فاطمة الزهراء(عليها السلام) ميزان الحق
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّا أَعطَينَاكَ الكَوثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَر. إنَّ شانِئَكَ هُـو الأبتَر).
السلام عليك يا رسول الله. السلام على أمين لله على وحيه وعزائم أمره. الخاتم لما سبق. والفاتح لما اُستُقبِل والمهيمن على ذلك كله ورحمة الله وبركاته.
السلام عليك يا سيدي يا أمير المؤمنين ومولى المتقين علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته.
عظّم الله لكما الأجر باستشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ويهنيكم اجتماعكم في المقام المحمود في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
يا سادتي إنّ قلوب المؤمنين حرّى، وجمرة حزنهم ولوعة مصابهم متّقدة لا تنطفئ أبداً، حتى ينتصف المظلوم من الظالم، ويعود الحقّ إلى أهله ويرثَ الأرض ومن عليها عبادُ الله الصالحون، أو يختار الله لنا لقاءكم ومرافقتكم.
لا يعرف قدر فاطمة إلاّ خالقها، حين جعلها من أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وإلاّ أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الصادق الأمين الذي قال فيه الله تبارك وتعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَن الهَوَى، إنْ هُوَ إلاّ وَحيٌ يُوحَى)،(النجم/3-4) : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) ، (الحاقة/44-46) الذي قال فيها: (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها) وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) مخاطباً إياها: (إنّ الله يغضب لغضبكِ، ويرضى لرضاك) ، فهي ميزان الحقّ، وبها يُعرف طريق الهدى، ويُنال رضى الله تبارك وتعالى، فلا يصل إلى الهدف المنشود من لم يوالي فاطمة، ويسير على نهج فاطمة، ويجعل فاطمة معياراً لتمييز الحقّ من الباطل، وهكذا أرادها الله تعالى ورسوله الكريم أن تكون للأمة حتى لا تضلّ وتشتتها الأهواء.
لكنّ الأمّة الغافلة الطائعة لهواها، المستسلمة إلى أمراضها النفسية، وعُقدِها الاجتماعية، أعرضت عن هذا كله ولم تصغِ إلى موعظة الزهراء وتذكيرها وإنذارها لهم بين يدي عذاب شديد: (فنعم الحكَم الله والزعيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقرٌ وسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) وقالت (عليها السلام) : (ويحكم أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتّبع، أمن لا يهدِّي إلاّ أن يهدى فمالكم كيف تحكمون؟! أمَا لعمري لقد لُقِحتْ، فَنَظِرَةٌ ريثما تُنتج، ثُمّ احتلبوا ملئ العقب دماً عبيطاً وذعافاً مبيداً، هنالك يخسر المبطلون ويعرف الباطلون غبَّ ما أسس الأولون، ثُمّ طيبوا عن دنياكم نفساً، وطامنوا للفتنة جأشاً، وابشروا بسيفٍ صارم، وسطوة معتدٍ غاشم، وبِهَرجٍ شامل، واستبداد من الظالمين: يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً فيا حسرتا لكم! وأنّى بكم وقد عميت عليكم أن لزمكموها وأنتم لها كارهون).
فصدقَ عليهم قول ربّ العزّة والجلال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (آل عمران144).
بل عدَتْ الأمّة على دارها التي شرّفها الله تبارك وتعالى، وأغلق جميع الأبواب الشارعة إلى مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ بابها، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يدخل إلى هذه الباب إلاّ بعد الاستئذان، إعلاءاً لشأنها، فأحرقوا الباب، وضربوا سيدة نساء العالمين، وأسقطوا جنينها، واغتصبوا إرثها من أبيها، ونكثوا بيعة أمير المؤمنين (عليها السلام)، فخرجت مطالبة بحقها، مدافعةً عن إمامها، وقائدها الحقّ، فاضحة للأئمة المتقدسين الذين خدعوا الأمّة بمعايير زائفة، وخلّفوا وراء ظهورهم ميزان الحق: فاطمة الزهراء مظهر الرضى والغضب الإلهي بنصّ الأحاديث النبوية الشريفة المتقدمة.
ولم تسكت الزهراء عن الظالمين، والمنحرفين، والفاسدين، والمتاجرين بالدين، والمتسلطين على رقاب الأمّة بغير حق، وخلّدت هذه الثورة بتساؤلات تدفع كُلّ باحث عن الحقيقة، إلى التحقيق والتمحيص حتى يهتدي بنور فاطمة، لماذا تغادر فاطمة الدنيا وهي ابنة ثمانية عشر عاماً في عمر الزهور؟
ولماذا تدفن ليلاً ولا يحضر دفنها كُلّ أصحاب أبيها عدا عدد الأصابع ممن اختارتهم هي وأمير المؤمنين! ولماذا يُعفى موضع قبرها؟
أي جريمة ارتكبتها الأمّة في حقها وحقّ أبيها حتى حُرِموا من هذه النعمة؟ وهل يمكن أن يكون جزاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في وديعته هذا الصنيع وهو القائل لأمته بنصّ القرآن الكريم: (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى23).
إنّ احتفالنا بذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ليس إثارةً لتأريخٍ مضى وأصبح أرشيفاً، وإنما يعني الاهتداء لطريق الحقّ الذي رسمته ورضيت عنه (صلوات الله عليها) ما دام رضاها علامة على رضى الله تبارك وتعالى، ورفضها دليلاً على غضبه سبحانه.
ويعني العودة إلى التوحيد الخالص والتحرر من عبودية الذات والأطماع والهوى والأنانية والمصالح وطاعة الطواغيت وتقديس السلف وغيرها من الأصنام التي تغلّ العقل والقلب عن الانفتاح على الحرية الحقيقية.
ويعني رفض الظلم والفساد والانحراف والتسلط على رقاب الأمّة بغير حق.
ويعني الوحدة الحقيقية للأمة تحت راية القيادة الحقّة حيث قالت عليها السلام : (وجعل الله طاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة).
إلاّ ترون إلى هذه البشرية الضالة التائهة التي مزّقتها الحروب، وتفشّى فيها القتل، ونحن في العراق نفقد يوميا العشرات من الأبرياء ولم تنفع ألف مصالحة وطنية ومؤتمر للوفاق وآخر للحوار ومؤتمرات للوحدة وغيرها من الأسماء والمسميات الخاوية لأنّها غير مبتنية على أساس صحيح؟ ولأنّها لا تصدر عن نوايا صادقة، ولا تراعي المبادئ الإنسانية العليا، وإنما تُقَنن لترعى المصالح الشخصية والفئوية، وترسخ الأنانيات، وتحكّم شريعة الغاب، حيث لا مكان إلاّ للعنف والعدوان والظلم.
يا أحباب الزهراء:
إنكم بفعاليتكم المباركة هذه تسنّون للأجيال القادمة شعيرة مقدسة، نحيي فيها كُلّ معاني الحركة الرسالية لفاطمة الزهراء، ونجدد قضية الزهراء لنعرضها للعالم، فقد آن الأوان إلى أن تُنصِف الأمّة فاطمة الزهراء، وكفى الإهمال والتضييع لأكثر من ألف وأربعمائة عام، فاصبروا وصابروا وجاهدوا لترسيخ هذه السُنة الشريفة فإنّ الإمام الصادق (عليها السّلام) عدّها من أقسام الجهاد قال (عليه السّلام): (وأمّا الجهاد الذي هو سنّة، فكل سنّة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها، وبلوغها، وإحيائها، فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنّها أحياء سنة وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
فلنبدأ من اليوم عملاً دؤوباً مستفيدين من كُلّ وسائل الاتصال والإعلام والتبليغ، لنعرّف البشرية جميعاً طريق الحق الذي رسمته فاطمة الزهراء وستلقون من الله تبارك وتعالى تأييداً ونصرةً وقبولاً، فإنكم ترون العالم اليوم مقبلاً على تعاليم أهل البيت السامية، وقد فتح أعينه على إسلام جديد غيّرَ الصورة البشعة التي سنّها من ظلمَ الزهراء (عليها السّلام) وغصَبها حقها وسار على نهجه من هم على شاكلته إلى اليوم .
ففرص الهداية إلى طريق الحقّ اليوم عظيمة فاغتنموها ببركة قضية الزهراء .
وتذكّروا قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ (عليه السلام) مرغبّاً: (يا علي لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وما غربت).
يا شيعة أمير المؤمنين وكفى بهذا العنوان فخراً وعزّاً.
اجتمعنا هذا اليوم هنا في ارض النجف الشريف لنعزّيَ أمير المؤمنين (عليها السّلام) الذي جلس في مثل هذا اليوم على قبر الزهراء يخطه بأنامله وقد فاضت عيناه بالدموع وهو يقول: (السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة بجوارك والسريعة اللحاق بك. قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقَّ لها تجلدي، إلاّ أن لي في التأسي بمصيبتك موضع تعزٍ إذ وسّدتك في ملحودة قبرك بيدي وفاضت نفسك بين نحري وصدري،بلى وفي كتاب الله لي أنعُم القبول. إنا لله وإنا اليه راجعون. لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة وأخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء. يا رسول الله، أما حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمُسهّد، وهمٌّ لا يبرح من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم. وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها، فأحفّها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلجٍ بصدرها، لم تجد إلى بثه سبيلا، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين. فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، وتهضم حقّها، ويمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلُ منك الذكر، والى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك يا رسول الله أحسن العزاء، وصلى اللهُ عليك وعليها السلام والرضوان. فإن أنصرف فلا عن ملالة وان أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين).
يا أحباب الزهراء، أيها التوّاقون لشفاعتها والمفجوعون بمصيبتها.
قوموا لنرفع الظُلامة عن فاطمة الزهراء، وننصرها، ونظهر عزّتها وكرامتها، ونشيّعها نهاراً جهاراً ولنرغم أنوف ظالميها وشانئيها وتوسّلوا إلى الله تعالى بفاطمة الزهراء لقضاء حوائجكم، وأن يكشف البلاء عن هذا البلد الكريم وشعبه الأبيّ، وأقسِموا على الإمام المهدي الموعود (عجّل الله فرجه الشريف) بجدّته فاطمة فإنّه لا تُردُّ لكم حاجة، وأسأل الله تعالى أن لا يضيّع لكم جهداً أو عناءاً، ويدخلكم في شفاعة الزهراء، حين تلتقط شيعتها ومحبّيها يوم المحشر كما يلتقط الطير الحبّ الجيد من الحب الرديء، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.