ضرورة الإمامة

السؤال الأول : لماذا كان من الضروري أن تستمر الرسالة الإسلامية من خلال ( الإمامة ) ، مع أن هذه الرسالة هي رسالة خاتمة ، ثم لماذا لم يكن هذا الاستمرار بهذه الصورة في الرسالات السابقة ، بل كان من خلال النبوات التابعة ؟

أما عدم الاستمرار من خلال النبوات التابعة ، فلأن الاستمرار للنبوة في الرسالات السابقة كان أمرا طبيعيا ، وذلك للوصول بالرسالة والانسانية معا إلى مرحلة التكامل الرسالي والإنساني ، فكان من الضروري أن يأتي أنبياء تابعون للرسالة الإلهية التي يرسل الله تعالى بها نبيا من الأنبياء أولي العزم ، لأن الرسالات الإلهية كانت تتعرض إلى التحريف فيها لدرجة تفقدها دورها الرسالي المطلوب من ناحية ، كما أن الرسالات لم تبلغ التكامل الرسالي المفروض الذي بلغته في الرسالة الخاتمة من ناحية أخرى ، والانسانية لم تبلغ مرحلة التكامل الرسالي في ثبات الأصول والمبادئ الأساسية للرسالات الإلهية في مسيرتها من ناحية ثالثة ، فنحتاج إلى هذه النبوات التابعة التي قد يندمج فيها دور النبوة والإمامة في بعض الأحيان ، وقد ينفصل حسب طبيعة المرحلة والزمان ، فنشاهد أنبياء دون إمامة لإبلاغ الرسالة وبيان أو كشف ما تعرضت له من تحريف أو أوصياء دون نبوة ، ليكون دورهم هو مواصلة دور النبوة السابقة المحدود .

أما في الرسالة الخاتمة وبعد فرض تكاملها الرسالي والإنساني معا ، سواء على مستوى النظرية أو ثبات الأصول والمبادئ الأساسية للرسالة ، فنحن لسنا بحاجة إلى أنبياء تابعين ، ولذا انقطعت النبوة ( 1 ) .

وأما لماذا كان هذا الاستمرار من خلال خط الإمامة في الرسالة الخاتمة ؟

فقد أشرنا في حديثنا إلى أنه قد يبدو لأول وهلة أن الحاجة في الرسالة الخاتمة إلى الاستمرار والبقاء – بسبب أهميتها وجلالتها وسموها وامتيازاتها على الرسالات السابقة – أكثر من الحاجة بالنسبة إلى الرسالات السابقة ، لأنها الرسالة الأهم والأعظم ، فكيف لا تحتاج إلى من يتابعها ، مع أن الرسالات الأقل احتاجت إلى مثل هذه المتابعة ؟

والسبب في ذلك هو أن هذه الرسالة ، وإن أصبحت من حيث مضمونها ومحتواها الرسالي رسالة خاتمة وكاملة ، ولا تحتاج عندئذ إلى متابعة على مستوى ( الأنبياء ) لبيان أصل الرسالة وثبت الأصول ، لأن النبي صلى الله عليه وآله أكملها في بلاغها وعرضها على الناس ، وقد صرح القرآن الكريم بذلك : ( . . . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلم دينا . . . ) ( 2 )

إذن ، فالرسالة الخاتمة من هذه الناحية لا تحتاج إلى إكمال على مستوى البلاغ والتبشير والانذار الذي يتحمله الأنبياء عادة ، لمعالجة الانحرافات وتثبيت الأصول والأسس ، نعم قد تحتاج إلى إكمال بيان بعض التفاصيل ، ولكن ذلك وحده لا يحتاج إلى الإمامة ودورها الكبير في النظرية الإسلامية .

كما شاء الله سبحانه وتعالى أن تختص الرسالة الإسلامية من بين الرسالات الأخرى بضمانات ووسائل الحفظ من الضياع والتحريف المطلق في مضمونها ، وذلك من خلال عدة عناصر أساسية ومهمة ، يأتي في مقدمتها القرآن الكريم ، والمحافظة عليه من التحريف والزيادة والنقصان ، ببركة قيام النبي صلى الله عليه وآله بتدوينه ووجود العدد الكبير من الصحابة الأفذاذ الصالحين وفي مقدمتهم الإمام علي عليه السلام ، الذين تمكنوا من حفظ القرآن في الصدور ، وغير ذلك من الأسباب الغيبية أو المادية ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( 3 ) ولا شك أن لوجود أهل البيت عليهم السلام دور مهم وعنصر أساس – أيضا – في ذلك ( 4) .

وهي بذلك لم تعد بحاجة إلى نبوات تابعة ، ولكن مع ذلك كله ، تبقى الرسالة الإسلامية الخاتمة بحاجة إلى وجود متابعة لها على مستويات أخرى ، ومن أجل ذلك كان وجود الإمامة واستمرار الرسالة من خلالها ضرورة لازمة .

وبصدد توضيح ذلك ، أشير إلى ثلاث نقاط رئيسية ، لا بد من الاهتمام بها ومتابعتها وبحثها بدقة :

 

الإمامة والاختلاف في العبادة

النقطة الأولى : أن الأنبياء عندما يرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى عباده كانوا يقومون بمهمات ذات بعدين رئيسيين :

أحدهما : البلاغ والانذار لهؤلاء الناس فيبينوا الرسالة بتفاصيلها المطلوبة ، وهذا ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله في الرسالة الخاتمة ، وقام به الأنبياء السابقون – أيضا – في الرسالات الأخرى .

ثانيهما : مواجهة ظاهرة الاختلاف في المجتمع الإنساني والعمل على حله ، لأن الله تعالى يقول : ( . . . فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . . ) ( 5 )

وتدخل مهمة التزكية والتطهير ومهمة التعليم ، كنتيجة لهاتين المهمتين الرئيسيتين .

إذن ، قضية الاختلاف هي قضية مهمة جدا يواجهها الأنبياء في عملهم وحركتهم ، والاختلاف هنا هو اختلاف في المثل العليا التي يتخذها هؤلاء الناس للعبادة وفهمهم للحياة والكون وحركتهمالاجتماعية ، حيث يتخذ هؤلاء الناس لهم الآلهة المصطنعة – والمثل المحدودة ، أو التكرارية ( 6 ) والأسماء المزيفة المستلهمة من القوى الموجودة في هذا الكون ، أو الشهوات والأهواء والميول ، أو الطغاة والمستكبرين والمترفين ، أو من تقليد الآباء والأجداد – يعبدونها من دون الله .

ولما كان عمر الرسول محدودا – عادة – لا يستوعب الزمان الكافي لحل هذا النوع من الاختلاف خارجيا ، بحيث يمكنه من إزاحة جميع العوائق والموانع التي تقوم أمام الرسالة في حركتها الاجتماعية والانسانية ، تصبح الرسالة بحاجة إلى قيادة معصومة للحركة الاجتماعية وإدامة العمل لحل هذا النوع من الاختلاف ، وهذه الحاجة ثابتة في كل الرسالات الإلهية ، فكيف إذا كانت الرسالة رسالة خاتمة طويلة ، يراد لها أن تعم الأرض كلها ، وتزيل جميع الآلهة المصطنعة ، والأمثلة التي يبتدعها الإنسان وتنتصب في وسط الطريق .

لذا كانت الحاجة قائمة لوجود القائد وهو الإنسان الكامل الذي نعبر عنه بالإمام ، ليقود معركة تحرير الإنسان من كل هذه الآلهة والقيود ، وتحقيق العبادة المطلقة لله تعالى ، دون غيره من الآلهة ، وهو المثل الأعلى للحق ، لأن معركة التحرير هذه تحتاج إلى شخص يتصف بالاستيعاب الكامل والرؤية الواضحة للرسالة من ناحية ، والشعور العالي بالمسؤولية أمام الله تعالى في إدامة المعركة والإدارة القوية في إدارة المعركة التي تعتمد على جهاد النفس من ناحية أخرى .

وهذا السبب هو ما أشار إليه الشهيد الصدر قدس سره في حديثه حول ضرورة الإمامة بعد الرسول ، وقد أعطى الإمامة مضمونا شاملا ، يتحد مع النبوة أحيانا ، عندما تكون الحاجة إلى النبي والقائد معا ، ويفترق عنها أحيانا أخرى ، عندما تكون الحاجة إلى القائد وحده ، ولكنه على أي يرتبط بهذه المهمة الخاصة وهي قيادة المعركة ، وهو ما عبر عنه الشهيد الصدر قدس سره بقيادة المعركة التي يواجهها الأنبياء في المجتمعات الإنسانية ، لإزالة كل الأمثلة المزيفة والآلهة المصطنعة الذي يخترعها الإنسان ويبتدعها ، سواء كانت هذه الأمثلة المصطنعة والآلهة المزيفة عبارة عن طواغيت يحكمون بين الناس أو كانت شهوات وهوى يتحكم في مسيرة هؤلاء الناس ، أو كانت أفكار منحرفة يختلقها الإنسان ويبتكرها ، فيجعلها مثالا له يقتدي ويهتدي به ، فيتحول إلى إله يعبده من دون الله ، كما قال تعالى : ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطن . . . ) ( 7 ) فهي معركة إزاحة هذه الآلهة المصطنعة عن طريق الهدى والصلاح والخير الذي يقوده الأنبياء ( 8 )

وهذه المعركة عمرها أطول من عمر النبي ، فإن عمر الرسول مهما طال زمانه ، لا يستوعب زمان الاختلاف ، لأن الله تعالى جعل قضية الاختلاف بين الناس سنة من السنن الطبيعية التي تحكم حركة التاريخ في كل الأدوار ، فقضية الاختلاف ، قضية قائمة لا يختلف فيها زمان عن زمان ، ولا تنتهي هذه القضية إلا بنهاية حركة البشرية ، والقرآن الكريم يشير إلى ذلك – أيضا – في قوله تعالى : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة وحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم . . . ) ( 9 )

إذن ، فالمعركة ضد الاختلاف تحتاج إلى من يقودها ، وزمنها أطول من زمن النبي ، ولو كانت هذه المعركة تنتهي بزمن النبي كان يمكن للنبي أن ينهي المعركة ولا نحتاج إلى من يقودها من بعده ، ولكنه لما كانت هذه القضية هي سنة تحكم حركة التاريخ ، فنحتاج إلى من يقود هذه المعركة ، معركة إزاحة الآلهة المزيفة والمصطنعة أمام الحركة التكاملية للإنسان .

وقيادة هذه المعركة تارة تكون من قبل نبي يقوم بدور الإمام – أيضا – كما في كثير من الأنبياء السابقين التابعين ، وأخرى تكون من قبل الإمام الذي لا يتصف بعنوان النبوة لعدم الحاجة إليها ، ولما كانت الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتمة ، الكاملة ، المحفوظة ، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله لا نبوة بعدها ، اقتضى أن يكون الدور للإمامة التي لا تتصف بالنبوة .

والشواهد على هذه الحقيقة عديدة وليست مجرد الآيات القرآنية التي أشرت إليها ، وإن كانت تكفي هذه الآيات أن تكون شاهدا ودليلا عليها ، ولكن الواقع التاريخي شاهد – أيضا – على هذه الحقيقة ، فإن ظاهرة الاختلاف ظاهرة قائمة وثابتة في التاريخ الإنساني – كما ذكرنا – كما أنها ظاهرة ثابتة في التاريخ الإسلامي في زمن النبي وبعده ، ولا يمكن لأحد من الناس أن ينكرها أو يخفيها ، وهذه القضية ليست مجرد قضية نظرية ، وإنما هي قضية ذات واقع قائم في المجتمع الإنساني والإسلامي كله ، وهذا هو ما نواجهه – أيضا – في هذا العصر والزمان .

 

الإمامة والاختلاف في التأويل

النقطة الثانية : إن الرسالات الإلهية تواجه – عادة مع غض النظر عن الاختلاف الأول الذي ذكرناه في النقطة الأولى – بعد ثبوتها ورسوخ أقدامها نوعا آخر من الاختلاف وهو الاختلاف في تفسير هذه الرسالة ، وفهم مداليلها وتأويلها وتجسيد المصاديق الخارجية فيها ، وهذا نوع آخر من الاختلاف ، أشار إليه القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة التي تحدث فيها عن أهل الكتاب وما اختلفوا فيه من تأويل الكتاب ، منها قوله تعالى : ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار * ذلك بأن الله نزل الكتب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتب لفي شقاق بعيد ) ( 10 )

وقوله تعالى : ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العلمين * وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون ) ( 11 )

كما أن بعض الآيات القرآنية أشارت – أيضا – إلى كلا النوعين من الاختلاف ، كما في قوله تعالى : ( كان الناس أمة وحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ( 12)

وهذا النوع من الاختلاف هو معركة أخرى تخوضها الرسالات الإلهية – عادة – وهو غير الاختلاف الناشئ من تحريف أصل الرسالة بمعنى ضياع بعض معالمها المهمة ، والذي حفظ في الرسالة الإسلامية ، فهو تحريف في التطبيق والفهم ، ويحتاج – أيضا – إلى قيادة معصومة في فهمها الكامل للرسالة وفهم مضمونها وآفاقها ، وفي معرفتها لتفاصيلها التي لا يمكن – عادة – للنبي أن يبينها لجميع الناس – كما تدل على ذلك شواهد كثيرة ( 13 ) – وكذلك معصومة في حرصها على الرسالة وقيمها ومثلها ومبادئها وصبرها واستقامتها في هذا الطريق ، وتحملها لمسؤوليتها وأعبائها .

وقد كان يتم ذلك – أيضا – عن طريق النبوات التابعة من الرسالات الإلهية الأخرى ، أو الأوصياء الذين كانوا يتحملون هذا الدور من الإمامة – أيضا – وأما في الرسالة الخاتمة فقد تمحض هذا الأمر في دور الإمامة .

وهذا النوع من الاختلاف هو الذي يفسر لنا ما ورد في أحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، عندما كان يتحدث مع علي عليه السلام ، وغيره عن مستقبل الأيام في التاريخ الإسلامي وتطورات الأحداث فيه ، حيث كان هناك معركتان إحداهما على التنزيل كان يقودها رسول الله صلى الله عليه وآله في مواجهة المشركين وأهل الكتاب ، ومعركة أخرى هي معركة على التأويل الذي كان يخبر الرسول عن دور الإمام علي عليه السلام في قيادتها ، فقد روى سعيد بن المسيب ، عن سعيد بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله قال : ( يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، تقضي ديني وتنجز عدتي وتقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، يا علي حبك إيمان وبغضك نفاق ولقد نبأني اللطيف الخبير أنه يخرج من صلب الحسين تسعة من الأئمة ، معصومون مطهرون ، ومنهم مهدي هذه الأمة ، الذي يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أوله ( 14 )

إذن ، فهذه المعركة هي قضية حقيقية قائمة في التاريخ الرسالي والتاريخ الإسلامي وقد ذكرها القرآن الكريم على مستوى تاريخ الأنبياء – أيضا – وأكدتها الأحداث التي جرت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله كحقيقة من الحقائق التاريخية ، أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وآله في مستقبل الأيام .

 

الإمامة والولاية

النقطة الثالثة : إن الرسالة الخاتمة امتازت بامتيازات عديدة لم تشبهها الرسالات الإلهية السابقة وكان من جملة الامتيازات في الرسالة الخاتمة – كما ذكرنا سابقا – هو أن الله تعالى شاء أن يحفظ هذه الرسالة بمضمونها الرسالي بصورة كاملة من خلال القرآن الكريم ، ولذا لم تحتاج إلى النبوات التابعة ، أما الرسالات السماوية الأخرى فقد تعرضت للتحريف والضياع ، لأسباب يطول الحديث فيها ( 15 )

وكان أحد الامتيازات المهمة – أيضا – هو أنها تمكنت من أن تقيم الدولة الإسلامية ( الكيان السياسي الإسلامي ) في المجتمع الإنساني في عصر صاحب الرسالة وبعده .

فقد دعت الرسالات السابقة إلى إقامة الحق والعدل بين الناس وإلى تحكيم ما أنزل الله تعالى بين الناس ، فقد قال القرآن الكريم في سياق الحديث عن نزول التوراة :

( . . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، وقال في سياق الحديث عن نزول الإنجيل : ( . . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ، كما قال في سياق الحديث عن نزول القرآن الكريم : ( . . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ( 16 )

إذن ، فقضية الدعوة إلى إقامة الحكم بين الناس ليست خاصة بخصوص الرسالة الإسلامية ، بل أن قضية إقامة الحكم بما أنزل الله بين الناس هي قضية ترتبط بكل الرسالات الإلهية ، ولكن شاء الله تعالى في حركة وتاريخ هذه الرسالات الإلهية أن يقوم الحكم بين الناس كحالة سياسية اجتماعية خارجية ، نعبر عنها بقيام الدولة الإسلامية ، شاء الله تعالى أن يقوم ذلك في خصوص تاريخ الرسالة الخاتمة ، دون بقية الرسالات الأخرى .

فنوح عليه السلام لم يتمكن من تحقيق قيام دولة إسلامية ، ولو بمستوى الإسلام الذي جاء به نوح عليه السلام .

كما أن إبراهيم عليه السلام وهو شيخ الأنبياء لم يتمكن أن يقيم هذا الكيان السياسي الإسلامي ، وموسى عليه السلام شاء الله تعالى أن يقبضه إليه قبل أن يتمكن من إقامة هذا الكيان السياسي الإسلامي ، بعد أن كان قد مهد له بإخراج بني إسرائيل من سلطة فرعون ، وجاء بألواح التوراة ، ليحقق ذلك ، ولكنهم رفضوا الاستمرار في المسيرة ودخول الأرض المقدسة ، لتحقيق هذه المهمة الإلهية الصعبة ، فكتب الله عليهم أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة ( 17 )

وكذلك الحال في النبي عيسى عليه السلام ، حيث رفعه الله قبل أن يحقق هذا الهدف الإسلامي العظيم .

ولم يتمكن الحواريون من أن يقوموا بذلك – أيضا – فولدت الرهبانية والانعزال ، وانحرفت المسيحية على يد بولس ، عندما تحولت إلى الحكم والسلطان والقيصرية .

وشاء الله تعالى أن يكون ذلك من امتيازات نبوة محمد صلى الله عليه وآله .

إذن ، فهذا من الامتيازات الخاصة التي امتازت بها الرسالة الإسلامية ( 18 ) .

إذن ، فعندما تكون من خصائص هذه الرسالة وجود هذه الدولة ، فهذه الدولة تحتاج إلى قيادة تقودها ، وهذه القيادة لا بد أن تكون في منذ البداية معصومة ، لتتخذ الدولة صيغتها الإسلامية الكاملة في التطبيق المتميزة عن الصيغ الأخرى ، وهذا إنما يتحقق من خلال الإمامة .

لأن مثل هذه الدولة ، ومثل هذه التجربة لا يمكن أن تقاد وبصورة كاملة وصحيحة ، بحيث تحقق كل الأهداف التي جاءت بها الرسالة ، إلا بمثل هذه القيادة التي نعبر عنها بالإمامة .

وهنا ينفتح أمامنا باب بحث الخلافة الإلهية ، فإن بحث الخلافة الذي هو من الأبحاث الكلامية المهمة التي يتناولها علماؤنا ، ويستدلون فيها على تشخيص من يتولى الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ويقوم بإدارة هذه الدولة ، هذا البحث فيه بعدان :

بعد يرتبط بالجانب العقائدي وهو استمرار الرسالة في الإمامة وعصمة هذه الإمامة كعصمة الرسالة وهو ما نريد أن نشير إليه في هذه الحديث ، وبعد آخر يرتبط بالجانب التاريخي والسياسي والنصوص التي وردت في ذلك ، والتحولات الاجتماعية والظروف السياسية التي اقترنت بهذا الموضوع ، وهذا البعد له حديث آخر غير هذا الحديث ( 19 ) .

إذن ، فنحن عندما نتحدث عن موضوع الخلافة ، وأن هذه الخلافة لا بد أن يقوم بها الإمام المعصوم ، وتكون تجسيدا واستمرارا للحكم الإلهي النبوي ، عندما نتحدث عن هذا الموضوع ، لا نتحدث عن أمر تاريخي ذهب مع الزمن وانتهى وقته ، وإنما نتحدث عن أمر عقائدي ، يرتبط بفهمنا للإسلام وللرسالة الإسلامية ، ولتكامل هذه الرسالة ، وهذا قضية مهمة جدا .

إذن ، فالنقطة الثالثة في ضرورة الإمامة ، هي ضرورة وجود قيادة معصومة للحكم الإسلامي والكيان السياسي .

لأن هذا الكيان السياسي من أجل أن يكون قادرا على تطبيق الحق والعدل على البشرية بصورة كاملة ودقيقة ، تتناسب مع الهدف الكبير لهذه الرسالة الإسلامية ، لا بد له من وجود قائد معصوم لهذا الكيان السياسي الإسلامي حتى يمكن تحقيق هذا الهدف الكبير ، ولذلك نعتقد بضرورة الإمامة المعصومة من أجل تحقيق هذا الهدف .

 

العصمة والإمام المهدي

نحن نعتقد أنه بسبب عدم تولي الإمامة المعصومة لقيادة الحكم الإسلامي لتحقيق هذا الهدف العظيم في إقامة الحق والعدل الكامل ، شهد التاريخ الإسلامي هذا القدر الكبير من الانحراف في مجال تطبيق العدل والحق ، بحيث جعل الرسالة الإسلامية كلها في موضع الشك والريب بسبب الظلم والاستبداد والطغيان الذي مارسه الحكام المسلمون في عدة قرون من الزمن ، في العهود الأموية والعباسية والعثمانية ، ولولا الفترة القصيرة للقيادة المعصومة لرسول الله صلى الله عليه وآله وللإمام علي عليه السلام التي تمكنت أن تبين الوجه الناصع الحقيقي لطبيعة الحكم الإسلامي ، لكان مواجهة هذه الشبهة واقعيا وعمليا أمرا عسيرا ، ولا سيما وأن فترة الخلافة الأولى بعد رسول الله التي كانت تتسم بالاعتدال النسبي ، شهدت الاضطراب والتذبذب في صيغة الحكم الإسلامي ، وفي النتائج المروعة التي انتهت إليها في خلافة الخليفة الثالث ، ومن هنا كانت وجود فكرة الإمام المنتظر ( عج ) الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ، فكرة مطروحة منذ البداية في الرسالة الإسلامية وهي مما يجمع عليها المسلمون ، وذلك من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير في الحكم والانتشار وفي الكيف والتطبيق الكامل للحكم الشرعي ، وعندئذ تكون كل المساعي التي بذلها أئمة أهل البيت عليهم السلام وهم بعيدون عن قيادة الحكم الإسلامي والتجربة الإسلامية ، وكذلك كل المساعي الأخرى التي بذلها ويبذلها العلماء المجاهدون والمؤمنون في طول التاريخ الإسلامي ، كل هذه المحاولات إنما هي تمهيد لظهور هذه الدولة المباركة الكريمة التي تملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا .

ـــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) عالجنا هذا الموضوع في بحثنا حول خصائص الرسالة الإسلامية ( العالمية ، الخاتمية ، الخلود ) ، ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة البحث المذكور .
( 2 ) المائدة : 3 .
( 3 ) الحجر : 9 ، عالجنا هذا الموضوع في بحث ثبوت النص القرآني من كتابنا علوم القرآن : 99 .
( 4 ) أشرنا إلى هذا الدور في بحث التفسير عند أهل البيت عليهم السلام الذي نشر جانب منه في كتابنا علوم القرآن : 307 .
( 5 ) البقرة : 213 .
( 6 ) اصطلاح استخدمه الشهيد الصدر قدس سره في بحثه حول التفسير الموضوعي ، عندما طرح فكرة المثل الأعلى في العبادة : 184 .
( 7 ) النجم : 23 .
( 8 ) التفسير الموضوعي : 195 – 196 .
( 9 ) هود : 118 – 119 .
( 10 ) البقرة : 174 – 176 .
( 11 ) الجاثية : 16 – 17 .
( 12 ) البقرة : 213 .
( 13 ) ذكرنا هذه الحقيقة مع بعض شواهدها في بحثنا عن التفسير في زمن النبي ( علوم القرآن ) وفي بحثنا عن التفسير عند أهل البيت ، وسوف نتناول هذا الموضوع مرة أخرى بصورة تفصيلية في البحث عن المرجعية الفكرية لأهل البيت عليهم السلام.
( 14 ) البحار 36 : 331 ، حديث 190 ، وقد ورد مضمون القتال على التأويل والقتال على التنزيل في عدد من النصوص التي رواها الفريقان .
( 15 ) لا أريد أن أتعرض هنا إلى جميع امتيازات الرسالة الخاتمة على الرسالات السابقة ، وقد أشرت إلى بعض هذه الامتيازات في بحث ( العالمية والخاتمية والخلود ) في رسالة الإسلام ، ولكن أريد أن أشير هنا إلى الامتيازات التي هي محل الشاهد في بحثنا هذا .
( 16 ) المائدة : 44 و 45 و 47 .
( 17 ) وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة المائدة الآيات 21 – 26 .
( 18 ) هذا بحث عميق وفيه الكثير من التفاصيل ، وقلت إنني أشير هنا إلى العناوين الكلية ، ومن هذه التفاصيل تفسير ظاهرة قيام الدول التي أقامها بعض الأنبياء ، كداود وسليمان عليهما السلام ، وغيرهما من الأنبياء الذين أقاموا دولا ، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك ، عندما يتحدث عن تفضيل ونعم الله على بني إسرائيل بقوله تعالى :
( . . . إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا . . . ) ، المائدة : 20 ، فإن بعض هؤلاء الأنبياء أقاموا دولة ، ولكن هذه الدولة التي أقاموها تختلف بحسب مضمونها وهويتها وخصوصياتها عن هذه الدولة الإسلامية التي أقامها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ليس بحسب سعتها ودائرة وجودها وتفاصيلها ، بل بحسب الهوية والمضمون – أيضا – وهذا بحث أشرت له بصورة موجزة – أيضا – في بحث ( العالمية والخاتمة والخلود ) كصفات للرسالة الإسلامية .
( 19 ) سوف نتناوله بشئ من التفصيل ، عندما نتحدث عن دور أئمة أهل البيت في قيادة الحكم الإسلامي .