التكريم والتشريف

نلاحظ من خلال القرآن الكريم ومسيرة التاريخ الرسالي لكل الرسالات الإلهية أن الله تعالى شاء بلطفه وكرمه وفضله على أنبيائه بأن يجعل من ذرياتهم أئمة وهداة يقومون بهذا الواجب الإلهي تكريما لهم ونعمة منه تعالى عليهم ، وكان هذا التكريم في الوقت نفسه رغبة وأمنية من أمنيات الأنبياء أنفسهم ، تعبر عن حالة فطرية في الإنسان  لكامل هي الاتجاه والرغبة إلى البقاء والاستمرار من خلال ذريته ، وقد أكد هذه الحقيقة الفطرية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في عدة مواضع  إذن ، فهذه القضية هي قضية ترتبط بكلا الجانبين ، الجانب الإلهي الخالق المنعم الكريم الجواد المتفضل على أنبيائه ، المجيب لدعائهم وندائهم ، وبالجانب الإنساني العبودي ، المتمثل بهؤلاء الأنبياء الذين أخلصوا لله تعالى في العبودية – أيضا – فإنه من جملة إخلاصهم وإحساسهم بالعلاقة الأكيدة مع الله تعالى ، إنهم كانوا يتمنون على الله ويرجون منه ويدعونه في أن يجعل من ذرياتهم أئمة وهداة ، يضمن لهم البقاء والاستمرار في عبوديتهم لله تعالى ودورهم ومهمتهم في الحياة الإنسانية.

فهذا إبراهيم عليه السلام وهو شيخ الأنبياء ، عندما خاطبه الله تعالى وابتلاه بكلمات من عنده ، فجعله إماما للناس ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما . . . ) ، كان أول شئ يطرحه على الله تعالى ويرجوه منه ، عندما يحمله الله تعالى هذه المسؤولية ، هو أن تكون هذه الإمامة في ذريته – أيضا – ( . . . قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) ( 1 )

وكذلك الحال في إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يقيمان دعائم البيت ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) ، هؤلاء في البداية يطلبون القبول من الله تعالى لهذا العمل العظيم ، ثم يدعوانه تعالى أن يكونا مع ذريتهما من المسلمين المهتدين المنيبين إليه المقبولين لديه ، ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) .

ثم لا يكتفون بأن تكون هذه الذرية ذرية مسلمة مهتدية مقبولة ، بل تترقى هذه الدعوة بأن يطلبوا أن تكون هذه الذرية ذرية تتحمل مسؤولية النبوة والرسالة – أيضا – ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) ( 2 ) ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفتخر ويقول : ( أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام ) يعني كان يرى نفسه في تحمله لهذه الرسالة إن ذلك كان استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام عندما كان يرفع القواعد في البيت .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) البقرة : 124 .
( 2 ) البقرة : 129 .