مناظرة التيجاني(۱) مع أحد العلماء في الجبر
قلتُ لبعض علمائنا بعد استعراض كل هذه المسائل (۲) : إن القرآن يكذّب هذه المزاعم ، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن ! قال تعالى في شأن الزواج: ( فَانِكحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِسَاءِ ) (۳)فهذا يدلّ على حرية الاختيار ، وفي شأن الطلاق : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ ) (۴) وهو أيضاً اختيار ، وفي الزنا قال : ( وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سبيلاً ) (۵)وهو أيضاً دليل الاختيار ، وفي الخمر قال : ( إنّما يُريدُ الشَّيطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوةَ والبَغْضَاءَ في الخَمْرِ وَالمَيْسرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أنْتُم مُنْتَهُونَ ) (۱) وهي أيضاً تنهى بمعنى الاختيار.
أمّا قتل النفس فقد قال فيها : ( وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالحَقِّ ) (۲) وقال : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فيها وَغَضِبَ اللهُ عليه وَلَعَنَهُ وَأعَدَّ له عَذَاباً عظيماً ) (۳) فهذه أيضاً تفيد الاختيار في القتل.
وحتّى بخصوص الاَكل والشرب فقد رسم لنا حدوداً فقال : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفينَ ) (۴) فهذه أيضاً بالاختيار.
فكيف يا سيدي بعد هذه الاَدلّة القرآنية تقولون بأن كل شيء من اللّه ، والعبد مسيّر في كل أفعاله ؟؟.
أجابني: بأنّ الله سبحانه هو وحده الذي يتصرّف في الكون واستدلّ بقوله: ( قُل اللّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤتي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك ممّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاء وتُذِلُّ مَنْ تشاء بيدِك الخيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ ) (۵).
قلتُ: لا خلاف بيننا في مشيئة الله سبحانه ، وإذا شاء الله أن يفعل شيئاً ، فليس بإمكان الاِنس والجنّ ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته ! وإنّما اختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم أم من الله ؟؟
أجابني: لكم دينكم ولي ديني ، وأغلق باب النقاش بذلك ، هذه هي في أغلب الاَحيان حجّة علمائنا.
وأذكر أني رجعتُ إليه بعد يومين وقلتُ له : إذا كان اعتقادك أنّ الله هو الذي يفعل كل شيء ، وليس للعباد أن يختاروا أي شيء ، فلماذا لا تقول في الخلافة نفس القول ، وأن الله سبحانه هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ؟
فقال: نعم أقول بذلك ، لاَن الله هو الذي اختار أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليه السلام ، ولو شاء الله أن يكون علي هو الخليفة الاَول ما كان الجنّ والاِنس بقادرين على منع ذلك. (۱)
قلتُ: الآن وقعت.
قال: كيف وقعتُ ؟
قلتُ: إمّا أن تقول بأنّ الله اختار الخلفاء الرّاشدين الاَربعة ، ثم بعد ذلك ترك الاَمر للناس يختارون من شاؤوا.
وإما أن تقول : بأن الله لم يترك للناس الاختيار ، وإنّما يختار هو كل الخلفاء من وفاة الرسول إلى قيام الساعة؟
أجاب: أقول بالثاني ( قُل اللّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ ممّن تَشاءُ… ) (۱).
قلتُ: إذاً فكلّ انحراف وكل ضلالة وكل جريمة وقعت في الاِسلام بسبب الملوك والاَمراء فهي من اللّه ، لاَنّه هو الذي أمّر هؤلاء على رقاب المسلمين؟
أجاب : وهو كذلك ، ومن الصالحين من قرأ : ( وَإذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْية أمَّرْنا مُتْرَفِيهَا ) (۲) أي جعلناهم أمراء.
قلتُ متعجّباً : إذاً فقتلُ علي عليه السلام على يد ابن ملجم ، وقتل الحسين بن علي عليه السلام أراده الله ؟؟
فقال منتصراً: نعم طبعاً ـ ألم تسمع قول الرسول لعلي : «أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتلّ هذه ، وأشار إلى رأسه ولحيته (۳) كرّم اللّه وجهه».
وكذلك سيدنا الحسين عليه السلام قد علم رسول اللّه صلى الله عليه وآله بمقتله في كربلاء، وحدّث أم سلمة بذلك (۱) ، كما علم بأن سيدنا الحسن سيصلحُ اللّه به فرقتين عظيمتين من المسلمين(۲) ، فكل شيء مسطر ومكتوب في الاَزل ، وليس للاِنسان مفرّ ، وبهذا أنت الذي وقعتَ لا أنا.
سكتُّ قليلاً أنظر إليه وهو مزهوٌ بهذا الكلام ، وظنّ أنه أفحمني بالدليل؛ كيف لي أن أقنعه بأنّ علم اللّه بالشيء لا يفيد حتماً بأنّه هو الذي قدّره وأجبر النّاس عليه، وأنا أعلم مسبقاً بأن فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية.
وسألته من جديد: إذاً فكلّ الرؤساء والملوك قديماً وحديثاً والذين يحاربون الاِسلام والمسلمين نصّبهم اللّه ؟!
قال : نعم بدون شك.
قلتُ : حتّى الاستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من اللّه!؟
قال : بلى ، لمّا جاء الوقتُ المعلوم خرجت فرنسا من تلك الاَقطار.
قلتُ : سبحان اللّه ! فكيف كنت تدافع سابقاً عن نظرية أهل السنّة بأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله مات وترك الاَمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاؤون ؟
قال : نعم ، ولا زلتُ على ذلك ، وسأبقى على ذلك إن شاء اللّه !
قلتُ : فكيف توفّق بين القولين : اختيار اللّه واختيار الناس بالشورى ؟
قال : بما أن المسلمين اختاروا أبا بكر فقد اختاره اللّه !
قلتُ : أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلّهم على اختيار الخليفة ؟
قال : أستغفر اللّه ، ليس هناك وحي بعد محمّد صلى الله عليه وآله (والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا وإنما هي تهمة ألصقها بهم أعداؤهم).
قلتُ : دعنا من الشيعة ، وأقنعنا بما عندك ! كيف علمت بأن اللّه اختار أبابكر ؟
قال: لو أراد اللّه خلاف ذلك لما تمكّن المسلمون ، ولا العالمون خلاف ما يريده اللّه تعالى.
عرفتُ حينئذ أنّ هؤلاء لا يفكّرون ، ولا يتدبّرون القرآن، وعلى رأيهم سوف لن تستقيم أية نظرية فلسفية أو علمية (۱).
————————————————————-
(۱) هو : الدكتور محمد التيجاني السماوي التونسي، حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون ـ باريس، وكان على مذهب الاِمام مالك بن أنس، وأخيراً اعتنق المذهب الشيعي بعد بحث طويل في تحقيق مسائل الخلاف بين المذاهب الاِسلامية وقد جرت بينه وبين العلماء مناظرات كثيرة في المسائل الخلافية وقد شرح كيفية استبصاره، والاَسباب التي دعته إلى الاَخذ بمذهب أهل البيت عليهم السلام في كتابه الشهير (ثم اهتديت).
(۲) يعني المسائل المرتبطة بمسائل الجبر.
(۳) سورة النساء: الآية ۳
(۴) سورة البقرة : الآية ۲۲۹٫
(۵) سورة الاِسراء: الآية ۳۲٫
(۶) سورة المائدة : الآية ۹۱٫
(۷) سورة الاَنعام : الآية ۱۵۱٫
(۸) سورة النساء: الآية ۹۳٫
(۶) سورة الاَعراف: الآية ۳۱٫
(۱۰) سورة آل عمران : الآية ۲۶٫
(۱۱) من الواضح أنه خلط بين الاِرادة التكوينية والاِرادة التشريعية ، ولم يفرق بينهما ـ حتى لجأ للقول بمقالة المجبرة ـ والفرق بينهما إن متعلق الاِرادة التكوينية لا يتخلف عنها في الخارج أبداً، قال تعالى : ( وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) البقرة | ۱۱۷ ، وقال تعالى: ( ولو شاءَ ربُكَ لآمنَ مَنْ في الاَرض كلهم جميعاً ) يونس | ۹۹ ، فلا يتخلف المراد فيها عن الاِرادة، أما الاِرادة أو المشيئة التشريعية فهي تتعلّق بالمكلّفين وأفعالهم ، فليست خارجة عن إرادتهم واختيارهم ، فبقدرتهم إطاعة الله تعالى غير ملجئين عليها فيثيبهم الله ، وبإمكانهم معصيته باختيارهم غير مجبرين عليها فيعاقبهم الله ، ولو أن الله تعالى أجبر العباد على الطاعة أو على المعصية ـ تعالى الله عن ذلك ـ لبطل الثواب والعقاب ، بل أمرهم ونهاهم تشريعاً لا تكويناً. أما بالنسبة للمثال المذكور في المناظرة ، فنقول : إن الله تعالى أراد أن يكون الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الخليفة الشرعي للنبي صلى الله عليه وآله تكويناً ، فلا بد أن يكون الاِمام بارادة الله تعالى ومشيئته ، رضي الناس بذلك أم لم يرضوا ! وأما اتباع الناس له وطاعتهم له فهو متعلق بالاِرادة التشريعية ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم ) فلا جبر فيها ، فشأن أولئك الذين خالفوا أمر الله تعالى في أوليائه وأوصيائه ، شأن تلك الاَمم السالفة التي عصت الرسل وكذبوهم بل هناك من الاَمم من قتلت أنبياءها ، كما حصل في بني إسرائيل الذين قتلوا سبعين نبياً في ساعة واحدة ، فهل يقال : إن الله تعالى أراد من بني إسرائيل قتل الاَنبياء تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، هذا وكل شيء بمشيئته غير خارج عنها بمعنى أنه لو أراد تكويناً عدم وقوعها في الخارج لما وقعت ، وجرت حكمته تعالى في خلقه أن يمتحنهم بعدما هداهم السبيل ( إنا هَديناهُ السبيلَ إما شَاكراً وإما كفورا ) غير مكرهين على الفعل ولا مجبورين على عدمه ، بل هو أمر بين أمرين كما في الاَخبار.
(۱۲) سورة آل عمران : الآية ۲۶٫
(۱۳) سورة الاِسراء : الآية ۱۶٫
(۱۴) ترجمة الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر : ج ۳ ص ۳۴۲ ح ۱۳۸۹ ـ ۱۳۹۲ ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج ۴۲ ص ۱۹۵ ح ۱۳٫
(۱۵) راجع : مقتل الحسين للخوارزمي : ج ۱ ص ۱۵۹ ـ ۱۶۳ ، ترجمة الاِمام الحسين عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر : ص ۲۴۷ ـ ۲۵۹ ح ۲۲۱ ـ ۲۲۸ وص ۲۷۰ ح ۲۳۶٫
(۱۶) راجع : بحار الاَنوار : ج ۴۳ ص ۲۹۳ ح ۵۴ ، فرائد السمطين للجويني : ج ۲ ص ۱۱۵ ح۴۱۸، ترجمة الاِمام الحسن عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر : ص ۸۳ ح ۱۴۳ وص ۱۲۵ ـ ۱۳۴ ح ۲۰۰ ـ ۲۲۳٫
(۱۷) مع الصادقين للدكتور التيجاني السماوي : ص ۱۳۳ و ۱۳۸٫