفي مقدِّمتهم السيد إبراهيم المجاب ابن محمد العابد ابن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وذرية محمد الأفطس حفيد الحسين الأصغر ابن الإمام السجاد (عليه السلام) ، وأولاد عيسى بن زيد الشهيد ، واستوطنوا فيه (7) .
وبقي هذا البناء مشيداً
حتى سقوطه سنة 273 هـ (8) على عهد الخليفة المعتضد
العبَّاسي.
العمارة الرابعة :
سقطت العمارة التي شيدها المنتصر على القبر المطهر في 9 ذي الحجة سنة 273 هـ (9) ، ويذكر المؤرِّخون أنَّ البناية قد سقطت في زيارة عرفة ، وهي من الزيارات المخصوصة لحرم الحسين (عليه السلام) ويكثر فيها الناس ، فقد انهارت السقيفة فجأة ، فأصيب جرّاء ذلك جماعة ونجا آخرون ، كان من بينهم أبو عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج ، وهو من وجوه أهل الكوفة ، وهو الذي نقل الخبر.
وسبب سقوط السقيفة مجهول لحد الآن ، هل كان الحادث قد وقع قضاءً وقدراً ؟ أم أنَّ هناك يداً خبيثة من قبل السلطة الحاكمة آنذاك كان لها الدور في هذه الفاجعة العظمى ؟ على كل حال ، فقد كان الحادث مؤلماً ومروِّعاً وفي الوقت نفسه ، أصيب القبر بالانهدام وصار مكشوفاً لمدة عشر سنين .
حتى تولَّى الداعي الصغير ، جالب الحجارة ، محمد بن زيد بن الحسن ـ من أولاد الحسن السبط ـ إمارة طبرستان ، بعد وفاة أخيه الملقَّب بالداعي الكبير ، فحينئذ أمر ببناء المشهدين وإقامة العمارة المناسبة ، وهما مشهد أمير المؤمنين في النجف ومشهد سيد الشهداء في كربلاء ، فكان المعتضد وقتذاك خليفة العبَّاسيين سنة (283 هـ) .
وقد زار محمد بن زيد كربلاء والنجف وأرسل المواد والتحفيات ، فقد كانت علاقته مع المعتضد العبَّاسي حسنة ، وتربطه به رابطة متينة ، فتمكَّن بسببه أن يشيد البناء على الحرمين في الغري والحائر ، فشيّد على القبر في كربلاء قبة عالية لها بابان ومن حول القبة سقيفتين ، وعمّر السور حول الحائر وأمام المساكن ، وأجزى العطاء على سكنة كربلاء ومجاوري الروضة المقدسة (10) .
صورة توضيحية :
العمارة الخامسة :
حكم بغداد عضد الدولة البويهي في خلافة الطائع بن المطيع العبَّاسي ، وقد أمر ببناء
الرواق المعروف برواق عمران بن شاهين في المرقدين الغروي والحائري ، وهو المعروف
اليوم برواق السيد إبراهيم المجاب . وفي عام407 هـ شبَّ حريق هائل داخل الروضة
المقدَّسة ، وذلك خلال الليل ، وحدث هذا الحريق من جرَّاء سقوط شمعتين كبيرتين على
المفروشات ، فقد كانت الروضة تنار بواسطة الشموع ، فقد التهمت النار أوَّلاً
التأزير والستائر ، ثم تعّدَّت إلى الأروقة فالقبَّة السامية ، ولم يسلم من النار
سوى السور وقسم من الحرم ومسجد عمران بن شاهين (11) .
العمارة السادسة :
تولَّى الحسن بن المفضل بن سهلان تجديد بناء الحائر الحسيني بعد أن شبّت فيه النار واحترقت القبة والحرم . ففي عام 412 هـ شيَّد فيه قبة على قبر الحسين (عليه السلام) ، وأصلح ورمّم ما دمَّره الحريق ، وأمر ببناء السور ، وهو السور الذي ذكره ابن إدريس في كتابه (السرائر) عند تجديده للحائر (عام 588 هـ) ، فقد جدَّد ابن سهلان السور الخارجي ، وأقام العمارة من جديد على القبر المطهَّر بأحسن ممّا كان عليه .
ووصف الرحَّالة ابن بطُّوطة هذه العمارة في رحلته إلى كربلاء سنة 727 هـ ، وقال : وقد قُتل ابن سهلان سنة 414 هـ وبقي البناء الذي أمر بتشييده في الحائر الشريف حتى خلافة المسترشد بالله العبَّاسي سنة 526 هـ ، حيث عاد الإرهاب من جديد على الشيعة ، ورجع البطش والتضييق عليهم ، واستولى المسترشد العبَّاسي على ما في خزائن الحائر المقدَّس من أموال ونفائس وموقوفات ومجوهرات ، فأنفق قسماً منها على جيوشه ، وقال : (إنَّ القبر لا يحتاج إلى خزينة وأموال) . واكتفى بهذا السلب ولم يتعدَّ على الحائر والقبر الطاهر (12) .
وعندما تولَّى الوزارة في عهد الخليفة العبَّاسي الناصر مؤيد الدين محمد بن عبد الكريم الكندي ـ الذي يعود نسبه إلى المقداد بن الأسود الكندي ـ قام بترميم حرم الإمام الحسين (عليه السلام) في عام 620 هـ ، وأصلح ما تهدّم من عمارة الحائر . فقد أكسى الجدران والأروقة الأربعة المحيطة بالحرم بخشب الساج ، ووضع صندوقاً على القبر من الخشب نفسه ، وزيّنه بالديباج والطنافس الحريرية ، ووزَّع الخيرات الكثيرة على العلويين والمجاورين للحائر (13) .
صورة توضيحية :
العمارة السابعة :
تعتبر هذه العمارة هي السابعة بالنسبة لصاحب كتاب مدينة الحسين (عليه السلام) للسيد حسن الكليدار (1/31) ، في حين يعتبرها الثامنة صاحب كتاب " تأريخ مرقد الحسين والعباس (عليه السلام) " للسيد هادي طعمة (ص83) ، باعتبار أنَّ الذي قام بتشييدها السلطان معز الدين أويس ابن الشيخ حسن الجلائري ابن حسين بن أيليعا بن سبط أرعون ابن الغابن هولاكو خان ، الذي تولَّى في عام 757 هـ سلطة العراق بعد أخيه السلطان حسين الصغير ، وبنى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) وأقام عليه قبة على شكل نصف دائرة محاطة بأروقة كما هو عليه الحال اليوم .
وقد بوشر بالعمل في عام
767 هـ ، وأكمله ابنه أحمد بن أويس سنة 786 هـ . فقد كان الواقف عند مدخل باب
القبلة من الخارج يشاهد الضريح والروضة بصورة واضحة وجليَّة ، كما شيّد البهو
الأمامي للروضة الذي يعرف بإيوان الذهب ، ومسجد الصحن حول الروضة على شكل مربع .
واعتنى عناية فائقة بزخرفة الحرم من الداخل والأروقة بالمرايا والفسيفساء والطابوق
القاشاني . كما أمر السلطان أحمد الجلائري بزخرفة المئذنتين باللون الأصفر من
الطابوق القاشاني ، وكتب عليها تأريخ التشييد وهو عام 793 هـ
(14) .
وبقيت هذه العمارة على القبر الشريف حتى يومنا هذا .
صورة قديمة للمرقد الشريف :
ولكن الترميمات مستمرة على الروضة الحسينية عبر السنين المتعاقبة ، لا سيَّما بعد الدمار الشامل الذي تعرضت له مدينة كربلاء المقدسة إبّان الانتفاضة الشعبانية عام 1991م ؛ إثر تعرضها للقصف العشوائي بالمدافع والدبابات والطائرات العمودية ، التابعة للحرس الجمهوري بقيادة صهر الرئيس العراقي المخلوع حسين كامل . وخلّف ذلك القصف فجوة في قبة سيدنا العبَّاس (عليه السلام) ، وانهيار سورَي الصحن الحسيني والعبَّاسي في بعض أجزاءه ، وتصدّع الجدران الداخلية للمرقدين الشريفين .
صور توثيقية :
وما أشبه اليوم بالبارحة ، فأنَّ التاريخ أثبت لنا بالدليل القاطع أنَّ كل مَن يشترك بقتل وظلم الإمام الحسين (عليه السلام) ، فأنَّ الله سبحانه ينتقم منه في الدنيا شر انتقام ، ناهيك عن خزي الآخرة وعذابها الذي لا يبور .
عمر بن سعد الذي اقترف جريمته النكراء بقتله الحسين (عليه السلام) طمعاً بملك الري ، لم يقف جرمه إلى ذلك الحد ، بل تعدَّاه إلى أن وصل به الحال أن يطلب من أصحابه قائلاً : عليّ بالنار لأحرق بيوت الظالمين على أهلها! . وهكذا أضرم النار في خيام أهل بيت النبوة . وبالرغم من كل تلك الانتهاكات والمآثم ، فإنَّه لم ولن يحصل على ضالته المنشودة ، بل إن الصحابي الجليل المختار بن يوسف الثقفي ، وبعد مرور أربع سنوات من الحادثة المؤلمة ، قد أذاقه وبال أمره ، إذ قتله وشلَّته المجرمة شر قتلة ، وألقى بهم جميعاً في مزبلة التاريخ .
كذلك حسين كامل عندما
اقتحم جيشه كربلاء المقدَّسة بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة ، وقف أمام باب قبلة
الإمام الحسين (عليه السلام) ونادى بأعلى صوته ، مخاطباً الإمام بقوله : أنت حسين
وأنا حسين ، لنرى أيَّاً منَّا قد انتصر على الآخر . كل ذلك حصل طمعاً بالجائزة
والمناصب العليا من سيده صدام ، بَيْد أنَّ الذي حصل ، وبعد أن استفحل النزاع بينه
وبين أزلام نظامه على السلطة ، وتفاقمت الأزمات عليه من كل حدب وصوب ، ما حدى به
الهرب إلى الأردن طلباً للشهرة والأمان ، ولكنَّه انخدع بأمان سيده وقفَل راجعاً
إلى العراق بعد أربعة أشهر عجاف قضاها في الغربة ، وما كان يدري أن سيف البغي الذي
أسلطه على رقاب أتباع الحسين (عليه السلام) في العراق ، قد كان بانتظاره على الحدود
العراقية الأردنية ، حيث فتك به بعد أن أوثقوه كتافاً إلى بغداد ، وبأيدي أسياده
الظلمة الذين تمرَّد عليهم برهة من الزمن ، ولن تتشفَّع له ندامته على ذلك! وهكذا
كان مصداقاً للمثل القائل : مَن سلَّ سيف البغي قُتلَ به .
العمارة الثامنة :
البدء بإنشاء الطابق الثاني للسور الخارجي للصحن الحسيني المبارك ، الذي سيضم متحف النفائس ومركز الدراسات التابع للمكتبة ، وأقساماً هندسية وإدارية ، وقاعات دراسية وأخرى للمؤتمرات والندوات العلمية ، وهو مشروع مكمِّل لتسقيف الصحن وإلحاقه بالحرم المطهَّر ؛ بإمكانه أن يسع خمسة أضعاف أو أكثر من الوضع الذي كان يسعه الحرم في السابق . وهذا المشروع الضخم سيؤرِّخ لمرحلة جديدة في تاريخ الحرم الحسيني الشريف ، الذي بوشر العمل به في رجب عام 1426هـ ، ومن المؤمَّل أن يتم انجازه في غضون سنتين من تاريخ المباشرة .
صور حديثة للمرقد الشريف :
ــــــــــــــــــــــــــــ
*
المصدر : إعداد قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) للتراث
والفكر الإسلامي ، بالاستفادة من : موقع العتبة الحسينية المقدَّسة ، ومن : دائرة
المعارف الحسينيّة ، محمّد صادق محمّد الكرباسي ، ج 106 ، ص 241 ـ 302 ، و من :
تاريخ المراقد ـ الحسين وأهل بيته وأنصاره ، ج 1 ، إصدار المركز الحسيني للدراسات ـ
لندن ، المملكة المتّحدة ، ط 1، سنة 1419 هـ / 1998 م .
(1) انظر : موسوعة ويكبيديا الإلكترونية على الإنترنت .
(2) طعمة ، د . سلمان هادي ، تاريخ مرقد الحسين والعبَّاس (عليهما السلام) : 71 ،
نقلاً عن تاريخ الطبري : ج2 .
(3) المصدر السابق ، نقلاً عن : الصدر ، السيد حسن ، نزهة أهل الحرمين في عمارة
المشهدين : 23 ، ط كربلاء ، وراجع أيضاً : آل طعمة ، السيد حسن الكليدار ، تاريخ
مدينة الحسين (عليه السلام) : 1 /20 .
(4) المصدر السابق : 74 ، وراجع أيضاً : مدينة الحسين (عليه السلام) ، مصدر سابق :
1 / 20 .
(5) المصدر السابق : 76 ، نقلاً عن تاريخ الطبري : 11 / 44 .
(6) المصدر السابق : 1 / 23 .
(7) المصدر السابق : 78 ، نقلاً عن مدينة الحسين (عليه السلام) ، مصدر سابق : 1 /
24 .
(8) المصدر السابق : 79 ؛ ومدينة الحسين (عليه السلام) ، مصدر سابق : 1 / 24 . يقول
: إنَّ سقوط البناء تمَّ في سنة 270 هـ .
(9) تاريخ مدينة الحسين والعباس (عليهما السلام) : 79 ، نقلاً عن : آل طعمة ، د.
عبد الجواد الكليدار ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 215 .
(10) المصدر السابق : 79 .
(11) المصدر السابق : 81 ، نقلاً عن : ابن الأثير ، تاريخ الكامل : 9 / 122 .
(12) و(13)