عبادة الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ومنزلته العظيمة
أمّا عبادته (عليه السّلام)
روي عنه (عليه السّلام) أنّه إذا توضّأ اصفرَّ لونُه ، فيُقال له : ما هذا الذي يَعتَادُك عند الوضوء ؟
فيقول (عليه السّلام) : (( أتَدْرُونَ بَين يَدَيْ مَن أُريدُ أنْ أقِف ؟ )) .
ومن كلماته (عليه السّلام) : (( إنَّ قوماً عبدوا اللهَ رَهبةً فَتِلْكَ عبادة العبيد ، وآخرين عَبدُوه رغبة فَتِلْكَ عبادة التُجَّار ، وقوماً عبدوا الله شُكراً فَتِلْكَ عِبادَةُ الأحرار )) .
وقال رجل لسعيد بن المُسيَّب : ما رأيت رجلاً أورع من فلان ـ وسمَّى رجلاً ـ .
فقال له سعيد المسيَّب : أما رأيت عليَّ بن الحسين (عليهما السّلام) ؟
فقال : لا .
فقال المسيَّب : ما رأيتُ أورع منه .
وقال أبو حازم : ما رأيت هاشميّاً أفضل من علي بن الحسين (عليهما السّلام) .
وقال طاووس : رأيت عليَّ بن الحسين (عليهما السّلام) ساجداً في الحجر ، فقلت : رجل صالح من أهل بيت طيِّب ، لأسمعنَّ ما يقول .
فأصغيتُ إليه فسمعته (عليه السّلام) يقول : (( عُبَيدُك بِفِنائك ، مِسكينُك بِفِنائك ، سَائِلُك بِفِنائك ، فَقيرُك بِفِنائك )) .
قال طاووس : فوالله ما دعوتُ بِهِنَّ في كرب إلاّ كُشِف عَنِّي .
وكان (عليه السّلام) يُصلِّي في كلِّ يوم وليلة ألف ركعة ، فإذا أصبح سَقط مغشياً عليه ، وكانت الريح تُميلُه كالسنبلة .
وأمّا منزلته العظيمة (عليه السّلام)
لقد كان (عليه السّلام) مُهاباً وجليلاً بين الناس بشكل كبير ، حتى إنّ هذه المنزلة العظيمة جَعَلت الاُمَراء والحُكَّام يحسدونه عليها ، والتأريخ يذكر لذلك شواهد كثيرة ومتعدِّدة .
ومن ذلك : لمَّا حجَّ هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة ، اجتهد أن يستلم الحَجَر الأسود فلم يقدر على ذلك من شِدَّة الزحام ، فَنُصِب له منبر فجلس عليه ، وأطاف به أهل الشام .
فبينما هو كذلك إذ أقبل عليُّ بن الحسين (عليه السّلام) وعليه إزار ورداء ، مِن أحسن الناس وجهاً ، وأطيَبِهم رائحةً ، بين عينيه ثَفْنة السجود ، فجعل يطوف ، فلمَّا بلغ موضع الحجر مَال عنه الناس ، وتنحَّوا حتى يستلمه ؛ هيبة له ، فقال شاميٌّ : مَنْ هذا يا أمير المؤمنين ؟
فقال : لا أعرفه ؛ لئلاَّ يرغب فيه أهل الشام .
فقال الفَرَزدق ـ وكان حاضراً ـ : لكنِّي أنا أعرفه .
فقال الشاميُّ : مَنْ هو يا أبا فراس ؟
فأنشد قصيدته المشهورة التي منها :
هَذا الذي تَعرفُ البطحاءُ وطأتهُ | والـبيتُ يَعرفُه والحِلُّ والحَرَمُ | |
هـذا ابـنُ خَيرِ عبادِ الله كُلِّهمُ | هَـذا التَّقيُّ النَّقي الطاهرُ العَلَمُ | |
هـذا الذي أحمَدُ المُختارُ وَالدُهُ | صَلَّى عليه إلهي مَا جَرَى القَلَمُ |
إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأمَّة ، وشطَّرها جماعة من الشعراء .
فغضب هشام ومنع جائزته ، وقال : ألا قلت فِينَا مثلها ؟
قال : هاتَ جَدّاً كَجَدِّه (صلّى الله عليه وآله) ، وأباً كأبيه (عليه السّلام) ، وأُمّاً كأمِّه (عليها السّلام) حتى أقول فيكم مثلها .
فَثَـقُل ذلك على هشام ، فأمر بِحبْسِه فَحبَسَوه ، فبلغ ذلك الإمام السجّاد (عليه السّلام) ، فبعث إليه باثني عشر ألف درهم ، وقال : (( اعذرنا يَا أبا فِراس ، فلو كان عندنا أكثر من هذا لَوَصلناك به )) .
فردَّها أبو فراس وقال : يابن رسول الله ، ما قلتُ الذي قلتُ إلاَّ غضباً لله ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) ، وما كنت لأرزأ عليه شيئاً .
فردَّها الإمام (عليه السّلام) إليه ، وقال : (( بِحقِّي عليك لما قبلتَها ، فقد رأى اللهُ مكانَك ، وعَلِم نيَّتَك )) .
فقَبلَها أبو فراس ، وجعل يهجو هشاماً وهو في الحبس ، فأُخبِر هشامٌ بذلك ، فأطَلَق سراحه من الحَبس .