الوعد الحق في شهادة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

الوعد الحقّ
في شهادة أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)(*)

منذ أن بزَغَ نورُ الإسلام ونورُ المصطفى محمّد (صلّى الله عليه وآله) كان الإمامُ عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) قرينَ الحقّ الذي لا يفارقه , فبلغ في بصيرته أرقى الدرجات , ووصل في يقينه إلى أعلى المقامات , ولكنّه حُسِد ؛ إذ كلُّ موهوبٍ محسود كما قال هو (سلام الله عليه) .

ولم يقف الأمر عند الحسد , بل تفاقم حتّى تحوّل إلى تفكير جادٍّ باغتيال تلك الشخصيّة الإلهية المتفرّدة , وكان الباطل دائماً يكيد بالحقّ , كما هو دأب الشرّ يكيد دوماً بالخير , ويتحيّن الفرصة للغدر وللقتل ؛ لأنّ عليّاً (عليه السّلام) قد مُلئ خيراً من قَرنِه إلى قَدَمِه , ولأنّ الحقّ تجسّد فيه حتّى قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( عليٌّ مع الحقّ , والحقّ مع عليّ )) , ودعا له ـ ودعوته بالغةٌ مستجابة ـ : (( اللهمّ أدِرِ الحقَّ معه حيث دار ))(1) .

وكأنّ الإمام عليّاً (عليه السّلام) صار متَّبَعاً والحقَّ تابعٌ له , وكأنّه (سلام الله عليه) صار أوضحَ من الحقّ , أو أنّه أصبح هو الحقّ في أجلى مصاديقه , حتّى إنّ الحقّ الذي يطلبه الناس لا بدّ لهم أن يعرفوه من خلال عليّ (سلام الله عليه) ؛ لأنّ الحقّ أصبح ـ بدعوةٍ نبويّة مستجابة ـ يدور مع عليّ حيثما دار عليّ (عليه السّلام) .

ومن هنا أخذ الباطل يجنّد أهله ويُثير في دفائنهم كلَّ حقدٍ وحسد , وغِلٍّ وثأرٍ ؛ ليكونوا جادّين غير متردّدين في اغتيال الحقّ الذي تجسّد في الإمام عليّ (عليه السّلام) وتمثّل فيه . والإثارة لا بدّ منها , والحسد أحد المُثيرات المؤثّرة حتّى تأتي الساعة المناسبة .

لمّا نزل قوله تعالى : (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) , قال عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) : (( علمتُ أنّ الفتنة لا تنزلُ بنا ورسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) بين أظْهُرنا , فقلت : يا رسول الله , ما هذه الفتنة التي أخبرك اللهُ تعالى بها ؟ فقال : يا عليّ , إنّ أُمّتي سيُفتَتنون مِن بعدي . فقلتُ : يا رسول الله , أوَ ليس قُلتَ لي يومَ أُحد : أبشِرْ ؛ فإنّ الشهادة مِن ورائك ؟ فقال لي : إنّ ذلك لَكذلك , فكيف صَبرُك إذَاً ؟ فقلت : يا رسول الله , ليس هذا مِن مَواطِن الصبر , ولكنْ من مَواطِن البُشرى والشكر )) .

وتستمّر البشائر وافدةً على الإمام عليّ (عليه السّلام) أنّه المظلوم بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّه لم يكن ظالماً يوماً لأحدٍ قط , حاشاه وألف حاشاه , وأنّه لا بدّ يوماً أن يُغتال عاجلاً أو آجلاً , قَصُر الزمن به أم طال , ولكن : على أيّة حال , وكيف , وأين , ومتّى ؟

يروي محمّد بن مسلم ـ كما في تُحفة المحبّين ـ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال للإمام عليّ (عليه السّلام) يوماً : (( إنّ الأُمة ستغدر بك من بعدي , وأنت تعيش على مِلّتي , وتُقتَل على سُنّتي , وإنّ هذا ـ وأشار إلى وجهه ـ سيُخضَب من هذا ـ وأشار إلى رأسه ـ )) .

وأية بشارة تلك ؟! شرف الخاتمة بأفضل الميتات , وهي الشهادة على حُسن العاقبة وعافية الإيمان وسلامةٍ في الدين , فيَزِفُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) البُشرى البهيجة لأحبِّ الناس إليه . إنّه المقتول على سُنّته بعد حياةٍ كريمةٍ يقضيها على ملّته , ولكنْ متّى يا رسول الله ؟

يروي لنا الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السّلام) أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) خطب مُستقبِلاً شهرَ رمضان , ذاكراً فضائل هذا الشهر , قائلاً : (( أيُّها الناس , إنّه قد أقبَلَ إليكم شهرُ الله بالبركة والرحمة والمغفرة ... )) , وبعد فقرات وعبارات من خطبته الشريفة قام أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) فقال : (( يا رسول الله , ما أفضلُ الأعمال في هذا الشهر ؟ )) . فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( يا أبا الحسن , أفضل الأعمال في هذا الشهر الورَعُ عن محارم الله (عزّ وجلّ) )) .

وهنا ينفجر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء , فيسأله الإمام عليّ (عليه السّلام) : (( يا رسول الله , ما يُبكيك ؟! )) . فقال ووجهه يتلألأ بالدموع , وصوته الحزين يصل إلى مسامع المسلمين في المسجد : (( يا عليّ , أبكي لِما يُستحَلّ منك في هذا الشهر . كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك ... وقد انبَعثَ أشقى الأوّلين والآخِرين , شقيقُ عاقِرِ ناقةِ ثمود , فضَربَك ضربةً على قَرنِك , فخَضَب منها لحيتَك )) .

وهنا كان للإمام عليّ (عليه السّلام) سؤاله الأوحد : (( يا رسول الله , وذلك في سلامة من دِيني ؟ )) . فقال (صلّى الله عليه وآله) يبشّره أيضاً : (( في سلامة من دِينك )) .

وتقترن البشارة بعَرض الظُّلامة وبيان المأساة التي ستحلّ بأهل البيت النبويّ ثمّ بالمسلمين ؛ إذ سيُحرَمون من ذلكم الوجود الإلهيّ الشريف على الأرض بعد أن كان فرصة عظمى لهم لأن يتنعّموا بعلومه وحِكَمه وأنفاسه القدسيّة العابدة لله تبارك وتعالى .

وطالما قالها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسَمِعَتْها الآذان وتناقلها الناس , مخاطباً وصيَّه وخليفته في أُمّته : (( إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي ))(2) , (( أما إنّك ستَلقى بعدي جَهداً ))(3) .

وفي حِلْية الأولياء يروى مؤلِّفه الحافظ أبو نعيم الإصفهانيّ بسنده عن أبي برزة قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ الله تعالى عَهِد إليّ عهداً في عليّ , فقلتُ : يا ربِّ , بَيِّنْه لي . فقال : اسمَعْ . فقلت : سَمِعت . فقال : إنّ عليّاً رايةُ الهدى , وإمامُ أوليائي , ونورُ مَن أطاعني , وهو الكلمة التي ألزَمْتُها المتّقين . مَن أحَبّه أحبّني , ومَن أبغضه أبغضني , فبَشِّره بذلك .

فجاء عليّ ( والحديث للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) ) فبشّرتُه , فقال : يا رسول الله , أنا عبدُ الله وفي قبضته , فإن يُعذّبني فبِذَنْبي , وإن يُتمَّ ليَ الذي بشَرتَني به فالله أولى به )) . قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( قلت : اللهمّ اجْلُ قلبَه , واجعَلْ ربيعَه الإيمان . فقال الله : قد فَعَلتُ به ذلك . ثمّ إنه رفع إليّ أنّه سيخصّه من البلاء بشيء لم يخصّ به أحداً من أصحابي , فقلت : يا ربِّ , أخي وصاحبي ! فقال : إنّ هذا شيء قد سبق , إنّه مبتلىً ومبتلىً به ))(4) .

وفي تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ , وكنز العمّال للمتّقي الهنديّ , عن عليٍّ (عليه السّلام) قال : (( بَيْنا رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) آخِذٌ بيدي ونحن نمشي في بعض سِكك المدينة , فمَررنا بحديقةٍ , فقلت : يا رسول الله , ما أحسَنَها مِن حديقة ! قال : لك في الجنّة أحسَنُ منها . حتّى مَرَرنا بسبعِ حدائق , كلُّ ذلك أقول : ما أحسَنَها ! ويقول : لك في الجنّة أحسنُ منها . فلمّا خلا له الطريق اعتنَقَني ثمّ أجهَشَ باكياً , قلت : يا رسول اللهِ , ما يُبكيك ؟! قال : ضَغائنُ في صدورِ أقوامٍ لا يُبدونها لك إلاّ مِن بعدي . قلت : يا رسول الله , في سلامةٍ من ديني ؟ قال : في سلامةٍ من دِينك ))(5) .

وقالت عائشة : رأيتُ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) التزمَ عليّاً وقَبَّله , و [هو] يقول : (( بأبي الوحيد الشهيد ))(6) .

كما نقل لنا جابر بن سَمُرة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ (عليه السّلام) : (( إنّك مُستخلَفٌ مقتول , وإنّ هذه مخضوبةٌ مِن هذا )) , أي لحيتك مخضوبة من رأسك(7) .

وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على يقينٍ ممّا سيجري عليه , وقد فوّض أمره إلى بارئه , ولم يتجاوز حدود الله تعالى , فكم روَوا أنّه (عليه السّلام) قرأ لابن ملجَم عبد الرحمان المرادي هذا البيت :

أُريـدُ حـيـاتَـه ويُريـد قتلي     عَذيرك من خليلك من مرادي(8)

وقد سمعه الناس يقول مشيراً إليه : (( أمَا إنّ هذا قاتلي )) . فقالوا له : فما يمنعك منه ؟ أي من معاقبته . قال : (( إنّه لم يَقتُلني بعد )) .

أجَل , لم يتجاوز فيقيم حدّاً أو قصاصاً قبل الجناية .

وكان (عليه السّلام) يعلم بمنيّته التي اختارها الله تعالى له ؛ في أشرف البقاع : المسجد , وفي أشرف الشهور : شهر رمضان , وفي أشرف الليالي : ليلة القدر , وفي أشرف الحالات : السجود . وقد اشتهر الحديث الشريف : (( أقرَبُ ما يكونُ العبدُ من الله (عزّ وجلّ) وهو ساجد )) .

وقد حلّت تلك الليلة التي وُعِد بها , فأكثرَ (عليه السّلام) الخروج والنظر إلى السماء , هكذا يذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة مضيفاً : فلمّا كانت الليلة التي قُتل في صبيحتها , جَعَل يقول : (( واللهِ ما كذِبتُ ولا كُذِّبتُ , وإنّها الليلة التي وُعِدتُ )) . فلمّا خرج وقت السَّحَر ضربه ابن ملجَم الضربةَ الموعود بها(9) .

وقد تقدّم للشهادة مرّاتٍ وكرّات , وتمنّاها خاتمةً طيّبة حتّى أراح خاطرَه الشريف رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) وبَشّره بها , فإذا تقدّم لها في موعدها الحقّ قال (عليه السّلام) متوجّهاً بروحه القدسيّة إلى الله تبارك وتعالى : (( اللهمّ بارِكْ لنا في الموت . اللهمّ بارك لنا في لقائك )) . فإذا هبط السيف الظالم على رأسه الشريف صاح : (( فُزتُ وربِّ الكعبة )) . لكنّ جبرئيل (عليه السّلام) هتف مرهوباً بين الأرض والسماء : تهدّمت واللهِ أركانُ الهدى !

فسلام عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تُبعث حيّاً

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تجدر الإشارة إلى أنّ هذا المقال قد اُخذ عن موقع شبكة الإمام الرضا (عليه السّلام) , مع مراجعة وضبط النص (موقع معهد الإمامين الحسنين)
1 ـ صحيح الترمذيّ 2 / 298 , التفسير الكبير ـ للفخر الرازيّ ـ في تفسير البسملة .
2 ـ مستدرك الصحيحين ـ للحاكم 3 / 142 .
3 ـ مستدرك الصحيحين 3 / 140 .
4 ـ حِلْية الأولياء 1 / 66 .
5 ـ تاريخ بغداد ـ للخطيب البغداديّ 12 / 398 , كنز العمّال ـ للمتّقي الهنديّ 6 / 408 .
6 ـ مجمع الزوائد ـ للهيثميّ 9 / 137 .
7 ـ كنز العمّال 6 / 398 .
8 ـ طبقات ابن سعد ـ القسم الأوّل 3 / 22 , الاستيعاب ـ لابن عبد البَرّ 2 / 470 .
9 ـ الصواعق المحرقة / 80 .