في ذكرى شهادة أمير المؤمنين (عليه السّلام)

في ذكرى شهادة أمير المؤمنين (عليه السّلام)(*)

كانت ولا زالت صلاة الصبح مصدراً لراحة القلب وفرحة المؤمن في أوّل يومه بمناجاة ربّه , وطلب الرحمة والمغفرة والرزق له ولباقي المؤمنين ؛ ركوع وسجود في هدوء , يسبقها انعاش الوجه الذي أطبق عليه النعاس بماء طهور ؛ استعداداً للقاء الحبيب , وترديد كلامه على شفاه العبد الراجي العفو والمغفرة .

هذه السكينة لا يمكن أن يعكّر صفوها أيُّ شيء في هذه الدنيا , وهي محافظة على روعتها كلَّ أيام السنة , باستثناء صباح يوم التاسع عشر من رمضان , والذي نصحو فيه وقلوبنا تسأل دقّات الساعة أن تتوقف حتّى لا تدرك وقتاً اختاره أشقى الاشقياء للغدر بأتقى الأتقياء , إلاّ أنّها لا تستجيب لنداء القلب الحزين على مصاب أميره .

ها هو الآذان ينفذ إلى المسامع ليصل إلى الشهادة الثالثة ( أشهد أنّ علياً ولي الله ) , ولتكون سهماً يصوّب نحو سحاب الدموع المنتظرة لها , ولتبكي أميراً للمؤمنين , وقائداً للغرِّ المحجلين , وأباً للأئمة المعصومين , وزوجاً لسيدة نساء العالمين , وابن عمِّ سيد المرسلين .

وبينما تلك الدموع تترجم ما في القلب من ألم يستأذنها اللسان ؛ ليلعن ذاك الشقي وتلك الشقية التي لم تطلب مهراً إلاّ قتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) , فأي لعنة تناسب هؤلاء الأشقياء ؟ وأي كلمات تصف هذا الموقف ؟ وأي سيف ارتضى أن يخضّب تلك الشيبة المهيبة ؟ وأي شقي لا تهزّه تلك السجدة التي يخفق لها لبُّ الأرض وتحنّ لها السماوات والأكوان ؟

أميري وسيدي ومولاي , اعذرني ؛ فالكلمات تفرّ منّي , وما عساني أن أكتب ؟! أأكتب مناقب شاهدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عندما عُرج به إلى السماء , محمولة على جمال لا حصر لها , وعندما سأل عنها قالت الملائكة : إنها مناقب علي بن أبي طالب ؟ أم أتّجه إلى اُمِّ الأحزان سيدتي ومولاتي زينب (عليها السّلام) , وهي مرتدية وشاح الحزن , ومعزية في مصاب أبي الحسن (عليه السّلام) , لاُخبرها بأنه أيتم كلَّ المسلمين حتّى مَن ولد بعد استشهاده بمئات السنين ؟

آه يا سيدتي ! سيمر عليك العيد حزينة في دارك على مصاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) , يتيمة الاُمِّ والأب في الكوفة التي لم تقدّر بأنّ مَن حكمها لفترة دنت من الخمس سنوات أنّه لن يتكرر , ولو أنّها أدركت لما ارتضت أن تواريه في ثناياها .

أكاد أرى دموعك وتساؤلاتك , وحزنك ومواساتك للحسن والحسين والعباس (عليهم السّلام) , ومواسات اُمِّ البنين لكم .

مولاتي , أنتي اليوم في دارك وبين إخوتك , لكن ماذا عن الطفِّ مولاتي ؟! حيث العراء , وقلة النصرة , وإخوة قُطعت رؤوسهم , وأهلون قُطعت أوصالهم عطشاً ووطأتها الخيل !

وماذا عن العودة إلى الكوفة التي كانت مهيبة بأمير المؤمنين (عليه السّلام) ؟ كيف أُدخلتِ إلى هناك سيدتي ؟ والله لو بكيتُ لما لقيتِ ليلَ نهار لن اُوفي لسيدةٍ تحمّلت كلَّ هذا في سبيل رفعة الإسلام .

اليوم إرتأيت أن أختار وصية أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن (عليهما السّلام) ؛ لنندب أنفسنا كيف أنها تُحب ولا تُطيع , تلهج باسم عليٍّ ولا تنفذ الوصية , وهي موجّهة لسائر المؤمنين ! واختيار لفظة (مؤمنين) من قِبل الأمير تؤكّد أنّ هذه الوصية لا يمكن أن تنفذ من قِبل كلِّ الناس , باستثناء المؤمنين , وإلاّ لقال : (المسلمين) , إلاّ أنه اختار نخبة منهم . فمِن مسلم , إلى مؤمن , إلى موقن , يكون تعاقب عمق الإيمان في نفوس الناس .

وصية الإمام للحسن والحسين (عليهم السّلام) لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله)

(( أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ , وَأَلاّ تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا , وَلا تَأْسَفَا عَلَى شَيْ‏ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا , وَقُولا بِالْحَقِّ , وَاعْمَلا لِلأَجْرِ , وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً , وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً .

أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ , وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ , وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ : صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ .

اللَّهَ اللَّهَ فِي الأَيْتَامِ , فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ , وَلا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ .

وَاللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ , مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ .

وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ , لا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ .

وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلاةِ ؛ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ .

وَاللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ , لا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ ؛ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا .

وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ , وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ . لا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ , فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ .

ثُمَّ قَالَ‏ : يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً , تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . ألا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلاّ قَاتِلِي . انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ , وَلا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ : إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ )) .

أين أنت يا أبا الحسن ؟! أين أنت أيّها الحجة ابن الحسن (عليكما السّلام) ؟! أين أين ؟ هذه الأسطر من وصيّتكم سيدي أثارت أحزاني , فأين صاحب الثار المحمّدي ؟ لقد طالت غيبته , وطال انتظارنا . أين أنت يا حامي الجار لترى ما يحدث الآن ؟!

* توصينا بالاعتصام بحبل الله ونحن نضرب أرقى الأمثلة في الفرقة والتشتت !

* توصينها بصلة الأرحام وقد قطعت بعضها بعضاً !

* توصينا بالأيتام وأيتامنا تجاوزوا من الآلاف إلى الملايين عدداً بفضل من يحملون هوية الإسلام .

* توصينا بالقرآن وقد كُتب بأمر الطاغية , ومباركة علماء السوء بالدم النجس في جريمةٍ نسي الجميع أن يوجّهها للطاغية . ولو أنّها الجريمة الوحيدة التي يحاسب عليها لكانت كافية لحرقه لا لشنقه !

* توصينا بالجيران وقد هدد البعض البعض الآخر , واستلبوا أموالهم وأرواحهم .

* توصينا بالصلاة والزكاة والصوم وقد هُدمت المساجد ودورُ العبادة , وقُتل الصائمون في شهر الله , وبأيدِ المسملين ذاتهم ؛ ليضمنوا عند رسول الله إفطاراً فاخراً !

* توصينا بالجهاد بالأنفس والمال والألسن وقد توانى الكثيرون عن الجهاد رغم التنوع الذي ذكرت يا مولاي , فحتى الألسن قد صمتت عن الحق ولو بإيماءة إلاّ ما ندر .

* توصينا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , إلاّ أنّ النهي غدا مقروناً بالمعروف , والأمر صار قريناً للمنكر !

آه يا سيدي ومولاي ! لم تزل تقول : لا إله إلاّ الله حتّى مضيت بقربه مظلوماً محتسباً , غير أننا نخشى يا مولاي غضب الله علينا بعد كلِّ هذا , وما لنا أن نفعل يا مولاي ؟! وهل هو ذنبنا أننا وجدنا في زمان كثر فيه الفساد حتّى غدا البر مذموماً ؟! ليس لنا إلاّ قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يصف زماننا , ويوصينا بالصبر وانتظار الفرج .

اللهمَّ بحقِّ هذه الليالي والأيّام فرّج لمولانا الحجة ابن الحسن (عليه السّلام) , وفكَّ كرب الموالين والمظلومين , وشافي مرضانا بحقِّ مريض كربلاء زين العابدين (عليه السّلام) .

ــــــــــــــــــ
(*) تجدر الإشارة إلى أنّ هذا المقال قد اُخذ عن موقع قناة الفرات الفضائية , مع تصرف ومراجعة وضبط النص (موقع معهد الإمامين الحسنين)