عصمة الزهراء البتول (عليها السلام)
عندما نقدّس الصدّيقة الزهراء(عليها السلام)، فإننا لا نقدس انتسابها للرسول(صلى الله عليه وآله)فحسب، وإنما نقدّس فيها صفاتها المثلى وخصالها الحميدة التي تجعلها قدوة نقتدي بها ونبراساً نستضيء بنوره، ومثلاً أعلى نسير على هديه ونستلهم منه الدروس والعبر، فقد انطلقت الزهراء البتول بعلمها وعبادتها وإخلاصها لله ورعايتها لرسول الله ولأمير المؤمنين حتى ارتفعت إلى مقام العصمة وسمت إلى مرتبة القداسة، لا تدنِّسها الآثام، ولا تقترب منها الذنوب، وتركت لنا المثل الأعلى عن المرأة التي عاشت حياتها من أجل الله وأغمضت عينيها مفارقةً الحياة وهي تلهج بذكر الله.
إننا نعتقد أن الزهراء(عليها السلام) معصومة عن الخطأ والزلل والسهو والنسيان، فلم ترتكب في حياتها معصية مهما كانت صغيرة.
ويمكن أن نستدل على عصمتها بثلاثة أدلّة تضاف إلى ما تقدم من قول النبي(صلى الله عليه وآله): ((فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني)).
الأول: إننا لو درسنا حياتها منذ ولادتها إلى حين وفاتها؛ حياتها مع أبيها ومع زوجها ومع أولادها ومع الناس جميعاً، لما وجدنا لها خطأً في فكر أو زلّة في قول أو اشتباهاً في فعل، فقد كانت حياتها(عليها السلام) تجسد العصمة أتمّ تجسيد.
الثاني: إنها من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فتشملها آية التطهير:(إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) في ما تشمل من أهل البيت، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، والذين كانت الآية دليلاً على عصمتهم. فآية التطهير هذه شهادة حق لا ينال منها الباطل على عصمة الزهراء(عليها السلام).
وعندما نستدل بآية التطهير على عصمتها، فهذا لا يعني أبداً أنها وقبل نزول الآية لم تكن معصومة، بل كانت(عليها السلام)معصومة حتى قبل نزولها عصمةً كاملة يشهد لها بها سلوكها، وآية التطهير إنما جاءت لتكشف عن عصمتها لا أنها تمنحها العصمة.
الثالث: إن فاطمة الزهراء(عليها السلام)هي سيدة نساء العالمين كما جاء في الحديث المشهور عند الفريقين، ولا يمكن أن تكون امرأة في مستوى سيدة نساء العالمين إلا وتكون الإنسانة التي تعيش الحق كله في عقلها وقلبها وحركتها، ولا يمكن أن يزحف الباطل إلى شيء منها في ذلك كله.
حقيقة العصمة:
إنّ رأينا في عصمة أهل البيت(عليها السلام) بما فيهم الزهراء(عليها السلام)، هو أنّ الله سبحانه أودع فيهم من عناصر العلم والروح وخصائص القدس ما يذهب به الرجس عنهم ويحقق الطهارة فيهم، لقد أعطاهم نوراً يتحركون فيه من خلال وعيهم لكل خطوط النور وآفاقه، وأعطاهم العلم والروحانية التي تلتقي بوعي الله ومعرفته، ووعي الإسلام في عمقه وامتداده، بحيث يتحركون بالطهر بوعي، ويبتعدون عن الشر بوعي، لأن هذه العناصر التي أعطيت لهم هي التي تعمّق الوعي والإرادة فيهم، ولكنها لا تحرّكهم تلقائياً وبغير اختيار. فلا يقولنَّ قائل إن معنى العصمة التكوينية المستفادة من الآية الشريفة(إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ ...) تعني أن الله سبحانه يسلبهم الاختيار فيكونون الطاهرين بغير اختيارهم والبعيدين عن الرجس بغير اختيارهم، بحيث يتحركون بالطهر تحركاً آلياً كما تتحرك الآلة من دون وعي، فإن هذا التوهّم فاسد، لأنّا وإن قلنا إن الله هو الذي أودع فيهم عناصر القداسة والروحانية والعلم، لكن هذا لا يستلزم سلبهم الاختيار وأن يصيروا كالآلة الجامدة أو العصا في يد صاحبها، لأن هذه العناصر الآنفة تعمق الوعي فيهم كما أسلفنا، لا أنها تسلبهم الاختيار.
إذاً، كانت عصمة الزهراء(عليها السلام)عصمة إرادية انطلقت من وعيها ومن لطف الله الذي كرّم وجهها عن السجود للأصنام وفعل المعاصي، كما كرّم وجه زوجها علي(عليه السلام)عن السجود للأصنام قبل البعثة وبعدها، وهذا بخلاف كثير من رجال المسلمين ونسائهم ممن سجدوا قبل الإسلام للصنم، أما الزهراء(عليها السلام) فكان سجودها لله منذ عرفت السجود، وكان ركوعها لله منذ عرفت الركوع، وكان قيامها تسليماً لله مذ عرفت القيام.
لماذا هم دون سواهم؟
وقد يقول قائل: لماذا أعطى الله أهل البيت(عليهم السلام) العصمة ولم يعطها لغيرهم؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بجوابين:
الأول: هو قوله تعالى:( لاَ يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) .
الثاني:إن الله سبحانه وتعالى سخّر الكون للإنسان وعمل على أن يصلح أمره في الدنيا والآخرة، وأعطى الكون شمساً لا ظلمة فيها، وأنزل للإنسان قرآناً منيراً، وقضت حكمته أن يخلق نماذج بشرية تكون نوراً متكاملاً في عقلها وقلبها وكل حركاتها، لتكون شمساً للإنسانية بإزاء القرآن، كما أن للكون شمساً ترفده بالضياء، فاختار من خلقه نماذج ليكونوا الشمس التي تبعث بالنور والهداية للإنسان كله :( وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ )،(إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، اختار هؤلاء وجعلهم أنبياء وحمّلهم رسالاته، لأن مصلحة الإنسانية الغارقة في الظلمات أن يكون هناك إنسان يعمل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهذه وظيفة الأنبياء، فهم الكتاب الناطق ويحملون معهم الكتاب الصامت، ليتكامل الكتابان ـ الصامت والناطق ـ ويسيران معاً في رحلة الهداية والتزكية(هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الْأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ـ ولا يكتفي بتلاوتها ـوَيُزَكّيهِمْ ـ بأن يعطيهم التزكية في قلوبهم وعقولهم وحياتهم ـ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ) ـ بما في الكتاب من أسرار ومفاهيم ـ والحكمة ـ في حركة الواقع). فدور النبي هو دور الإبلاغ والتعليم والتربية والتزكية، حتى يعطي الناس نوراً من عقله الذي هو عقل الكتاب، ونوراً من قلبه الذي هو قلب الكتاب، ونوراً من خُلقه الذي هو خلق القرآن، كما قالت زوجته عائشة: (كان خلقه القرآن)، ونوراً من حياته التي هي حركة الكتاب في الواقع. وهذا بعينه ينطبق على الأئمة(عليهم السلام)، فإنهم في معنى الإمامة امتداد للنبوّة:((يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))، فالإمامة نبوة في المضمون لا العنوان، ودور الإمام كدور النبي، وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وحراسة الإسلام وحياطته من كل تحريف أو تشويه أو ظلمة تزحف إليه، لهذا كان لا بد أن يعطى الإمام من اللطف الإلهي ما يعطاه النبي .
سرّ عصمتها:
وهنا سؤال آخر يفرض نفسه وهو: ما السر في عصمة الزهراء(عليها السلام)، مع أنها لم تكن في موقع النبوّة أو الإمامة الذي يحتّم ـ بمقتضى ما تقدم ـ أن يكون صاحبه معصوماً، لأن مهمته، وهي تغيير العالم على صورة الحق، تفرض أن لا يكون فيه شيء من الباطل، ولكن الصدّيقة فاطمة(عليها السلام) لم تكن إماماً ولا نبياً ـ وإن كانت بنت النبوّة وسر الإمامة، لأنها والدة الأئمة المعصومين وزوجة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ فما السر في عصمتها؟
أولاً: إن الله عندما لطف بالزهراء(عليها السلام) فأعطاها العصمة وأذهب عنها الرجس وطهرها تطهيراً، أراد أن يوحي للناس رجالاً ونساءً أن المرأة يمكن أن ترتفع وتسمو في تكريم الله لها فتصل إلى أعلى المراتب وهي مرتبة العصمة.
ثانياً: إن الله يريد أن يجعل للمرأة دوراً في الحياة يقارب دور النبوة والإمامة التي كانت من نصيب الرجال، فإن هذا ما نستوحيه من وصول المرأة ـ كالزهراء ـ إلى مرتبة العصمة المختصّة بالأنبياء.
ثالثاً: أراد الله أن يجعل المرأة، ممثلة بالزهراء(عليها السلام)، مثلاً أعلى للناس جميعاً لتكون قدوةً للنساء والرجال، والنموذج الأمثل الذي يحمل عقلاً نورانياً وقلباً نورانياً وعلماً ينفتح على الناس آخذاً بدور النبوة والإمامة في هذه المجالات.
لقد كانت الزهراء(عليها السلام) معصومة لأن لها دوراً في طبيعة موقعها وفي امتداد تأثيرها في الحياة، ليقال من خلال ذلك للمرأة بأن الله كرّمك وفتح أمامك الآفاق لترتقي وتصلي إلى أعلى المراتب إذا ما تحركت على خطى هذا النموذج واقتديت به، وليقال من خلالها للرجال إنّ عليكم أن تقتدوا بالمرأة المعصومة كما تقتدون بالرجل المعصوم، لأن الوصول إلى مقام العصمة لا فرق فيه بين الرجل والمرأة.
هكذا كرّم الإسلام الزهراء(عليها السلام) ومن خلالها المرأة، كما كرّم الرجل، كرّمهما معاً من خلال تكريمه لإنسانيتهما وعناصر الخير التي يختزنانها( وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ ) ، فالتكريم الإلهي ليس مختصاً بالرجل، بل هو شامل لكل بني آدم على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأنواعهم، ذكوراً وإناثاً، بيضاً أو سوداً، عرباً أو عجماً..
رواية مخالفة للقرآن:
ولهذا فإننا نرفض كل الروايات التي تحط من شأن المرأة وإنسانيتها، كما نرفض الروايات التي تحط من شأن بعض الأقوام والأعراق، ونعتقد أن المعصوم لا يصدر عنه أمثال هذه الروايات المخالفة للقرآن الكريم .
فمن الروايات التي تحط من شأن المرأة ما نُسب إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال:((المرأة شر كلها وشر ما فيها أنه لا بد منها))، فإننا نشك أن هذه الكلمة للإمام علي(عليه السلام)، وذلك:
1_ إن الإمام علي(عليه السلام) وسائر الأئمة المعصومين ومن قبل جدهم رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قد علّمونا أنهم لا يقولون ما يخالف كتاب الله، وأن كل ما ينسب إليهم مما يخالف كتاب الله فهو زخرف، وهذه الرواية تخالف كتاب الله، إذ كيف تكون المرأة شراً كلها والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً )، ويقول:( وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ ) . فالإنسان لم يخلق شريراً في أصل خلقته، بل خلق على: (فِطْرَتَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ )،وفي الحديث الشريف :((كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه)).
2_ ما المراد بكون المرأة شراً؟ هل ذلك باعتبار عنصر الإغراء، فالرجال يمثلون عنصر إغراء للمرأة كما المرأة عنصر إغراء للرجل، وأغلب النساء يغريهن الرجال ويخدعونهن، وقد عبّر أحمد شوقي عن ذلك بقوله:
خدعوها بقولهم حسناء والغـواني يغرّهن الثنـاء
3_ وعلى فرض أن عنصر الإغراء عندها شر، فكيف توصف المرأة بأنها شر بقول مطلق والإغراء عنصر من عناصر شخصيتها وليس جميع عناصرها؟! فهل فكرها شر، أو أن عاطفتها التي تحضن من خلالها أطفالها شر، وهل عباداتها شر؟!
4_ ثم إذا كانت المرأة شراً كلها، فكيف يعاقبها الله تبارك وتعالى إذا كان هو الذي خلقها كذلك؟! ألا يحق لها أن تحتجّ بالقول: أنت خلقتني من الشر وجعلتني شراً، فلم تعاقبني على فعل الشر وهو مودع في أصل خلقتي التي لا دخل لي فيها؟!
5_ ما معنى (وشر ما فيها أنه لا بدّ منها)، هل من جهة الحاجة إليها في التناسل؟ فالرجل كذلك، فإنه طرف في عملية التناسل فلمَ لم يكن شراً؟! وهل يعقل أن يكون الإنسان الذي يمثل ضرورة شراً كله؟! فالشمس تمثل ضرورة للحياة حتى تستمر وتبقى، فهل يصح أن نقول إنها شر؟!
6_ على أننا نربأ بعلي(عليه السلام) أن يتكلم بهذه الطريقة، وسيرته تكذّب صدور هذه الكلمة عنه، لأنه أكرم المرأة أيّما إكرام، وأحسن إليها أيّما إحسان، وهو العارف أن في النساء من يفيض الخير منهن وأن في الرجال من هم في غاية الشر، وأن في النساء من تفوق الرجال أدباً وعلماً وعملاً.. وإن حياته مع الزهراء(عليها السلام) تؤكد ذلك، فهو الذي أحبّها واحترمها وأجلّها وآلمه فقدها أشدّ الإيلام، مع أنّها(عليها السلام) امرأة من النساء وإن امتازت عنهن بخصائص عديدة جعلتها تجسد العصمة والطهارة والقداسة في أقوالها وأفعالها، ولكن هذا الامتياز يؤكد المسألة ولا ينفيها، أي يؤكد عدم صدور هذه الكلمة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، لأنها كلمة غير مفهومة ولا نجد لها محملاً صحيحاً، وإذا كان هناك من يحاول صرفها إلى امرأة بعينها لتكون ( أل) التعريف عهدية وليست للجنس، فهذا لا يصح، لأن الكلمة حسب ما يظهر منها واردة على نحو الإطلاق.
وقد قرأت في كتاب (بهجة المجالس) أنّ هذه الكلمة هي للمأمون العباسي، وربما نسبت خطأً لأمير المؤمنين (عليها السلام).